الكنيسة المارونية والقضايا الاقتصادية

مقدّمة

أوّلاً: الاقتصاد في صلب اهتمامات الكنيسة

  1. من الأمور الّتي أتت بها الأديان التوحيديّة نظرتها إلى الحياة الاقتصاديّة، نابعة من نظرة الله بالذّات. فالله الذي منح الإنسان الأرض وخيراتها، أبان له حين أخرج آدم من الجنّة ما سوف يتكبّده من تعبٍ في سبيل تأمين قوته وحاجاته الماديّة. فدخلت تبعًا لذلك في صلب تعاليم الديانة المسيحيّة تشريعات ومبادئ وقواعد أخلاقيّة، كان همّ الكنيسة من وضعها تنظيم حياة الإنسان الاقتصاديّة والماديّة وفقًا لإرادة الله، فيحصّل المرء بواسطة العمل الجادّ والدؤوب والخلاّق، ما يحتاجه. لهذا حرّمت الكنيسة، بكلّ صراحة، عمليّات الرِبا واستغلال القويّ للضعيف، وكلّ أنواع الكسب غير المشروع، أيّ الذي لا يتولّد من تعب الإنسان وعمله الإنتاجيّ.
  2. نذكّر هنا بتعاليم المسيح في الشؤون الاقتصاديّة والاجتماعيّة. فقد كان يبدي باستمرار العطف على الفقراء والمهمّشين من النساء والرجال وهذا ما توقف عنده القدّيس توما الأكوينيّ الذي بناء على أفكاره، طوّرت الكنيسة الكاثوليكيّة، على مرّ العصور، موقفها من الشؤون الاقتصاديّة والاجتماعيّة. وبالفعل، تدين الحضـارة الحديثة للفيلسوف القديس بمفهوم “الصالح العامّ”[1] وبما طرحه من أفكار في هذا الموضوع حالت دون قهر الإنسان وحرمانه من التمتّع الشرعيّ بالخيرات المشتركة بين البشر. والكنيسة على الرغم من أنّها تدافع عن المبادرة الفرديّة والملكيّة الخاصة، تُخضع الأعمال الاقتصاديّة لمبدأ الصالح العام، ولنظرةٍ روحيّةٍ سامية، وتدعو إلى أن تكون التنمية الاقتصاديّة والتقدّم التقنيّ في خدمة الإنسان والمجتمع، لا وسيلةً في أيدي بعض الناس لاستغلال الآخرين.
  3. وظلّت الكنائس، على مدى قرونٍ عديدة، تضطلع بدور اقتصاديّ واجتماعيّ وثقافيّ هامّ، إذ ظلّت الأديرة مراكز لحفظ الثقافة ونشرها، بخاصة بعد انهيار الإمبراطوريّة الرومانيّة، كما بقيت مراكز اقتصاديّةً وإنتاجيّةً هامّة. ثم تلاشى مع الزمن هذا الدور في المجتمعات الأوروبيّة، وبخاصة، منذ عصر النهضة وصعود قوّة الدول والممالك وانتشار التعليم خارج الأطر الكنسيّة. وإبَّان الثورة الصناعيّة في أوروبا قامت الكنائس الغربيّة بدور عظيم فتدخلت لدى أصحاب المؤسّسات الصناعيّة لكي يعاملوا عمّالهم معاملة إنسانيّة، ويؤمّنوا لهم الحدّ الأدنى من الحياة الكريمة، بحسب تعاليم المسيح. كما ساعدت الكنيسة العمّال والفقراء على تنظيم أحوالهم وحثّتهم على التعاون والتعاضد، فنشأت في أوروبا بفضل جهودها حركات تعاونيّة كان لها دور أساسيّ في تحسين أوضاع الفئات الفقيرة والمحدودة الدخل، لاسيّما الفئات الريفيّة. وقد تميّز القرن التاسع عشر، في أوروبا، بالتعاليم المسيحيّة الاجتماعيّة، إنطلاقًا من الرسالة الشهيرة “الشؤون الحديثة”[2] التي أعلنها البابا لاوون الثالث عشر، العام 1891. وقد تمّ تأكيد محتواها ومبادئها، لاحقًا، من قبل البابا بيوس الحادي عشر، عبر رسالته العامّة أربعون سنة[3] لمناسبة مرور أربعين سنة على الرسالة العامّة السابقة، كما تمّ التركيز فيها على أهميّة الأخلاق في الحقل الاقتصاديّ.
  4. جدّد البابا يوحنّا الثالث والعشرون تعاليم الكنسيّة الاقتصاديّة هذه، عبر رسالته العامّة “أمّ ومعلّمة”[4] التي أذاعها العام 1961، في مناسبة مرور سبعين سنة على رسالة “الشؤون الحديثة”، وقال فيها “إنّ حريّة السوق قد خلّفت الديكتاتوريّة الاقتصاديّة، وشهيّة الربح أدّت إلى طموح جامح إلى السيطرة، فأصبحت الحياة الاقتصاديّة كلّها قاسيةً للغاية، شرسةً ومريرة. فنتج عن ذلك خضوع السلطات العامّة لمصالح الأقوياء، وطغيان المال الدوليّ”.

ويوصي بيوس الحادي عشر، “بإقامة نظام قانونيّ يشجّع العمّال الاقتصاديّين على الملاءمة بين مصالحهم الخاصّة والمصلحة العامّة، وذلك بإنشاء مؤسّسات عامّة وخاصّة، وطنيّة ودوليّة، تستلهم كلُّها العدالة الاجتماعيّة”[5]. وتشير هذه الرسالة إلى رسالة البابا بيوس الثاني عشر التي بثّتها الإذاعة يوم عيد العنصرة، العام 1941، حيث طالب “بأهليّة الكنيسة، المسلّم بها، للحكم على مدى مطابقة قواعد أيّ تنظيم اجتماعيّ معيّن لنظام الأمور الذي لا يتغيّر، والذي كشفه الله، الخالق والفادي، من خلال القانون الطبيعيّ ومن خلال الوحي، وأكّد مجدّدًا ما في تعاليم الرسالة العامّة الشؤون الحديثة من قيمة ثابتة مستمرّة، وخصوبة لا تنفد. كما ذكر “المبادئ التوجيهيّة في شأن ثلاث قيم أساسيّة من قيم الحياة الاجتماعيّة والاقتصاديّة، تلك العناصر الثلاثة الأساسيّة التي تتشابك وتتّحد وتتساند فيما بينها وهي: إستعمال الخيرات المادّيّة، والعمل، والعائلة”.

فحول الخيرات المادّيّة، يصرّح بيوس الثاني عشر “بأنّ حقّ كلّ إنسان في استعمالها لمعيشته يسمو فوق أيّ قانون اقتصاديّ آخر، وحتى قانون الملكيّة الخاصّة”. “وهذا الأخير هو، بالطبع، حقّ طبيعيّ؛ غير أنّ الخالق أراد ألاّ تكون هناك عقبة تستغلّ، في أيّ شكل من الأشكال، أمام “المطلب الملحّ” الذي لا يسقط مع الزمن، بأن توضع كلّ الخيرات، التي خلقها الله لجميع البشر، في متناول الجميع، بإنصاف، ووفق مبادئ العدالة والمحبّة”[6].

  1. أمّا البابا يوحنّا بولس الثاني، فقد أعاد تأكيد أهميّة العمل والأخلاق والإهتمام بالشأن الاجتماعيّ، عبر ثلاث رسائل عامّة. تتعلّق الأولى بقيمة العمل الإنسانيّ، في المسيحيّة، وهي بعنوان “مزاولة العمل البشريّ”[7] صَدَرت العام 1981؛ والثانية تتعلّق بـ “أهمّيّة الشأن الاجتماعيّ”[8] وقد صدرت العام 1987. أمّا الثالثة فهي تجدّد الإهتمام بالقضايا المطروحة في رسالة الشؤون الحديثة لمناسبة مرور مئة عام على صدورها (1891-1991)، وهي بعنوان “أهمّيّة المئة عام”[9].
  2. وقد قامت الكنائس الشرقيّة بالدور عينه الذي قامت به الكنائس الغربيّة في الحياة الاقتصاديّة. وكانت الكنيسة المارونيّة من الكنائس العريقة التي اشتهرت، تاريخيًّا، في الشرق بتلاحمها مع الرعيّة، وبشكلٍ خاصّ مع الفلاحين، من خلال عيشها حياة ناسكة ومتقشّفة في جبال لبنان.

ثانيًا: دور الكنيسة المارونيّة التاريخيّ على الصعيدين التربويّ والاقتصاديّ

  1. عرفت الكنيسة المارونيّة، في تاريخها، تلاحمًا بين الرؤساء والرعيّة، فتميّزت بهذا الأمر، إلى جانب ما عرفته من تقاليد الحياة النسكيّة العريقة في المسيحيّة الشرقيّة. ومن العوامل الرئيسة التي أسهمت في ترسيخ دعائم الكنيسة المارونيّة، منذ نشأتها إلى اليوم، طاقة أبنائها الاجتماعيّة والاقتصاديّة، وفي مقدّمتهم رجال الدّين. يكفي أن نذكر النشاطات الإنتاجيّة الزراعيّة التي قامت بها الكنيسة، عبر القرون، في جبال لبنان. وقد اشتهر الموارنة، في الشرق، بمهارتهم في الأعمال الفلاحيّة، وهذا ما أدّى إلى انتشارهم في كلّ أنحاء لبنان، منذ ورودهم إليه، وإلى تشابك المصالح الاقتصاديّة والحياتيّة، بينهم وبين أبناء الطوائف الأخرى.
  2. كما اهتمّت الكنيسة المارونيّة، مبكرًا، بانتشار التربية والعلوم بين أبنائها، ممّا عزّز مكانة الطائفة وأبنائها في المشرق، وهم الذين أسهموا في نهضة اللغة العربيّة. وكان لانفتاح هؤلاء على الحضارة الأوروبيّة، وتكثيف جهود الكنيسة في نشر التربية والعلوم الحديثة لدى أبنائها، أثر اقتصاديّ عظيم في تأمين تقدّم الطائفة وتعميم الرقيّ الاقتصاديّ والاجتماعيّ في مجتمعها.
  3. ومن المفيد التذكير بالدور الاقتصاديّ الكبير الذي أدَّته الرهبانيات المارونيّة في ازدهار الأرياف الجبليّة، بإقامة الأديرة في كلّ أنحاء البلاد، وتنظيم الأعمال الزراعيّة وتطويرها. إنّ ازدياد حركة إنشاء الوقفيّات، من قبل الموارنة، أسهم في تنامي الحركة الرهبانيّة، ابتداءً من القرن الثامن عشر. وهذا أمرٌ يدلّ على ثقة المؤمنين الكبيرة بالكنيسة والرهبانيّات، وعلى التفاعل الاقتصاديّ الإيجابيّ بين الرعيّة والكنيسة. وكان الرهبان يمارسون مختلف أنواع المهن، مثل الطب والمحاماة والطباعة، والصياغة ومهن البناء، بالإضافة إلى العمل الزراعيّ فيكرّسون بذلك قيم العمل الإنتاجيّ الخلاّق في المجتمع. وحريّ بنا هنا أن نذكر ما قاله أحد الرهبان، عند سؤاله عن تهافته على القيام بأشغال زراعيّة شاقّة ومتعبة طوال حياته: “لم يهبني الله قلمًا سيّالاً ولا لسانًا فصيحًا بليغًا فأمجّد ربيّ وأخدم أمي الرهبانيّة. إنّما أعطاني صحّة ومعولاً وخبرة زراعيّة، فأستعمل كلّ ذلك تمجيدًا لله وتقديسًا لنفسي وتكفيرًا عن خطاياي، وخدمة لأخوتي خدّام الكلمة!”[10].

10.  لقد تعاظم دور الكنيسة المارونيّة في لبنان منذ انفتاح جبل لبنان على أوروبا، ابتداءً من القرن السادس عشر، ومع إتقان الموارنة الفنون والعلوم الحديثة، وانتشارهم تدريجيًّا في سائر أنحاء العالم، شرقًا وغربًا. ولعلّه من المفيد هنا أيضًا التذكير بما اضطلعت به جاليات المهجر، في القرنين التاسع عشر والعشرين، من دورٍ جليّ، في الثقافة والعلم والسياسة، لمساعدة الوطن الجريح بعد أن ألمّت به فتنة القرن التاسع عشر (1840-1860). وتجدر الإشارة أيضًا إلى دور الكنيسة، وبخاصّة في عهد البطريرك بولس مسعد، في مساندة حركة الفلاّحين لمناهضة الروح الإقطاعيّة التقليديّة التي سادت في تلك الفترة. ولنذكر أيضًا دور الكنيسة في تخفيف وطـأة المجاعة التي ألمّت بجبل لبنان، إبّان الحرب العالميّة الأولى، وبعد ذلك، موقف البطريركيّة المارونيّة في عهد البطريرك الحويّك، المطالبة، في مفاوضات السلام بفرساي، بعد الحرب العالميّة الأولى، العام 1919، بإعادة الأجزاء المسلوخة من لبنان، عند إقامة نظام المتصرفيّة العام 1861. فالكنيسة المارونيّة رأت أنّ عودة البقاع وسهل عكّار، وهي مناطق تمتاز بوفرة مياهها وخصوبة سهولها، لا بدّ منها، لكي يتمكن اللبنانيون جميعًا من العيش الكريم، اقتصاديًّا، بدون التعرّض إلى خطر المجاعة أو الضعف الاقتصاديّ.

11.  في أثناء عهد الانتداب، رفعت الكنيسة راية القضايا الاجتماعيّة والاقتصاديّة العادلة، وبخاصّة في أيّام البطريرك أنطون عريضة الذي أيّد علنًا مطالب مزارعي التبغ المحقة، تجاه إدارة حصر التبغ والتنّباك التي كانت في أيدي شركة فرنسيّة، بالإضافة إلى مطالب عماليّة أخرى عادلة.

ثالثًا: إرشاد البابا بولس السادس في شأن “تقدّم الشعوب”

12.  تميّزت الكنيسة الكاثوليكيّة بالتطورات الفكريّة الكبيرة، إذ حوّلت أنظارها إلى قضايا الفقر والظلم الاجتماعيّ، في كلّ أنحاء العالم، وبشكل خاصّ في ما سمّي بالعالم الثالث، وذلك عبر الرسالة البابويّة الشهيرة في موضوع “تقدّم الشعوب”[11] التي صدرت العام 1967، بعد انعقاد المجمع الفاتيكانيّ الثاني الذي دعا إليه البابا يوحنّا الثالث والعشرون. وكان من بين النصوص المجمعيّة الهامّة النصّ الدستوريّ “فرح ورجاء”[12] الذي سلّط الضوء على قضايا الفقر والتخلّف، وعلى موقف الكنيسة منها، وهي “الخبيرة في الإنسانويّة” التي يتوجب عليها فحص ملامح الزمن الحاضر وتفسيرها في ضوء “الإنجيل”. فالكنيسة تعي مهمتها في حقل الخدمة، وهي متميّزة عن مهمّة الدولة، حتى عندما تدعو إلى التخفيف من حدّة الفروقات بين الناس، فالكنيسة تبقى في هذه المواقف وفيّةً لتراثها الممتدّ عبر القرون، تؤكّد “كونيّة وجهة استعمال الخيرات”[13]. والجدير بالذكر هنا أنّ الكنيسةَ الكاثوليكيّة، كما الجماعات البروتستنتيّة، كانت تمرّ بأوضاع متموّجة، منذ المجمع الفاتيكانيّ الثاني، وذلك، بسبب تفاقم الأوضاع الاجتماعيّة في أمريكا اللاتينيّة، وتوسّع حركات التمرّد والعنف الاجتماعيّ في هذه القارة المتميّزة بتعلّقها بالديانة المسيحيّة المنتشرة فيها. فقد نما، على مدى الستّينات والسبعينات من القرن العشرين، تيّار لاهوت التحرير المؤيّد حركاتِ التحرّر في العالم الثالث، وبنوعٍ خاصّ في أمريكا اللاتينيّة التي كانت معظم دولها تعاني من سيطرة أنواعٍ مختلفة من الإقطاعيّة الظالمة. وكان هذا التيّار يدعو إلى إسهام المؤمن المسيحيّ في حركات التحرّر من أوضاع القهر السياسيّ والاجتماعيّ.

أثّرت هذه التيّارات في الجيل المسيحيّ الشابّ الذي أصبحت تنظيماته الطلابيّة ترفع شعارات العدالة الاجتماعيّة والنضال من أجل تحرير الشعوب من سائر أنواع الظلم، الداخليّ والخارجيّ. وقد تبنّى البيان الصادر عن مؤتمر الشبيبة الطالبة المسيحيّة المنعقد في دير المسيح الملك، بكانون الأوّل 1968[14]، بعض المواقف الجذريّة، في قضايا التحرّر والتنمية والعدالة الاجتماعيّة.

13.  ان نشاطات أبناء الكنيسة، لم توظّف، بعد الإستقلال، على نحوٍ مستمر ومتواصل، لدعم الوطن اللبنانيّ وترسيخ قواعده الاجتماعيّة والاقتصاديّة. كما لم تَقُم الكنيسة يومًا بإبراز هذا التراث الغني وقيم العمل الجادّ والخلاّق. والحقيقة أنّه لم يحصل توثيق وتراكم معرفيّ وثقافيّ واقتصاديّ، مبنيّ على هذا التراث، لإفادة الأجيال المتتالية من الموارنة واللبنانيّين، وبخاصّة، منذ الاستقلال، بل يبدو أنّ تحقيق الإستقلال قد أسهم في نسيان عِبَر هذا التاريخ، وبنوع خاصّ، تاريخ الكنيسة المارونيّة الاقتصاديّ والثقافيّ. فالتطوّرات الاقتصاديّة التي حصلت، بعد الإستقلال، جعلت الكنيسة تهتم، على نحوٍ أساسيّ، بدورها التربويّ والأعمال الخيريّة الطابع، تاركةً قضايا التنمية الاقتصاديّة والاجتماعيّة للدولة الفتيّة والفعاليّات الاقتصاديّة المسيحيّة.

14.  تكتشف الكنيسة، مجدّدًا، ضرورة أن يكون توزيع عادل ومنصف لثمار العمل المشترك، مع تأمين الحريّة اللازمة، ومسؤوليّة كلّ فرد، في تنظيم عمله. وتشدّد، في الوقت عينه، على أهمّيّة التضامن والحريّة في احترام العدالة والحقيقة. إنّ تنظيمًا اقتصاديًّا يحترم الإنسان، لا يستطيع أن يضحّي بالحريّة، على حساب مبدأ التضامن، ولا بالتضامن على حساب مبدأ الحريّة. لا بدّ من تأكيد وجوب احترام هاتين القيمتين في واقع التنظيم الاقتصاديّ.

ولا تتعارض مبادئ الكنيسة مع القواعد الكلاسيكيّة، في علم الاقتصاد، ومنها، تكافؤ الفرص بين العاملين في المجال الاقتصاديّ، وحصولهم على المعلومات والإمكانيات نفسها عند أخذ القرار، أو التوقيع على العقود، أو المنافسة فيما بينهم عند إنتاج السلع والخدمات. ومن تعاليم الكنيسة الثابتة أنّ الدولة “ليست مجرّد حارس للنظام والقانون، بل عليها أن تعمل بحزم على جعل القوانين والمؤسّسات، بمجملها، تساهم على نحوٍ “ينتج معه الازدهار العامّ والخاصّ، تلقائيًّا، من تنظيم المجتمع وإدارته”[15]. وتذكّر هذه الرسالة، في هامش خاصّ، بالتعاليم الكنسيّة السابقة: “يقوم دور الدولة على أمرين: أوّلاً: حماية حقوق كلّ فرد؛ ثانيًا: المساعدة الإيجابيّة على الإزدهار العامّ، من أجل تأمين نموّ أفضل للأفراد والجماعات. وهذا الأمر الثاني تبرزه رسالة “الشؤون الحديثة” بقولها: “إنّ ما يُطلَب بالأولويّة، من الحكّام، هو مؤازرة، على مستوى عامّ، في تنظيم كامل القوانين والمؤسّسات، أيّ أنّ عليهم أن يعملوا بشكل يجعل الازدهار، العامّ والخاصّ، ينتج تلقائيًّا، من تنظيم المجتمع ومن إدارته” (الشؤون الحديثة، 26/2).

“وعلى الدولة في ممارسة مهمتها، أن تتجنّب الحلول محلّ النشاط الخاصّ، الفرديّ أو الجماعيّ، ما دام هذا النشاط قادرًا على القيام بدوره، أو غير رافضٍ لذلك، وفقًا لمبدأ الإنابة (الشؤون الحديثة، ص 111-112)”[16].

رابعًا: الإرشاد الرسوليّ ومحتواه الاقتصاديّ

15.  والجدير بالملاحظة هنا أنّ الرسالة التي وجّهها البابا يوحنّا بولس الثاني لمناسبة انعقاد السينودس من أجل لبنان، ركّزت، على القضايا الإنسانيّة والاجتماعيّة، وعلى ضرورة العمل من أجل العدالة الاجتماعيّة في لبنان. وقد أتى هذا الإرشاد منسجمًا مع مواقفه السابقة من أهمّيّة دور الإنسان في الحياة الاقتصاديّة.

إنّ كلام الحبر الأعظم في إرشاده الرسوليّ “رجاء جديد للبنان” يدلّ على فهم المعضلات الاقتصاديّة اللبنانيّة فهمًا عميقًا. يقول الحبر الأعظم مخاطبًا اللبنانيّين: “واللبنانيون، كسائر الشعوب، لأنّهم يحبّون أرضهم حبًّا خاصًّا، هم مدعوُّون إلى الإهتمام ببلدهم، والمحافظة دونما كلل على الأخوّة، وبناء نظام سياسيّ واجتماعيّ عادل ومنصف، يحترم الأشخاص وجميع الإتجاهات التي يتألف منها البلد، ليبنوا معًا بيتهم المشترك. وما من أحد يمكنه أن يتهرّب من المسؤوليّة الأدبيّة والمدنيّة، التي عليه أن يؤدّيها شرعًا وسط شعبه. إلى ذلك، يترتّب على كلّ شخصيّة عاملة في الشأن العامّ، أسياسيّة كانت أم دينيّة، وعلى كلّ فريق أن يحسبوا حسابًا لحاجات الأفرقاء الآخرين ولتطلعاتهم الشرعيّة، بل للخير العامّ في الأسرة البشريّة كلّها. فالعمل في الحياة العامّة هو، أوّلاً، خدمة مسؤولة عن الإخوة، كلّ الأخوّة، بحيث يسعون وبجميع الوسائل، لكي يعمل الجميع بانسجام. إنّ جميع الذين يرضون تعهُّد الخدمة العامّة في الحياة السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة، عليهم، من باب الواجب الآمر، أن يحترموا بعض الموجبات الأخلاقيّة، وأن يخضعوا مصالحهم الخاصّة أوالفئويّة لصالح أمتهم. ومتى عاشوا على هذا النحو كانوا قدوة لمواطنيهم، وعملوا بكلّ الوسائل، لتأتي أعمالهم لمصلحة الخير العامّ. وهذا يفترض تجاوز السلوك الأنانيّ باستمرار، للعيش في تجرّد قد يذهب إلى حدّ إنكار الذات، بغية قيادة الشعب بكامله إلى السعادة بحسن إدارة الشأن العامّ”.

16.  ويضيف الحبر الأعظم قائلاً: “يجب على السلطات الشرعيّة داخل الأمّة أن تسهر على تمكين كلّ الجماعات والأفراد من التمتّع بالحقوق نفسها، والخضوع للواجبات عينها، وفقًا لمبادئ الإنصاف والمساواة والعدالة. وعلى الحكاّم، بصفتهم مواطنين يؤدّون خدمة عامّة، أن يبذلوا جهدهم ليسلكوا مسلكًا مستقيمًا يتميّز بما يجب من تواضع، لخدمة الإخوة، ليعطوهم مثالاً في الصدق والنزاهة. ذلك بأنّ الإستقامة الخلقيّة هي أحد العناصر الجوهريّة التي لا بدّ منها للحياة في جماعة”[17].

ويتكلّم الحبر الأعظم أيضًا في الإرشاد على “التقدّم البشريّ والشخصيّ والجماعيّ، وعلى حسّ المشاركة والمسؤوليّة والتضحية”. وهو ينبّه إلى أنّ تجاهل هذا الأمر” يقود حتمًا إلى زعزعة أسس الإستقرار في العلاقات العامّة، بتعريض كلّ واحد لجميع أنواع التعسّف ولفقدان الشعب بكامله الثقة بالمؤسّسات الوطنيّة، بشكل حتميّ”[18].

17.  لذلك، يدعو الحبر الأعظم جميع اللبنانيين إلى “أن يَرْعوا وينمّوا في ذواتهم وبخاصّة، في الأجيال الفتيّة، “العزم الثابت والمثابر على العمل من أجل الصالح العامّ، أيّ من أجل صالح الكلّ وكلّ فرد، لأنّنا جميعًا مسؤولون حقًّا عن الجميع”. وفي الوقت عينه، إنّه لمن المستحسن أن تزداد المشاركة المنصفة في المسؤوليّات، داخل الأمّة، ليتمكّن الجميع من وضع مواهبهم وقدراتهم في خدمة أخوتهم، ويعرفوا أنّ لهم مساهمةً متميّزة يقدّمونها إلى بلدهم، عملاً بمبدأ “الإنابة”، بإبداعهم الشخصيّ وممارستهم ما لهم من روح مبادرة. وكلاهما حقّ”[19].

ويضيف الحبر الأعظم: “وعلى الجميع، بهذه الروح، أن ينشروا فضيلة العدل بين الأشخاص والأجيال، إذ إنّ المظالم تولّد العنف وعدم الثقة والأنانيّة. وحريّ بالإهتمام، في الوقت عينه، توفير عملٍ لأكبر عدد من الأشخاص، لئلا يبقى بعض اللبنانيين، مدى الحياة، على هامش المجتمع، ويروا مستواهم المعيشيّ ينحدر انحدارًا خطيرًا، أو أن يتقلبوا في حالات فقر مدقع، ولكي لا يبالي آخرون بحياة بلدهم فيُدفعوا إلى “نوع من الهجرة النفسيّة”،كشعورهم بأنّهم لا يتمكّنون من المشاركة في الحياة الجماعيّة، وأنّهم لا يستشفُّون أيّ مستقبل على أرض أجدادهم”[20].

يظهر جليًّا، من كلّ ما سبق، أنّه على العاملين في حقل الاقتصاد أن يراعوا دومًا قيمة الحياة البشريّة، إلى جانب الكفاءة التقنيّة، فلا ينسوا مطلقًا أنّ الاقتصاد هو في خدمة الناس والجماعة البشريّة.

الفصل الأوّل : قراءة الحاضر 

أوّلاً: التيّارات الفكريّة الاقتصاديّة منذ الإستقلال وتحوُّل الاقتصاد اللبنانيّ

18.  برزت تيّارات فكر اقتصادي جديد، على الساحة اللبنانيّة، بعد الإستقلال، أسهمت في إجراء قطيعة بين الحاضر والماضي وتراثه ومبادئه في الهمّ الاجتماعي الداعي إلى إقامة مجتمع عادل وتضامنيّ. وقد تمثّل هذا الفكر الاقتصاديّ، بهيمنة النظرة إلى خصوصيّةٍ حتميّة للاقتصاد اللبنانيّ، تدعو إلى جعل وظيفة لبنان الاقتصاديّة التخصّص في دور الوسيط في التجارة والخدمات بين الدول العربيّة والدول المتقدّمة، على حساب تطوير قطاعيه الزراعيّ والصناعيّ، وعلى ألاّ تتدخل الدولة في الاقتصاد، وأن تترك لآليات السوق قيادة دفّة الأوضاع الاقتصاديّة والاجتماعيّة.

19.  وتركّز، حينذاك، كلّ الاهتمام على تأكيد وظيفة بيروت التي بدأت تظهر، في القرن التاسع عشر، مركز خدمات تجاريّة، ووظيفة جبل لبنان مركزًا سياحيًّا، وعلى تحويل لبنان وكيانه الاقتصاديّ إلى الدولة المدينة وإلى “جمهوريّة” تجاريّة الطابع، على غرار بعض المدن اليونانيّة القديمة، أو الجمهوريات المُدُنيّة الطابع في إيطاليا، في بداية عصر النهضة الأوروبيّة، مثل البندقيّة أوجَنَوا. وقد تمّ انتشار هذه الرؤية الاقتصاديّة بالعودة الى التراث الفينيقيّ القديم المعروف بالشاطئ اللبنانيّ، والتخيّل بأنّ هناك تواصلاً تاريخيًا، بشريًّا ونفسانيًّا، في العادات والتقاليد والمذاهب الاقتصاديّة بين هذه الحقبة التاريخيّة القديمة ولبنان الحديث. ومن أجل ترسيخ هذه الرؤية، اختُصر، في هذه النظرة المبسّطة، التراث الفينيقي الغنيّ، المتعدّد الجوانب والمبدع والخلاّق، بالأعمال التجاريّةِ الطابع، وحبّ الاغتراب، والوساطة على جميع أنواعها. وإذا سعى بعض الأدباء والمفكّرين إلى إرساء دعائمِ قوميّةٍ لبنانيّة حديثة، مبنيّة على جذور قديمة تعود إلى ماضي البلاد الفينيقيّ، فلم يكن ذلك لتبرير رؤية اقتصاديّة معيّنة، بلّ كان الدافع في إبراز التراث الفينيقيّ، الإشارة إلى ما كان يجمع بين اللبنانيّين، منذ القرون القديمة، أيّ قبل دخول كلٍّ من الإسلام والمسيحيّة. بل إنّ الأدباء والشعراء ركّزوا على الجانب الإبداعيّ والخلاّق في الحضارة الفينيقيّة، أكثر ممّا أبرزوا “التراث” التجاريّ و”التوسّطيّ”.

20.  إن رؤية “الفينيقيّة” لوظيفة الكيان الاقتصاديّ الحديث الإستقلال، طوّرتها مجموعة من كبار رجال الأعمال وبعض الاقتصاديّين، وهذا ما يظهر جليًّا من سلسلة الأفكار والرؤى الاقتصاديّة التي طُرحت في محاضرات الندوة اللبنانيّة، في أواسط القرن الماضي، وما أثارته من مناقشات ومجادلات، أخذت في بعض الأحيان طابعًا حادًّا[21]. وقد ساعدت في نجاح هذه العقليّة التطوّرات الاقتصاديّة والسياسيّة في المنطقة وبررت وظيفة الكيان اللبنانيّ الاقتصاديّة هذه وأدّت إلى تخصّص لبنان في مجال الخدمات والسياحة، وتركّز الإزدهار، بشكل حصريّ، في بيروت وجبل لبنان.

21.  ولعلَّ الكنيسة المارونيّة التي أدّت دورًا بارزًا في تأييد الحركات الاجتماعيّة الإصلاحيّة، إبّان القرن التاسع عشر، وفي عهد الانتداب، وأخذت، بالتالي، مواقف طليعيّة إصلاحيّة، ربّما شعرت بعد الإستقلال وانتشار الرؤية الجديدة لوظيفة لبنان الاقتصاديّة، بأنّ دورها التاريخيّ في القضايا الاجتماعيّة والاقتصاديّة قد انتهى.

22.  صحيح أنّ الكنيسة المارونيّة حافظت على دورها في مجال التربية والأعمال الخيريّة، غير أنّ غياب المواقف العلنيّة في خضمّ التغيّرات والتوترات الاجتماعيّة والاقتصاديّة التي عاشها لبنان، من عهد الإستقلال إلى اندلاع الفتنة الكبيرة، العام 1975، خلق نوعًا من الفراغ وسهّل لتيّارات التشنّج الطائفيّ، وتيّارات رفض التغيير الاجتماعيّ أو رفض توسّع الدولة في الشأن الاجتماعيّ والاقتصاديّ لتأمين تعادل الفرص، أن تتوغّل في نفوس بعض الموارنة، في حين انتمى بعضهم الآخر إلى أحزاب يساريّة تتبنىّ الأفكار الإشتراكية، ممّا خلق خللاً كبيرًا في الحياة السياسيّة في البلاد. فأصبحت بذلك الدولة اللبنانيّة مهددةً في وجودها واستمرارها بين الرافضين لأيّ تغيير في تركيبة الدولة ونهج عملها في الميادين التربويّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة، بالرغم من ضخامة الأحداث والتحوّلات في المشرق العربيّ، من جهة، وبين الداعين إلى قلب النظام لتحقيق الثورة العربيّة الشاملة، من جهةٍ أخرى. وربّما تأخّر انفجار التناقض الاقتصاديّ والاجتماعي في لبنان، بفضل الإصلاحات الاقتصاديّة والاجتماعيّة التي قام بها الرئيس فؤاد شهاب، والتي هدفت إلى رأب الصدع بين أبناء الوطن الواحد، في أثر أحداث 1958. ولذلك لا بدّ من ذكر هذه التجربة الإصلاحيّة الهامة.

ثانيًا: الإصلاحات الاقتصاديّة والاجتماعيّة، بعد أحداث 1958

  1. عرف لبنان سلسلة من الإصلاحات الاقتصاديّة والاجتماعيّة المكثّفة، بين 1958 و 1964، سعت إلى تحديث جهاز الدولة وتطويره في المجالين الاقتصاديّ والاجتماعيّ، وتطوير البنى التحتيّة، في جميع المناطق، وتأمين الحدّ الأدنى من تعادل الفرص بين اللبنانيّين. غير أنّ هذه التجربة لم تلق الدعم الكافي، بما فيه دعم أعيان الطائفة المارونيّة من شخصيّات سياسيّة ودينيّة، لتستمرّ في الوجود وتتعاظم آثارها البنّاءة. هذا، مع العلم أنّ تلك السياسات قد استلهمت مبادئها من اهتمام الكنيسة الكاثوليكيّة المتزايد بقضايا العدالة الاجتماعيّة في العالم، وضرورة العمل من أجل القضاء على الفقر والحرمان، في المناطق المتخلّفة من العالم، التي لم تدخل بعد مسار التنمية المتسارعة، وامتلاك القدرات على التصنيع، وتأمين مستوى رفاهٍ لكلّ أبناء المجتمع. وبادرت السلطة، حينذاك، إلى الاستعانة بشخصيّةٍ كنسيّةٍ بارزة، المغفور له الأب لويس لوبريه (Père Louis Lebret)، الذي اضطلع، بدور هامّ في إعداد رسالة الحبر الأعظم العامّة الشهيرة تقدم في موضوع الشعوب التي نادت بتأمين تقدّم كلّ الشعوب، على قدم المساواة[22].

24.  تجسّدت هذه الإصلاحات بإجراء مسحٍ شامل للمناطق، ولحاجات الفقيرة منها، والفئات المهمّشة، من أجل وضع الخطط الاقتصاديّة والاجتماعيّة الكفيلة بتأمين نموّ متواصل وعادل في توزيع ثماره على كلّ المناطق والقطاعات الاقتصاديّة والشرائح الاجتماعيّة. وكان من بين استنتاجات واضعي هذه الدراسة: أنه “لا يمكن التغلّب على الصعوبات التي تواجه ولادة حسّ مدنيّ، وإقامة انصهار وطنيّ حقيقيّ، إلاّ بالتدريج وإلاّ، لما أحسّت مختلف شرائح الشعب بأنّ بناء اقتصاد وطنيّ متين سيجلب لها الكثير من الفوائد. لذا يتوجب على الفئات الميسورة أن تسعى من أجل تخفيف حدّة التفاوت الاجتماعيّ القائم بينها وبين الفئات الأقلّ يسرًا، وعليها، بالتالي، تقبّل حدّ معيّن من التقشّف، وبخاصّة، عدم التهرّب من دفع الضرائب، والقيام بجهود جبّارة ومكلّفة، بهدف تنمية المناطق التي تعاني الحرمان”. “وهكذا تتلاشى حدّة التنابذ الكامن، حتى الآن، بين فئات المجتمع، التي تمنع تكوين شعب متآخٍ…”

“ولا يمكن التعاطي مع مشكلة التنمية في لبنان على أساس نموّ الدخل الإجماليّ وحسب، ولكن المقصود بناء الدخل القومي بكامله، وإصلاح موارد الدولة…”

“وكان من المحتّم وجود تناقض حادّ بين لبنان ذي الطابع القرويّ الحقيقيّ، وبين بيروت، أيّ بين الأصالة القرويّة الموروثة منذ آلاف السنين، والبراعة في الاستفادة والربح من تدفّق سريع للبضائع والأموال…”[23]. وقد هدفت الإصلاحات الشهابيّة إلى تطبيق سياسة إعادة البناء والإصلاح، وفقًا لهذا التشخيص، بالارتكاز إلى مبدأين رئيسين: التضامن الاجتماعيّ، وبناء الدولة.

على الصعيد الاجتماعيّ، تصدّت الإصلاحات الشهابيّة للفقر الريفيّ ولعدم التوازن المناطقيّ، بفكّ عزلة القرى المعزولة، وجرّ المياه ومدّ شبكات الكهرباء، وتطوير مرفأ بيروت وإقامة معرض طرابلس الدائم، وإنشاء سلسلة من المدارس الرسميّة والمستوصفات، وتطوير الجامعة اللبنانيّة، وبخاصّة، الفروع العلميّة فيها، واستصلاح الأراضي، عبر المشروع الأخضر، بالإضافة إلى إنشاء مكتب الفاكهة ومكتب الحرير؛ كما بدأت في هذه الفترة، المساعي لتأسيس الصندوق الوطنيّ للضمان الاجتماعيّ، من أجل تأمين نظام تقاعد وضمان صحيّ للأجراء والموظفين. وتمّ كذلك إنشاء مكتب للإنعاش الاجتماعيّ يُعنى بتقديم مختلف أنواع المساعدات للعائلات المعوزة، كما تمّ تعزيز الضرائب المباشرة. أمّا على صعيد بناء الدولة، فقد كانت أبرز منجزات الفترة الشهابيّة إنشاء المؤسّسات الكبرى التالية: المصرف المركزيّ لإصدار العملة والحلول محلّ بنك سورية ولبنان (البنك العثمانيّ سابقًا)، ومجلس الخدمة المدنيّة، وهيئة التفتيش الكبرى، إضافةً إلى مجلس تنفيذ المشاريع الكبرى لمدينة بيروت.

25.  ذكرنا هذه الإصلاحات كمدخل تأمل في ما يمكن أن يكون، مستقبلاً، دور الكنيسة المارونيّة في القضايا الاجتماعيّة والاقتصاديّة. فالحقيقة أنّ القصور في التنمية الاقتصاديّة المتوازنة قطاعيًّا ومناطقيًّا، وانعدام تعادل الفرص بين أبناء الشعب الواحد، هما من العوامل الداخليّة اللبنانيّة التي سهلت للقوى الخارجيّة التي عبثت بأمن لبنان واستقراره، أن تفجّر الأوضاع. أنّ إمكانيّة بروز مستقبل ثابت ومستقر لهذا الوطن الجريح، تكمن في بلورة الرؤية الاجتماعيّة والاقتصاديّة التي عليها يمكن أن نبني مستقبلاً لبنانيًّا متينًا، لا يتعرّض للهزّات والأزمات الآتية من الخارج، كما تمّ التعبير عنه، مرارًا، في مداولات المجمع، في دورته الأولى. من هنا يأتي الدور البارز الذي يمكن أن تقوم به، مجددًا، الكنيسة المارونيّة، في نشر الوعي حول أهمّيّة القضايا الاجتماعيّة والاقتصاديّة لبناء وطن المستقبل، ونشرِ روح التعاضد بين جميع أبناء الوطن لصونه من رياح التطرف الدينيّ والمذهبيّ التي مزّقته، في خضّم الصراعات الإقليميّة والدوليّة.

ثالثًا: الحرب والإعمار

1. أعمال العنف والسرقة من قبل المليشيات المسلّحة 

26.  قبل اندلاع الأحداث الأليمة، العام 1975، اجتاحت لبنان موجة من الإضرابات القاسية (مزارعو التبغ، صيّادو الأسماك، عمّال مصانع غندور في الشيّاح، مزارعو الشمندر في البقاع، إلخ…). وكان الشعور بالغبن الاجتماعيّ قد تأجج لدى فئات واسعة من الشعب، مسيحيًّا وإسلاميًّا. وما جرى في القرن التاسع عشر، تكرّر في القرن العشرين، فقد أتت أحداث خارجيّة ضخمة، لتفجّر الأوضاع الداخليّة، وتحوّل مسار النضال الاجتماعيّ الطبيعيّ من أجل تحقيق العدالة ومساواة الفرص، إلى فتنةٍ طائفيّةٍ معقّدة، ذات أبعادٍ إقليميّةٍ خطيرة. ومن المؤسف والمنكر أن تكون الفئات المسلّحة اللبنانيّة التي برزت على ساحة الوطن، وتقاتلت تحت شتّى الشعارات الوطنيّة أو المذهبيّة، قد ارتكبت، بشكل مستمرٍّ ومتواصل، أعمال نهب المرافق العامّة والخاصّة، وتهديم دعائم الدولة، وحرمانها من إيراداتها.

2. الإعمار

27.  إنّ سياسات الإعمار التي بدأ تطبيقها، بعد الحرب، أغفلت ضرورة إعادة إحياء القدرات الإنتاجيّة في البلاد، في الميدانين الصناعيّ والزراعيّ، ومساعدة اللبنانيّين في تأمين قدرةٍ تنافسيّة لمنتوجاتهم، خصوصًا مع التطورات العلميّة، الصناعيّة والزراعيّة، السريعة التي حصلت ما بين 1975 و1990، في العالم العربيّ والغربيّ، وانتشار حركة العولمة، ممّا فرض على المجتمعات جهودًا جبّارة في الميدان الاقتصاديّ. فقد ركّزت سياسات الإعمار على مشاريع البنية التحتيّة العالية الكلفة والمركّزة، مجددًا، في بيروت وجبل لبنان، وعلى فتح باب التعويض للمهجّرين، بمعايير عشوائيّة الطابع، استفادت منها الفئات المنتمية بالولاء إلى بعض زعماء الميليشيات الذين انخرطوا، بقوّة، في الحياة السياسيّة، كما أسّست هذه الحكومة سياسةً نقديّةً مكلّفة، اعتمدت الفوائد العالية للغاية، وقد كان الهدف المعلن من قبل الدولة، لهذه السياسة، دعم سعر صرف الليرة اللبنانيّة، في إطار سياسة تثبيتيّة للنقد. أدّت هذه السياسة إلى توفير أرباح طائلة للقطاع المصرفيّ الذي أصبح يحمل القسم الأكبر من الدين العام، مع الإشارة إلى ما كان لبعض رجال الدولة من مصالح في هذا القطاع.

28.  وتميزت فترة الإعمار، إجمالاً، منذ العام 1992، بتراكم التشوّهات الاقتصاديّة والماليّة والاجتماعيّة الناتجة من سوء التقدير والتخطيط في إعادة بناء لبنان. ولم تستلهم السياسات الإعماريّة، في خططها، مبادئ العدالة، والتعويض العادل عن الخسارات التي تحمَّلها اللبنانيون، إبان سنوات الفتنة، كما لم تطبّق هذه السياسات المبادئ الإصلاحيّة السابقة، لتنمية لبنان تنميةً شاملةً ومستدامةً ومتوازنة، بالاستناد إلى التراث اللبنانيّ الغنيّ في الإصلاحات، بل اكتفت باستيراد نموذج اقتصاديّ شبيه بالنماذج التي طبّقت في الدول العربيّة الغنيّة المصدّرة للنفط.

29.  وقد سهّل ذلك دخول لبنان عهد الصفقات، والمضاربات، والتبذير، وتشويه جمال مدنه وجباله، من جرّاء فورة عقاريّة عشوائيّة، شراءً وبيعًا. وقد تمّ توزيع التعويضات على المهجّرين عبر ضغوطات الميليشيات التي اعتبرت نفسها منتصرة بعد الحرب، ممّا أدّى إلى انعدام العدالة في التوزيع، وعدم عودة المهجّرين، فعليًّا، إلى قراهم. وقد عانى المسيحيون من تأخيرٍ كبيرٍ في الحصول على حقوقهم من التعويضات الموزّعة. إلى جانب ذلك، شرعت السلطات النقديّة بالعمل على إقامة نظام نقديّ مستند إلى بنية فوائد عالية جدًا، بلغت، في بعض السنين، مستويات ربويّة الطابع، بالرغم من تراجع نسبة التضخّم، وتحسن وفر احتياطات البلاد من النقد الأجنبيّ، مما سمح لبعض الناس بجمع ثروات طائلة، وممّا أعاق حركة الإستثمار الإنتاجيّ، ورتّب مديونيّةً كبيرةً على كلٍّ من الخزينة والقطاع الخاصّ. وتمّ انتزاع الملكيّة من أصحاب الحقوق العينيّة في وسط العاصمة التاريخيّ، بأساليب قانونيّةٍ مخالفةٍ للمبادئ الدستوريّة، ومنها صون الملكيّة الشخصيّة، ممّا أدّى إلى تدمير مئات الأبنية التاريخيّة الطابع، وضياع وجه العاصمة الحضاريّ والتاريخيّ، بالإضافة إلى ما أصاب أصحاب الأملاك والحقوق من خسارة ماديّة ومعنويّة. إنّ العمليات النقديّة والماليّة مرتبطة بالواقع الاقتصاديّ الفعليّ. وعندما تنفصل عنه، تترك آثارًا سلبيّة على توازن الأسواق، وتخلق نتائج سلبيّة على السكّان. لهذا، تشير الكنيسة إلى وجود خلل أخلاقيّ هامّ وأساسيّ في هذا المجال.

30.  وكانت نتيجة هذه السياسات تكوين دينٍ عملاق على الخزينة اللبنانيّة، قلّ مثيله في العالم، سواء بالنسبة إلى الناتج المحليّ الإجماليّ (190٪) أو بالنسبة إلى حجم لبنان، وعدد سكّانه، وانعدام وجود الموارد الطبيعيّة فيه. وقد أدّى تراكم هذا الدين إلى إعاقة النمّو إعاقةً شبه شاملة، بعد سنواتٍ قليلةٍ من بدء السياسة الإعماريّة. وتعمّقت أزمةٌ اقتصاديّة واجتماعيّة وماليّة متعدّدة الجوانب. أدّت حالة التململ الاجتماعيّ والقلق السياسيّ إلى فقدان الثقة بمستقبل البلاد لدى العديد من المواطنين، وإقدامهم على بيع ممتلكاتهم العقاريّة، وعلى مغادرة البلاد، بحثًا عن لقمة العيش والحياة المستقرّة.

31.  وقد أيّدت الفعاليّات الاقتصاديّة اللبنانيّة، ومنها المسيحيّة، المشاريع الإعماريّة، تأييدًا كبيرًا، في المرحلة الأولى. قد يعود ذلك إلى استمرار تأثير النظريّة القديمة بشأن وظيفة لبنان في التوسّط التجاريّ والماليّ على صعيدٍ إقليميّ. وكان يُنظر إلى مشاريع الإعمار على أنّها تهدف إلى إعادة لبنان كأهمّ مركز خدماتيّ إقليميّ، دون الأخذ في الاعتبار التقدّم الهائل الحاصل في المنطقة العربيّة وتبدّل كلّ الظروف الإقليميّة التي أدت إلى ازدهار لبنان قبل الحرب.

3. موقف الكنيسة المارونيّة من الأوضاع الاقتصاديّة والاجتماعيّة الحاضرة

32.  ضاعفت الكنيسة المارونيّة، في هذه المرحلة الحرجة من تاريخ الوطن جهودها، في ميدان العمل الاجتماعيّ، لإيقاظ الوعي، وسط أزمة فقدان الأخلاق الاقتصاديّة وقيم العمل الجادّ وحسِّ الإنتاجيّة، بخاصّة لدى الفعاليّات السياسيّة من كلّ الطوائف.

واستعادت دورها المركزيّ القديم في الحياة السياسيّة والوطنيّة في البلاد. ومع بروز المشاكل العديدة الناتجة من سوء تطبيق إتفاق الطائف، من جهة، ومن الأوجه السلبيّة العديدة التي اتّصفت بها سياسات الإعمار المطّبقة منذ العام 1992، من جهةٍ أخرى، أصبح غبطة البطريرك المارونيّ يعبّر عن هموم اللبنانيّين، من كلّ الفئات، ومتاعبهم، لاسيّما فيما يختص بالشأن الاجتماعي والاقتصاديّ الذي أخذ يتدهور، سنة بعد سنة، ممّا أدّى إلى موجة هجرةٍ جديدة في أوساط الجيل الشاب، بسبب فقدان فرص العمل. ولا بدّ من الإشارة هنا إلى تركيز غبطته، في أحاديثه وعظاته، على مأساويّة الأوضاع الاقتصاديّة والاجتماعيّة. وقد أصبحت اليوم مواقف الكنيسة المارونيّة، عبر عظات السيّد البطريرك، وبيانات المطارنة، محطّ أنظار كلّ اللبنانيّين، لما تسلّطه من أضواء على الأمور الإصلاحيّة وقلّة اهتمام المسؤولين بالوضع المعيشيّ، ونزيف الهجرة المتصاعد، وتفشيّ الفساد وهدر المال العامّ.

33.  وتجدر الإشارة إلى أنّ الكنيسة المارونيّة تبذل جهودًا حثيثةً لتخفيف حدّة الأزمة الاقتصاديّة عن أبنائها، فتقوم بمبادرات نذكر منها: بناء شققٍ تؤجَّر بأسعار منخفضة، وإنشاء تأمين صحيّ، وتقديم المساعدات المدرسيّة. وإذا كان هناك الكثير من الشخصيّات المدنيّة المارونيّة التي تقوم بأعمالٍ خيريّة، وتقدّم مساعدات مشكورة في مجالات متعدّدة، فإنّ القطاع الخاصّ لا يزال غير معنيّ، على نحوٍ مُرضٍ، بمصير لبنان الاقتصاديّ، وبتكاتف الجهود، لتغيير منحى السياسة الاقتصاديّة والماليّة والنقديّة. وللقطاع الخاصّ دورٌ هامّ وأساسيّ، في توجيه الدولة نحو تصحيح الإنحراف في المسار الاقتصاديّ، لما لهذا القطاع، تقليديًّا في لبنان، من نفوذٍ واسع تعاظم بعد الحرب، إذ دخل رجال الأعمال في الحياة السياسيّة، النيابيّة والوزاريّة، بثقلٍ كبيرٍ يندر مثيله في العالم. ولذا، تقع على القطاع الخاصّ مسؤوليّات جمّة، ويجمل به أن يصغي إلى ما تقوله أعلى مراجع الكنيسة، في روما وبكركي، في ما يختص بالمبادئ الإنسانيّة والأخلاقيّة التي يجب أن تقوم عليها السياسات الاقتصاديّة والاجتماعيّة.

34.  ويطالب غبطة البطريرك مار نصرالله بطرس صفير، مطالبةً متواصلةً، من خلال عظاته في قداديس يوم الأحد، التي تثير القضايا الاجتماعيّة والاقتصاديّة، المسؤولين بالعمل من أجل تخفيف حدّة الأزمة المعيشيّة، والقضاء على رغبة الشباب في ترك الوطن. إنّ كلام غبطته في هذا المجال يصبّ باستمرار في مصلحة الوطن وجميع شرائح المجتمع، ويشير إلى ضرورة تدخّل الدولة لمنع المزيد من التدهور الخطير. وتدلّ، فعلاً بعض الإحصاءات والدراسات المتوافرة، على أنّ مستويات المعيشة في لبنان قد تراجعت تراجعًا كبيرًا لدى الفئات الشعبيّة من كلّ الطوائف، بما فيها الموارنة[24]، خصوصًا في ظلّ تجميد الرواتب والأجور منذ العام 1996، وتزايد نسبة البطالة العامّة، خصوصًا، لدى العنصر الشابّ[25].

35.  وتقدّر دراسةٌ حديثة[26] “أنّ متوسّط دخل الأسرة الشهريّ عند الموارنة في لبنان قد انخفض من 1،584،000 ل.ل. في العام 1997[27]، إلى 1،124،000 في العام 2003[28] أيّ تراجع بنسبة 29٪ في أثناء هذه المدّة، كما تراجعت القدرة الشرائيّة لمتوسّط دخل الأسرة عند الموارنة في لبنان بنسبة 34،3٪ بين 1997 و 2003. و1،7 ٪ فقط من الأسر المارونيّة في لبنان بلغ دخلها الشهريّ ثلاثة ملايين ل.ل. (2000$) وما فوق في العام 2003، وقد بلغ الدخل الوسيط لدى الأسر المارونيّة في لبنان 983،000 ل.ل. العام 2000، ممّا يعني أنّ الدخل الشهريّ لـ 50٪ من هذه الأسر أصبح أدنى من 983،000 ل.ل. في حين أنّ خط المطلق في لبنان يقدّر بـ 1،246،000 ل.ل. وهذا يدلّ على أنّ عشرات آلاف الأسر المارونيّة أصبحت تعيش تحت هذا الخط. إنّ فئة من الموارنة لا يستهان بها، تعمل في الزراعة. والدخل الشهري لدى الفرد العامل في هذا القطاع انخفض من 503،000 ل.ل. العام 1997 إلى 284،000 العام 2000، من جرّاء الأزمة الحادة التي تعاني منها الزراعة بسبب سياسة الباب المفتوح التي تشجّع المنافسة الخارجيّة غير الشريفة للإنتاج الزراعيّ اللبنانيّ”.

وتشير الدراسة نفسها إلى أنّ أعلى معدّل للبطالة في لبنان، هو في محافظة جبل لبنان، ذات الغالبيّة السكانيّة المارونيّة (12٪ مقابل المعّدل العام بواقع 9،9٪ على صعيد لبنان)، كما أنّ العاطلين عن العمل في هذه المحافظة، يؤلفِّون 52،2٪ من مجموع العاطلين عن العمل في لبنان. وتشير الدراسة إلى الوضع الاقتصاديّ والاجتماعيّ التعيس الذي يعانيه المسيحيّون في الشريط الحدوديّ، وبخاصّة الموارنة، كما تؤكّده بالأرقام دراسة مركز أبحاث معهد العلوم الاجتماعيّة في الجامعة اللبنانيّة، والمؤسّسة الوطنيّة للإستخدام، عن العام 2002.

وبناءً على هذه المعطيات، نعرض فيما يلي لأهمّ المجالات التي يجب أن نلتفت إليها في الميدان الاقتصاديّ، بناءً على روحيّة الإرشاد الرسوليّ، وفحوى عظات غبطة البطريرك.

الفصل الثاني : تطلّعات مستقبليّة واقتراحات 

أوّلاً: طرح نظرة بديلة ومتوازنة إلى الاقتصاد اللبنانيّ

1. تأكيد المبادئ والقيم الخاصّة بالكنيسة في الحياة الاقتصاديّة والاجتماعيّة وتحديد مواقع الإنحراف

أ. العودة إلى معايير أخلاقيّة في الحياة الاقتصاديّة والاجتماعيّة

36.  يعلن المجمع أنّه لا بدّ من موقف جريء، حول الشؤون الاقتصاديّة والاجتماعيّة، يعادل، بأهمّيّته، الموقف الذي لم تتّخذه الكنيسة المارونيّة في الوطن كما في المهجر، في ما يتعلّق بضرورة استرجاع لبنان سيادته، كاملة غير منقوصة، عن طريق إزالة الوصاية المفروضة عليه. إنّ مثل هذا الموقف الحازم، من قبل الكنيسة المارونيّة، في إدانة الممارسات الماليّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة التي أدّت إلى تفشّي الفساد وسوء الأخلاق، وتركّز الثروات الهائل في أيدي عددٍ محدودٍ من المواطنين، إستكمالاً لما كان قد حصل خلال الحرب من أعمال نهب وجمع ثروات بطرقٍ غير شرعيّة، سيكون له أثرٌ كبيرٌ في النفوس، وسيؤثّر على الجوّ العام ومن شأنه، كذلك، أن يوحّد الخطاب السياسيّ في البلاد، ويزيل الأوجه الطائفيّة عنه.

  1. وهذا يتطابق مع ما ورد في رسالة أربعون سنة: “لا ريب في أنّ رسالة الكنيسة هي أن تقود البشريّة إلى السعادة الأبديّة، لا إلى ازدهارٍ عابر وحسب، وهي حتى لا تدّعي الحقّ بالتدخل في إدارة الشؤون الزمنيّة بدون سببٍ وجيه[29]. لكنّها لا تستطيع، مهما كان الثمن، أن تتخلّى عن المهمة التي أوكلها الله إليها، والتي تفرض عليها التدخّل، لا في الأمور التقنيّة، حيث لا وسائل لها ملائمة، ولا كفاية، بل في كلّ ما يتعلّق بالشريعة الأخلاقيّة. ففي هذا المجال، ينبغي القول إنّ وديعة الحقّ الموكلة إلينا من علُ، والواجب الخطير الملقى على عاتقنا في إعلان الشريعة الأخلاقيّة وتفسيرها والتبشير بها، بالرغم من كلّ شيء، أمران يُخضعان لسلطتنا النظام الاجتماعي والنظام الاقتصاديّ على حدٍّ سواء[30]”.

لقد غاب عن السّاحة الاقتصاديّة اللبنانيّة، في العقود الأخيرة، الشعور بالتضامن والتكافل، كما تلاشى تطبيق المبادئ الأخلاقيّة في الحياة الاقتصاديّة، والأمران من صلب تعاليم المسيحيّة في الشأن الاقتصاديّ. وقد ورد أيضًا في رسالة “أربعون سنة”: “إن كانت العلوم الاقتصاديّة والنظام الأخلاقيّ يخضعان، كلّ منهما في مجاله، لمبادئ خاصّة، فمن الخطأ الجسيم القول إنّ النظام الاقتصاديّ والنظام الأخلاقيّ بعيدان أو غريبان الواحد منهما عن الآخر، بحيث إنّ الأوّل لا يمتّ إلى الثاني بأيّ صلة”.

“ولا شكّ في أنّ القوانين الاقتصاديّة المبنيّة على طبيعة الأشياء، وعلى مؤهلات النفس والجسد، تبيّن لنا ما هي الأهداف التي تبقى خارج نطاق النشاط البشريّ، في هذا المجال، وما هي الأهداف التي يمكن أن يسعى إليها هذا النشاط، والوسائل التي تساعده على تحقيقها”.

“أمّا العقل البشريّ، من جهته، فيستنتج بوضوح، من طبيعة الأشياء، ومن طبيعة الإنسان الفرديّة والاجتماعيّة، ما هو الهدف الأسمى الذي وضعه الخالق للنظام الاقتصاديّ بمجمله (مع احترام خصوصيّة كلٍّ منهما)”.

“وحدها الشريعة الأخلاقيّة تطلب منّا أن نسعى، في مجالات نشاطنا المختلفة، إلى الأهداف الخاصّة التي نرى أنّ الطبيعة قد فرضتها، أو بالأحرى فرضها الله، خالق الطبيعة، وأن نُخضعها كلّها، في تناسقٍ تام، بعضها مع بعض، للغاية السامية والنهائيّة التي رسمتها الطبيعة لجهودنا كلّها. وإنّ تنفيذ هذه الشريعة بأمانة يجعل كلّ الأهداف الخاصّة المنشودة في الحقل الاقتصاديّ، إن من قِبَل الأفراد أو من قبل الجماعة، تتوافق توافقًا تامًّا، في إطار نظام الأهداف الشامل، وتساعدنا بفاعليّة على الوصول، تدريجيًّا، إلى غاية الغايات، إلى الله تعالى، الذي هو، لنفسه ولنا جميعًا، الخير الأسمى الذي لا ينضب”[31].

38.  والجدير بالملاحظة، هنا، أنّ المبادئ الاقتصاديّة المنصوص عليها في اتفاق الطائف، تتفق، تمامًا، مع موقف الكنيسة الذي يؤكّده دائمًا غبطة البطريرك في مختلف عظاته. فالإتفاق، الذي أُدخل معظم نصّه في الدستور، يطالب بتحقيق اللامركزيّة الإداريّة وبالتنمية المتوازنة بين كلّ المناطق اللبنانيّة، وهي التنمية التي افتقدناها في لبنان في المئة سنة الماضية، حيث تركزت النشاطات الاقتصاديّة في العاصمة وفي وبعض مناطق جبل لبنان، وحيث تزايد، على نحوٍ كبيرٍ جدًّا، الفرق في المداخيل والثروات والممتلكات بين اللبنانيّين. ولم يكن زمن الحرب، ومن ثمّ السياسات النقديّة والاقتصاديّة المطبّقة بعد الحرب، إلاّ تكملةً لتشوهاتٍ اقتصاديّة واجتماعيّة، من شأنها إضعاف الكيان اللبنانيّ، وتعريضه لمزيدٍ من شراء الأملاك العقاريّة من قبل غير اللبنانيّين، ما يؤثّر في بنية البلاد الاقتصاديّة والاجتماعيّة والحضاريّة.

39.  إنّ لبنان قد تميّز، منذ عهد الإستقلال، بتدهور الأخلاق الاقتصاديّة في بعض أوساطه التي ترفض أن تسري عليها قوانين الدولة، كما ترفض العمل بأرباح معتدلة. وقد ازدادت هذه الميزة السلبيّة في حياتنا الوطنيّة، بعد الحرب، إلى حدّ أنّ الفساد والمضاربات والصفقات غير المشروعة أصبحت شطارة اقتصاديّة وماليّة، لا تشكو عيبًا في نظر الكثيرين، إذ إنّ الخطّ الفاصل بين الحلال والحرام في الحياة الاقتصاديّة قد زال تدريجيًا من الحياة العامّة والخاصّة، وهذا مخالف تمامًا للتعاليم المسيحيّة.

40.  واللافت هنا أنّ الحركات الدينيّة الإسلاميّة، أمعتدلة كانت أم متطرّفة، رغبةً منها في استمالة الفئات الشعبيّة الفقيرة إلى صفوفها، تركّز في خطابها السياسيّ والدينيّ، على الأخلاق الاقتصاديّة، وضرورة تطبيق الشريعة الإسلاميّة، لكبح جماح المضاربين والذين يسيئون إلى الاقتصاد بأعمالهم الطفيليّة والضّارة. ولا ننسى أنّ التفاوت في المداخيل أخذ في لبنان، كما في الأقطار العربيّة الأخرى، شكلاً مأساويًّا، في الظروف الراهنة. لذلك، لا بدّ من أن يبادر أفراد المجتمع، على اختلاف طوائفهم وانتماءاتهم، إلى رفع شعار التعاضد الاجتماعيّ من أجل بناء وطن المستقبل، إلى المطالبة بسلوك اقتصاديّ نزيه يمكّن لبنان من النهوض وتجاوز الوضع المأساويّ الذي يتخبّط فيه. وأبناء الكنيسة مطالبون بالقيام بواجب التعاضد، على أن يوجَّه النداء، بإلحاح إلى لبنانيّي المهجر الذين تتوافر لديهم الإمكانات الماديّة الضخمة[32].

ب. الموقف من النظام الضريبيّ وضرورة تعديله

41.  إنّ النظام الضريبـيّ اللبنانيّ هو من أشدّ الأنظمة الضريبيّة هشاشةً في العالم، إذ إنّ أعباءَه تقع على الفئات المحدودة الدخل، بسبب ارتكازه على الضرائب غير المباشرة، وبسبب تهرّب جزءٍ كبير بين الفئات الميسورة من دفع القليل الذي يترتب عليها من ضرائب مباشرة. ولا يمكن بناء الأوطان بدون نظامٍ ضريبيّ عادل وفعّال، يأخذ من كلّ إنسان ما يتناسب ومستوى دخله وثروته، لكي تكون للدولة الموارد الكافية لحماية الفئات المحدودة الدخل أو الفئات التي تعمل في قطاعات اقتصاديّة قليلة المردوديّة. كما لا يمكن تنظيم دفاع البلاد على مستوى الأخطار الخارجيّة التي تهدّده، إذا كان النظام الضريبـيّ لا يؤمّن الواردات المطلوبة من أجل ذلك. وفي تقديرنا، لا بدّ من موقف صريح يطالب بوجوب تعديل النظام الضريبيّ، وضرورة قبول الفئات الميسورة دفع ما يتوجّب عليها من ضريبة على المداخيل، مهما كانت مصادرها، على أن تقوم الدولة بمحاربة الفساد الكبير في الدوائر الحكوميّة التي، من خلالها، يتمّ التهرب من دفع الضريبة.

42.  إنّ عبء هذا النظام يقع على الفئات العاملة والمنتجة، من عمّال ومستخدمين وأصحاب مهن حرّة وصناعيّين، إذ لا يطول الفئات التي تؤّمن مداخيلها من التوظيفات الماليّة أو من أرباح المتاجرة في أسواق المال أو في العقارات، إلاّ على نحوٍ هامشيّ. وهذا يشير إلى هيمنة مصالح الفئات الميسورة ذات الأرصدة الماليّة الكبيرة، أو الممتلكات العقاريّة، على النظام الاقتصاديّ في لبنان، مما يعرقل النمو الاقتصاديّ وخلق فرص العمل.

إنّ قضيّة العدالة الضريبيّة وفعاليّة النظام الضريبيّ، من الناحية الاقتصاديّة، تعدّ من القضايا المزمنة في لبنان، وهي تتطلب معالجة سريعة، ولا يمكن الكنيسة أن تغفلها.

فالحلم بلبنان، وطنًا يمكن أن يصبح “منطقة حرّة” لا ضريبة فيها، ولا قوانين اجتماعيّة، ولا رقابة اقتصاديّة، حلم يناهض قيام أيّ دولة، وأيّ مجتمع حضاريّ، يشارك في تقدّم الإنسانيّة. وهو، في النهاية، تنازل عن حضور لبنان ودوره كوطن، ولا يمكن أن تقبل به الكنيسة المارونيّة، وهي التي عملت، طوال القرنين الماضيين، لكي يولد لبنان، بكلّ طوائفه، دولةً مستقلة، ومجتمعًا فاعلاً في محيطه العربيّ وفي الحضارة الإنسانيّة.

ج. السياسة النقديّة وقضيّة الدين العام

43.  إنّ النظام النقديّ اللبنانيّ، كما تمّت إعادة بنائه منذ العام 1991، أمّن استقرار سعر الصرف الذي ارتاح إليه اللبنانيون، بعد ما أصاب معظمهم من خسارات في أموالهم، بالليرة اللبنانيّة، من جرّاء المضاربة الشعواء على العملة الوطنيّة، ما بين 1984 و1992- 1993. غير أنّ هذا النظام الجديد الذي أقامته الدولة وشجّعت عليه، أحدث فروقات شاسعة، في بنية الفوائد، بين الفوائد على الليرة، والفوائد على الدولار، بالرغم من ثبات سعر الصرف الذي أمّنته السلطات النقديّة، فأدّى إلى تشوّهات اقتصاديّة وماليّة كبيرة، إستفاد منها بعض القطاعات والفئات، على حساب الاقتصاد الوطنيّ.

يصعب تفسير هذه التشوّهات في بنية الفوائد، لاسيّما، بعد تراجع التضخّم واستقرار الأوضاع الأمنيّة والسياسيّة، في لبنان، وبعد إعادة تكوين وَفْر احتياطات مصرف لبنان من العملات الصعبة، وقيامه بتأمين ثبات سعر الصرف باستمرار. وكان ينبغي، بل كان بالإمكان تجنّب هذه التشوّهات أو جعلها أقلّ كلفة للاقتصاد الوطنيّ، فحاملو سندات الخزينة بالليرة اللبنانيّة، ذات الفوائد العالية، كانوا يحقّقون أرباحًا كبيرة. ومن يحوّل أمواله من الدولار ويودعها بالليرة اللبنانيّة كان يحقّق، أيضًا، أرباحًا ضخمة، ويستفيد من فرق الفائدة بين العملتين، ثمّ يعود إلى الدولار، بعد جني الأرباح الهائلة. إنّ الآليّة السلبيّة التي اتُّبعت، هي المسؤولة عن جعل الدين العام بالليرة، الذي لم يكن يتعدّى ما يعادل ملياريّ دولار، مع بداية عام 1993، يبلغ ما يعادل 19 مليار دولار، في العام 2004، بالإضافة إلى زيادة الدين المحرّر بالعملات الأجنبيّة الذي بلغ أكثر من 18 مليار دولار، في حين لم يتعدّ نصف المليار، العام 1992. هذا، مع الإشارة إلى مجمل العجز الماليّ الناتج من عمليات الموازنة والخزينة الذي لم يتعدّ، في هذه المدّة مبلغ 11763مليار ليرة (أيّ ما يعادل 7،8 مليار دولار). وإذا اعتبرنا أنّ هذا العجز بإضافة الدين عليه، في نهاية 1992، (أيّ 3 مليار دولار) هو أصل الدين، فقد زاد أصل الدين 3 أضعاف، إبّان هذه المدّة، من جرّاء دفع الدولة مبلغ 39 مليار ليرة من الفوائد (أيّ ما يعادل 26 مليار دولار).

لذلك، لا بدّ من أن تكون القضيّة النقديّة، وما أنتجته من دينٍ على لبنان، مدار اهتمام أوسع في الشأن الاقتصاديّ، لأن نهضة لبنان الاجتماعيّة والاقتصاديّة مرتبطة بإيجاد الحلول الناجعة، وتغيير المسلك الاقتصاديّ والمالي والنقدي الذي أصاب المجتمع بأضرارٍ جسيمة.

د. النظام التربوي وحق البقاء في الوطن

44.  يمتاز لبنان بنظام تربوي أمَّن لجزءٍ من أبنائه سبل العلم الحديث والمعرفة، مما سمح بنجاحاتٍ فرديّةٍ كبيرة، بخاصة في بلاد الانتشار. والحقيقة أنّ المؤسسات التربويّة الخاصة قد اتجهت، على نحوٍ متزايد، في السنين الماضيّة، إلى تهيئة اللبنانيين للهجرة، وتمكينهم من التكيّف مع المعايير الأكاديميّة في الجامعات الكبرى بالدول المتقدّمة.

45.  ومع الإقرار بفوائد الهجرة من الناحية الماليّة، نظرًا إلى الأموال التي يحوّلها المغتربون لحساب ذويهم في الوطن، فيجب على المؤسّسات التربويّة أن تسعى من أجل إبقاء العقول والقدرات البشريّة التي يتم تكوينها وتدريبها، في لبنان. فالهجرة ليست ظاهرةً حتميّة، بل هي مرتبطة، إجمالاً، بحالة البلاد وسوء الأداء الاقتصاديّ فيها، من نقصٍ كبيرٍ في الريادة الاقتصاديّة وخلقِ فرص العمل. والقطاع الخاصّ، في لبنان، لا ينفق، بالشكل الكافي، على الأبحاث والتطوير، وإقامة المختبرات، ومنح العاملين في المنشآت الاقتصاديّة فرصًا إضافيّة، لزيادة معارفهم وخبراتهم. ولا نرى في لبنان، كما هو الحال في الدول المتقدّمة، هذه العلاقة الوثيقة بين الجامعات ومعاهد التدريب المهنيّ وشركات القطاع الخاصّ والوزارات ذات الطابع التقنيّ (الزراعة، الموارد المائيّة والكهربائيّة، الصناعة، إلخ…) من أجل وضع خطط في الأبحاث والتطوير، لتحسين جودة المنتوجات المحليّة، وحماية البيئة والموارد الطبيعيّة وتراث البلاد الأثريّ وإقامة نشاطات إنتاجيّة جديدة (زراعيّة، صناعيّة، خدماتيّة، طبيّة، إلخ…) تؤمّن فرص عمل إضافيّة، كلّ سنة، من شأنها استيعاب المتخرجين من الجامعات والمعاهد.

46.  لذلك يشهد لبنان هذا النـزيف من القدرات البشريّة اللبنانيّة التي تهاجر بحثًا عن فرص عمل مناسبة، أو عن مستوى أكاديميّ أو مهنيّ للمتخرجين. يجب أن نعمل لكي يصبح حقّ البقاء في الوطن حقًّا دستوريًّا مقدسًا، أن يعمل القطاع الخاص والمؤسّسات التربويّة وأجهزة الدولة المختصة، يدًا واحدة، لاستثمار قدراتنا البشريّة، محليًّا، والحؤول دون شتات العائلات اللبنانيّة في أنحاء العالم، مما يخلق حالة نفسيّة خاصّة لدى اللبنانيّين الذين يعيشون نوعًا من الانفصام بين التعلّق الفطريّ بالوطن، والإنجراف نحو الهجرة، بسبب تفشّي الفساد، وانعدام فرص العمل اللائقة، وجو السيادة والحريّة السياسيّة المنقوصتين.

هـ. أهميّة التلاحم مع جاليات المهجر

  1. صحيح إنّ موارد لبنان الطبيعيّة ليست كبيرة، ولكنّ القدرة اللبنانيّة على توليد الموارد جبّارة، لاسيّما بالتعاون مع جاليات المهجر، إنّ عددًا كبيرًا من أبناء الطوائف اللبنانيّة ينشط نشاطًا بارزًا بالخارج، على خلاف الوضع الذي كان قائمًا حتى الخمسينيّات من القرن الماضي، حيث كان أبناء المهجر، في معظمهم، من المسيحيين. والجدير بالملاحظة أيضًا، أنّ مستوى الثروة، لدى جاليات المهجر، قد زاد ازديادًا ضخمًا، لاسيّما بفضل عصر الإزدهار النفطيّ، أو بفضل الجهود المبذولة في أفريقيا وفي أمريكا اللاتينيّة.

لكنّ هذه العوامل الإيجابيّة التي يمكن تسخيرها لإخراج الوطن من وضعه الاقتصاديّ المأساويّ الموصوف سابقًا، لن تتحول إلى قوّة إعادة بناء الوطن، على نحوٍ رصين، إلا إذا رفدتها رؤية اجتماعيّة واقتصاديّة واضحة، وتمّ القضاء على الفساد الاقتصاديّ الذي يقف حائلاً دون رغبة الكثير من اللبنانيّين المغتربين في العودة إلى الوطن، والإستقرار فيه، واستثمار أموالهم وقدراتهم البشريّة في بنائه وتأمين ازدهاره.

2. نحو مجتمعٍ إنتاجيّ

48.  يتمتّع لبنان بمميزاتٍ طبيعيّةٍ هامّة (جمال الطبيعة، أهميّة الموقع الجغرافيّ، البحر الأبيض المتوسط، التربة الخصبة، وفرة المياه العذبة)، بالإضافة إلى ما يتوافر لديه من قدراتٍ بشريّةٍ كبيرة بفضل انفتاح أبنائه على الثقافة والعلم، منذ قرون، وتشييد المؤسّسات التربويّة الراقية فيه. وقد قامت الكنيسة المارونيّة بدور متميّز في هذا المجال، إذ كانت رائدة في إدخال التربية والعلوم الحديثة إليه، عبر مدارسها ومطابعها وجامعاتها. غير أنّ هذه الإيجابيات لا يستفيد منها لبنان كفافًا ، لأننا نتعدّى على مواردنا الطبيعيّة بشكلٍ عشوائيّ: (الكسّارات، التعدّيات على الشاطئ البحريّ والشواطئ النهريّة، إستخدام الرمول، تبذير المياه وتلوثها، عدم معالجة النفايات بطريقة جديّة). وإذ تقوم المؤسّسات التربويّة بجهدٍ مشكور، لتأهيل القدرات البشريّة الشابّة، تُقْدِم فئات واسعة من الشباب على هجرة الوطن، لفقدان فرص العمل التي تليق بقدراتهم وطموحاتهم المهنيّة.

49.  ويرى الكثيرون أنّ الهجرة ظاهرة حتميّة، نظرًا إلى ضيق رقعة البلاد وعدم توافر المواد الأوليّة فيها. وهذه، طبعًا، نظرة حسيرة. إذ يجب، أيضًا، أن يُنظر إلى الهجرة على أنّها مكلفة للمجتمع، فمردود الأعباء الماليّة التي أُنفقت لتربية الشباب المهاجر وتعليمه، لم يأت لصالح لبنان، بل إنّ دول الإغتراب هي المستفيدة من هجرة الأدمغة إليها. ولو بقيت هذه الأدمغة والكفايات في لبنان، وعملت فيه بقدراتها، لحصَّل المجتمع اللبنانيّ مردودًا يفوق ما تبلغه الأموال التي يحوّلها اللبنانيون من المنتشرين في المهجر، إلى ذويهم في الوطن.

50.   لا يخفى على أحدٍ أنّ العديد من البلدان الصغيرة التي تخطّت محدوديّة رقعتها وفراغها من المواد الأوليّة، وأقامت اقتصادًا انتاجيًّا مكثّفًا، باتت من المراكز التكنولوجيّة الصناعيّة المرموقة في الاقتصاد الدوليّ. نذكر منها، على سبيل المثال، شبه جزيرة سنغافورة، الدانمارك، ايرلندا. وكذلك الأمر بالنسبة إلى تايوان، وهي جزيرة صغيرة، كانت في عداد البلاد الأعظم فقرًا، ومجتمعها كان ريفيًّا صرفًا، وقد أصبحت، اليوم، من بين العمالقة في صناعة الإلكترونيّات في العالم. هذه الأمثلة تدلّ، دلالةً واضحة على أنّه ليس هناك من حتميّة في ظاهرة الهجرة، وأنّ ضيق مساحة البلد، وفراغه من المواد الأوليّة، أو المنجمية، لا يؤدِّي بالضرورة إلى قيام أبنائه بهجرةٍ متواصلة. لذلك، يمكن لبنان أنّ يقلب الإتجاهات السلبيّة التي يسلكها ، اقتصاديًّا واجتماعيًّا، ليؤسّس نهضةً إنتاجيّةً شاملة، تعتمد على مهارات أبنائه وقدراتهم الخلاّقة. ونحن نرى هذه القدرات تزدهر، خارج لبنان، على نحوٍ يثير إعجاب العالم، ولكنّها تبقى مكبوتة بلبنان، في غياب الجو الإنتاجيّ الجدّي الذي نفتقده، بخاصّة، منذ نهاية الحرب. وبطبيعة الحال، إنّه في حال حصول قناعةٍ لدى اللبنانيّين، بضرورة الخروج من الوضع الحاليّ، فإنّ ذلك سيتطلب تحقيق إصلاحاتٍ إضافيّة، بالنسبة إلى التي أشرنا إليها سابقًا، نذكر منها، على سبيل المثال لا الحصر، الأمور التالية:

أ. إقامة سياسة دعم شاملة للنشاطات الإنتاجيّة

51.  يمكن أن تعمل الدولة ومؤسّسات التمويل اللبنانيّة على سياسة دعمٍ، تشمل كلّ نشاط إنتاجيّ جديد، خارج القطاعات الخدماتيّة التقليديّة، كالتجارة والسياحة، في العاصمة وجوارها، والمشاريع العقاريّة لبناء شقق فخمة أو مجمّعات تجاريّة. ومن أهم مكونات سياسة الدعم، إقامة صناديق استثماريّة مناطقيّة، للمشاركة في رأس مال منشآت إنتاجيّة جديدة، وتقديم القروض بشروطٍ مقبولة، إلى الذين يبادرون إلى هذه النشاطات، وإقامة المناطق الصناعيّة والخدماتيّة في كلّ بقعة، وتوفير كلّ التسهيلات الإنتاجيّة، من طرقاتٍ وكهرباء، واتصالات سلكيّة ولاسلكيّة، وإعفاءات جزئيّة ومؤقتة من بعض الرسوم والضرائب.

ب. التعاون المتواصل بين المؤسّسات التربويّة والقطاع الخاص لجعل لبنان مركز تفوّق إنتاجيّ

52.  إنّ الدخول في النهضة المرجوّة يجب أن يهدف إلى جعل لبنان مركز تفوّق تقنيّ وتكنولوجيّ مرموق ومشهور، إقليميًّا وعالميًّا، كما هو الحال في بعض الدول التي ذكرناها آنفًا، كمثال للنهضة الإنتاجيّة الناجحة.

        ج. تأمين الحماية للنشاطات الإنتاجيّة

53.  في إطار النهضة المرجوّة، يجب العمل على حماية النشاطات الإنتاجيّة من أيّ مضاربة غير شرعيّة مصدرها السلع والخدمات الأجنبيّة، لاسيّما، في المجال الزراعيّ والصناعيّ، حيث قامت الدولة، في السنين العشر الأخيرة، بتوقيع اتفاقات لتحرير المبادلات التجاريّة من القيود، مع دول الجوار والإتحاد الأوروبيّ، بدون أن تأخذ في الحسبان ما آلت إليه القطاعات الإنتاجيّة من تردٍّ، وبدون أن تقف الدولة اللبنانيّة موقفًا صلبًا عندما لا تطبقّ الدول الأخرى تطبيقًا سليمًا مضامين الاتفاقيّات التجاريّة التي وقّعناها معها ، فتصبح الأخيرة الجهة المستفيدة، حصريًّا، وتفلس الشركات اللبنانيّة المنتجة، فنفقد المزيد من فرص العمل.

د. مكافحة الفساد في علاقة القطاع الخاصّ بالقطاع العامّ

54.  يجب مكافحة الفساد بوسائل جديّة، تتعدّى حدود الكلام، والعودة إلى العمل بقواعد الأخلاقيّة الاقتصاديّة المعروفة التي ما انفكّت الكنيسة تعلنها، عبر رسائلها العامّة. وهي مبادئ تلتقي، أيضًا، قواعد الليبراليّة الاقتصاديّة الكلاسيكيّة التي تدعو إلى الشفافيّة في التعامل الاقتصاديّ والماليّ، وتطبيق قواعد أخلاقيّة، ومنع الممارسات الإحتكاريّة، وتأمين تعادل الفرص، لكي يؤمّن اقتصاد السوق الرفاهية العامّة. وتؤكّد النظريات الاقتصاديّة الحديثة ضرورة مكافحة الفساد، في كلّ من القطاعين العامّ والخاصّ، وفي علاقة كلّ منهما بالآخر.

وفي هذا المضمار، يجب أن تصبح علاقة الدولة بالقطاع الخاصّ علاقةً تعاون وتكامل تقوم على التشاور المستمر لبلوغ النهضة الإنتاجيّة المرجوّة، بدلاً من أن يسعى بعض أفراد هذا القطاع ومؤسّساته، لكي يحصل من الدولة على امتيازاتٍ خاصّة، ومواقع احتكاريّة، تؤمّن الأرباح السهلة والضخمة على حساب المستهلك اللبنانيّ، وعلى حساب مبدأ المنافسة العادلة. وفي هذا المضمار، نشير إلى أنّ لبنان، بحجمه الصغير، لا يتحمل تشابك المصالح الخاصّة والعامّة، كما يحصل منذ سنين، بتبوّؤ كبار رجال المال والأعمال مراكز سياسيّة هامّة في كلّ من السلطتين، التنفيذيّة والتشريعيّة. وإذا كان هذا الأمر غير محبَّذ، حتى في الاقتصادات الكبرى، مثل الولايات المتّحدة أو إيطاليا، فالحريّ أولى أن لا يحصل في نظام اقتصاديّ محدود، مثل اقتصاد لبنان، إذ ينتج منه، حتمًا، تفشّي الفساد والرشوة والخلط المكلف بين مصالح السياسيّين الخاصّة والمصلحة العامّة.

هـ. تحقيق الإصلاح الإداريّ

55.  من المكونات التي لا بدّ منها للنهضة الإنتاجيّة الشاملة، إصلاح إداريّ شامل وجديّ، ترافقه زيادة رواتب القطاع العامّ، منعًا لسهولة الإفساد وتقديم الرشاوى، وتحقيق اللامركزيّة بنقل بعض مهامّ الدولة، في الشأن الاجتماعيّ والتربويّ، إلى البلديات واتحادات البلديات، ونقل جزءٍ من الموظفين في جهاز الدولة المركزيّ إلى الأجهزة المحليّة، وترشيد الموظفين في الإدارات المختلفة.

و. تحرك الكنيسة من أجل إصلاح المسار الاقتصاديّ اللبنانيّ المشوّه

56.  من نافل القول إنّ مثل هذا التغيّير في تقاليدنا الاقتصاديّة، وتحقيق الإتجاهات الإصلاحيّة المطلوبة لبلوغ الغاية المرجوة، لن يتحقق بسهولة، نظرًا إلى الإتجاهات الحديثة في الاقتصاد اللبنانيّ منذ الإستقلال. ولكن لا يوجد أيّ سببٍ وجيه لبقاء لبنان في حالة عجز، أمام ما أنجزته الدول المذكورة آنفًا من رقيّ ونهضة، رغم صغر حجمها وعدم تمتعها بالمواد الأوليّة. بعد هذه المراجعة الاقتصاديّة، وفي ضوء مبادئ الكنيسة وتراثنا المارونيّ، لا بدّ من أن يسارع اللبنانيّون إلى تحقيق طموحات أجدادهم وطموحات الجيل الشاب في إيجاد الحياة الكريمة والمستقرّة في الوطن، بدلاً من الهجرة بحثًا عن العمل والعيش الكريم.

في هذا المجال، يتوق اللبنانيّون، إلى تغيير مسار بلادهم الاقتصاديّ، وإلى بقاء أبنائهم في الوطن، يعيشون حياةً كريمة، مطمئنّة. والكنيسة المارونيّة تستطيع أن تقوم بدور رياديّ في هذا الميدان، بالإستناد إلى تراث الكنيسة العالميّ، وتراثها الخاصّ في الشؤون الاقتصاديّة، هذا التراث الذي سَهّل نشر التعليم وقيم العمل الخلاّق في صفوف أبناء الطائفة، بلبنان، وأدّى إلى بلوغ اللبنانيّين مستويات معيشة مرموقة، قبل أيّ بلد آخر في الشرق.

ثانيًا: إقتراحات من أجل تصحيح المسار الاقتصاديّ اللبنانيّ

1. نشر مواقف الكنيسة وتعميمها بكلّ ما يتعلّق بالإصلاح الاقتصاديّ

57.  هناك توق كبير، عند اللبنانيّين، إلى أن تكون مواقف الكنيسة، من الإنحرافات وسوء الأخلاق في الحياة الاقتصاديّة، على نحوٍ ما هي من الوضوح والحزم اللذين يظهران على المستوى السياسيّ. فللكنيسة قوّة معنويّة كبيرة يجب أن تأخذ مداها، لدى الطائفة والمسيحيين، أوّلاً، وعلى صعيد الوطن ككلّ، ثانيًا. وعلى الإنسان المسيحي أن يكون قدوةً في الأخلاقيات الاقتصاديّة والماليّة، وألا ينجرّ إلى جو الصفقات، والمضاربات، والتبذير والفساد الذي أصبح يهيمن على قطاعات واسعة من اقتصاد البلاد. وأن يصبح قدوةً في مكافحة هذا الجو الذي يؤدّي إلى فقدان الثقة بلبنان، وبالتالي إلى استمرار إضعاف الكيان اللبنانيّ وقدرة صموده أمام الأطماع التي تهدّده.

58.  ويرى المجمع ضرورة العمل لكي تكون ممتلكات الكنيسة وقدراتها، في الميدان الاقتصاديّ والتربويّ، وسيلةً أساسيّة لتأمين استمراريّة تأصُّل المسيحيّين في تراب أجدادهم، ومساعدتهم على عدم تركهم حيازاتهم الزراعيّة في الأرياف، أو بيع عقاراتهم في المدن، فاللبنانيون ينتظرون من الكنيسة أن تعود إلى سابق دورها، بالحفاظ على مقوّمات الحياة الريفيّة والعيش الكريم، في جبال لبنان، والإسهام عبر إيجاد فرص العمل في المدن كما في الريف، في النهضة الإنتاجيّة المنشودة. وعلى هذا الأساس، تمّ وضع المقترحات الواردة أدناه.

2. اقتراحات من أجل تجهيز قدرات الكنيسة الاقتصاديّة واستنفارها

59.  نظرًا إلى ما للكنيسة والرهبانيّات من تراثٍ كبيرٍ، أسهم في إرساء دعائم الحياة الاقتصاديّة في البلاد على أسسٍ متينة، وقيم أخلاقية، يرى أبناء الطائفة في الكنيسة إمكانات تساعدهم على التمسّك بوطنهم والبقاء فيه وتأمين العيش الكريم، عبر المعالجات التالية:

أ. تفعيل المجالس الاقتصاديّة في الأبرشيّات

  1. استعمال ممتلكات الكنيسة والرهبانيّات وأوقافها للمساهمة في إيجاد فرص عمل وتأمين مستوى معيشة لائق، بخاصّة، في الأرياف، واستنفار المؤسّسات التربويّة ومعاهد التعليم المهنيّ والتقنيّ لدرس أوضاع أبناء الرعيّةً، واقتراح المشاريع والمبادرات والإجراءات التي تحسّن مستويات المعيشة، وتوقف هجرة الشباب. وعلى المجالس الاقتصاديّة أن تدرس، بدقةٍ وعناية، الأوضاع الاقتصاديّة والاجتماعيّة، في نطاق كلّ أبرشيّة، وأن تقوم بمسح ممتلكات الكنيسة ودراسة أوضاعها وسبل استغلالها واستثمارها، على نحوٍ يؤدي إلى خلق فرص العمل وتحسين الأوضاع المعيشيّة. وأن تدرس إمكانات التعاون مع منظمات العمل الأهليّ والبلديات وهيئات التمويل اللبنانيّة والأجنبيّة، من أجل تفعيل الحياة الاقتصاديّة، وقيام منشآت اقتصاديّة جديدة تعمل في كلّ الميادين.

ب. تحديث أساليب إدارة أموال الكنيسة وتطويرها

61.  إنشاء جهازٍ ماليّ استشاريّ، لدى البطريركيّة، لمتابعة إدارة أموال البطريركيّة والأبرشيات، والتنسيق في ما بينها، وإعطاء المشورة والتوجيهات في طرق استعمال قدرات الكنيسة الاقتصاديّة، لخدمة الرعيّة ودفع النهضة الاقتصاديّة المنشودة في البلاد من دون المساس بمبدأ استقلاليّة الأبرشيّات والرهبانيّات الماليّة. ولتحقيق ذلك يجب أن تتوافر للبطريركيّة المعلومات والبيانات حول أوضاع كلّ أبرشيّة، وأوضاع الأموال والممتلكات والوقفيّات العائدة للكنيسة والرهبانيّات، في لبنان وبلاد الانتشار، ووجهة استعمالها، على أن يعمل هذا الجهاز الاستشاريّ بالتعاون مع المجلس الاقتصاديّ والاجتماعيّ، ويقترح نظامًا لتوزيع الأموال، توزيعًا عادلاً، بين كلّ الأبرشيات، بحيث يتمّ وضع آليّة خاصّة لتعادل الإمكانات الاقتصاديّة في كلّ أبرشيّة حاجاتها وعدد سكّانها.

لقد قامت الأبرشيّات والبطريركيّة والرهبانيّات بجهود قيّمة في سبيل إدخال المكننة إلى إدارة الممتلكات، ومتابعتها من الناحية المحاسبيّة، ولكن تبدو الحاجة كبيرة إلى اعتماد طرق وأساليب فعّالة، لضمان مردود الممتلكات، وفع قيمته، وترشيد أوجه استعمال هذه الممتلكات لبلوغ الأهداف المنشودة، أي مساعدة أبناء الرعيّة للبقاء في الوطن، وعدم بيع عقاراتهم. ونظرًا إلى أهميّة الأموال الزمنيّة في حياة الكنيسة، لا بدّ من أن تتكيّف إدارة الممتلكات والأموال في الكنيسة والرهبانيّات، لا بحسب مقتضيات المرحلة الاقتصاديّة والاجتماعيّة الراهنة في لبنان وحسب، بل أيضًا بحسب التقنيات والإجراءات الحديثة المطبّقة في الشأن الاقتصاديّ والماليّ، بما فيه إنشاء مؤسسات اقتصاديّة جديدة تحتاج إليها البلاد والمواطنون لتأمين جميع نواحي التنمية.

ج. إنشاء مجلس للتنمية الاقتصاديّة والاجتماعيّة

62.  من أبرز مهامّ هذا المجلس رصد الإمكانات الماليّة والقدرات البشريّة، في الوطن وبين جاليات الانتشار، ووضع الخطط والتصوّرات من أجل تأمين التعاضد والعيش الكريم ووقف نزيف الهجرة، على أن يعمل المجلس بالتنسيق مع الجهاز المركزيّ لإدارة الأموال، لدى البطريركيّة، ومع المجالس الاقتصاديّة في لبنان وبلدان الانتشار.

ليست هذه الفكرة بجديدة، إذ سبق أن تمّ درسها من قِبَل لجنة من الخبراء، بالتزامن مع درس إمكانيّة إنشاء مؤسّسة عقاريّة تمويليّة، لشراء العقارات التي ينوي أصحابها بيعها، وهم ممّن ليس لهم جذور وصلات عائليّة وإنسانيّة في مناطق وجودها. سواء أكانت عمليات البيع هذه تحت ضغط الحاجة المعيشيّة أم طمعًا بالمال، أم بسبب فقدان الثقة بالوطن، والرغبة في الهجرة.

  1. ويرتكز هذا المشروع على المبادئ التالية:

‌أ.  اعتماد المشاركة الفعليّة بين أبناء الكنيسة المقيمين في لبنان، والمنتشرين في بلاد الإغتراب، داخل مجلس واحد، يسهم في أخذ القرارات الآيلة إلى حلّ المشاكل الحياتيّة والمصيريّة التي تهمّ أبناء الوطن.

‌ب.  اعتماد مبدأ الانتخاب والتوزيع الجيوغرافيّ والمهنيّ المتوازي للمرشحين إلى المشاركة في هذا المجلس.

‌ج. تكوين نظرة اقتصاديّة مستقبليّة، تساعد في تحويل المجتمع وجعله أكثر إنتاجيّة، وإقرار مبدأ تطوير البرامج والمشاريع التطبيقيّة، داخل هيكليّة جامعة ومتكاملة، وتنفيذها وفق سلّم أولويات، وتصميمٍ سنويّ، ضمن إطار خماسيّ أو عشراويّ، يكرّس أرضيّة تضامنيّة، تعالج، تقنيًّا، الشؤون الحياتيّة في قطاعات الاقتصاد والاجتماع والصحّة والتربيّة والثقافة والبيئة إلخ…

‌د.  إعتماد أصول علميّة متطورة لعمل المجلس المقترح إنشاؤه، مثل الإستقصاء، في لبنان وفي بلاد الانتشار، لتحديد نسيج أبناء الكنيسة الديموغرافيّ والاجتماعيّ، وإنشاء بنك معلومات، يستوعب أكبر موسوعة من المعلومات عن شؤون الكنيسة أبنائها.

‌ه.    اعتماد مبدأ الإعلام المستمر في شأن أعمال المجلس، والتعاون بينه وبين الطوائف الأخرى، وأجهزة الدولة.

‌و.   مركز المجلس والهيكليّة الإداريّة المفترض تكوينها لتسيير أعماله، وتمويل المشروع، ملحوظة في اقتراحات دراسة المشروع الأساسيّة.

د. ضرورة تطوير مجموعة قوانين الكنائس الشرقيّة وتحديثها

64.  صدرت مجموعة قوانين الكنائس الشرقيّة، بما فيها الجزء المتعلق بـ “أموال الكنيسة الزمنيّة” (الباب الثالث والعشرون) منذ العام 1990، ولم تكن مسيرة لبنان الاقتصاديّة، قد انحرفت فأوقعت الدولة في المديونيّة المفرطة. لذلك، تحتاج هذه الوثيقة إلى تكييف وتعديل، ليتماشى الباب الثالث والعشرون مع تحدّيات المرحلة الراهنة، بحيث يتمّ توسيع مجالس الأبرشيّات الاقتصاديّة وتفعيلها، وتتمّ الإشارة، بشكل واضح وشامل، إلى أهداف إدارة أموال الكنيسة الزمنيّة، وضرورة اعتماد الأساليب الحديثة في هذه الإدارة، والسماح بإقامة المنشآت الاقتصاديّة والماليّة التنمويّة الطابع، لتأمين رفاهية أبناء الكنيسة وتحقيق التنمية المتوازنة، قطاعيًّا ومناطقيًّا.

 

توصيات النصّ وآليات العمل

الموضوع

التوصية

الآليّة

1- استثمار القدرات البشريّة.

 

1-  أ: يذكّر المجمع بأنّه من خير المواطنين وواجبهم البقاء في وطنهم والإسهام في تطويره وتقدمه، فهذا يوفر لهم فرص عمل أفضل.

1-ب: يشجع المجمع على استثمار القدرات البشريّة محليًّا، والحؤول دون تشتّت العائلة في أنحاء العالم، والعمل على جعل لبنان مركز تفوّق تقنيّ وتكنولوجيّ، والإستفادة من أمثلة الدول التي طوّرت اقتصادها بالرغم من محدوديّة رقعتها وافتقارها إلى المواد الأوليّة، فأقامت اقتصادًا مكثّفًا إنتاجيًّا،كسنغافورة والدانمارك وإيرلندا والسويد وتايوان…

 

 

2- سياسة دعم النشاط الإنتاجيّ.

 

2- يدعو المجمع الدولة ومؤسّسات التمويل اللبنانيّة إلى العمل على سياسة دعم تشمل كلّ نشاط إنتاجي جديد خارج القطاعات الخدماتيّة والمشاريع العقاريّة. كما أنّه يدعوها إلى توفير القروض الميسرة للمؤسّسات الصغيرة والمتوسطة، وتأمين الأسواق لتصريف الإنتاج.

2-أ: إقامة صناديق استثماريّة مناطقيّة للمساهمة في رأس مال منشآت إنتاجيّة جديدة وتقديم القروض بشروط معقولة إلى المبادرين بهذه النشاطات.

2-ب: إقامة مناطق صناعيّة وخدماتيّة في كلّ منطقة، وتوفير كلّ التسهيلات الإنتاجيّة والإعفاءات الجزئيّة والمؤقتة، كرسوم الضمان الاجتماعيّ، وضريبة الدخل، وضريبة الطابع.

2-ج: العمل على حماية النشاطات الإنتاجيّة من أيّة مضاربة غير شرعيّة مصدرها السلع والخدمات الأجنبيّة، لاسيّما في المجالين الزراعيّ والصناعيّ.

 

 

3- تجهيز قدرات الكنيسة الاقتصاديّة وإستثمارها.

 

 

 

3- يدعو المجمع إلى إستثمار ممتلكات الكنيسة وقدراتها في الميدانين الاقتصاديّ والتربويّ كوسيلة أساسيّة للحفاظ على مقوّمات الحياة، ولاسيّما الريفيّة منها.

 

 

3-أ: العمل مع المجالس الاقتصاديّة في الأبرشيّات والرهبانيّات على مسح الممتلكات ودراسة أوضاعها وسبل إستثمارها.

3-ب: درس إمكانيات التعاون مع منظمات العمل الأهليّ والبلديات وهيئات التمويل اللبنانيّة والأجنبيّة من أجل تفعيل الحياة الاقتصاديّة.

3-ج: تفعيل الهيئة الاقتصاديّة العليا وتوسيع إطار عملها في الاستشارة وتقديم الأفكار.

4- النظام الضريـبيّ.

 

4- يذكّر المجمع بأنّ قضيّة العدالة الضريبيّة وفعاليّة النظام الضريـبيّ هي من القضايا المزمنة في لبنان وتتطلب معالجة سريعة.

 

4- يدعو المجمع إلى وجوب تعديل النظام الضريبّي وإلى ضرورة دفع الضريبّة، على أن تقوم الدولة بمحاربة الفساد الكبير في الدوائر الحكوميّة التي من خلالها يتم التهرّب من تسديدها.

5- الإصلاح الإداريّ.

5- يدعو المجمع الدولة إلى تحقيق الإصلاح الإداريّ الذي تنادي به في كلّ العهود.

5- اعتماد مبدأ الكفاءة والعدالة والثواب والعقاب.

6- إدانة الممارسات التي تؤدّي إلى تفشّي الفساد.

 

6- يشجب المجمع الممارسات الماليّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة التي أدّت وتؤدّي إلى تفشّي الفساد، وسوء الأخلاق، وتجمّع الثروات الهائل في أيد قليلة ويدين جميع الطرق غير الشرعيّة الّتي اتبعت لجمعها

 

6-أ: مكافحة الفساد بطرق جدّية، والعمل وفق قواعد الأخلاقيّة الاقتصاديّة المعروفة التي ما انفكّت الكنيسة تنشرها عبر رسائلها العامّة المتعدّدة، كمثل منع الممارسات الاحتكاريّة، وتأمين تعادل الفرص، ومكافحة الفساد في كلّ من القطاع العامّ والقطاع الخاصّ، والعلاقة المشبوهة القائمة بين هذين الأخيرين.

6-ب: العمل على أن تصبح علاقة الدولة بالقطاع الخاصّ علاقة شفّافة تهدف إلى التشاور المستمر لبلوغ أهداف النهضة الإنتاجيّة المرجوة، وألا يسعى البعض من القطاع الخاصّ إلى الحصول من الدولة على امتيازات خاصّة ومواقع إحتكاريّة تؤمّن الأرباح السهلة والضخمة على حساب المستهلك اللبنانيّ ومبدأ المنافسة العادلة.

6-ج: نشر تعاليم الكنيسة في هذا المجال من أجل التثقيف الخُلقي في الممارسات الاقتصاديّة.

 

 


1. “الصالح العام بمعنى:

 “Bien commun”: NEGRE Pierre, Essais sur les conceptions économiques de Saint Thomas d’Aquin,

  Aix-En-Provence, Imprimerie Universitaire de Provence, 1927.

2. الشؤون الاجتماعيّة: Rerum Novarum

3. أربعون سنة: Quadragesimo Anno.

4. أم ومعلّمة “Mater et Magistra”، ترجمة وإعداد الخوري حليم ريشا، منشورات حركة عدالة ومحبّة، جبيل ص 92-93.

5. المرجع ذاته، ص 93-94.

6. هامش في النصّ:”إنّ هذا التأكيد هامّ جدًا، لأنّه يبيّن أنّ الحقّ الطبيعيّ في الملكيّة الخاصّة لا يأتي في الدرجة الأولى بل في الثانية، في سياق الغاية المشتركة للخيرات. ويكتب بيوس 12 في مكان آخر من هذه الرسالة الإذاعيّة عبارة جازمة: كلّ إنسان، بصفته كائنًا حيًّا يتمتّع بالعقل، يحظى من طبيعته بحقٍ أساسيّ في أن “يستعمل خيرات الأرض الماديّة”. نلاحظ أنّ كلامه هذا أوضح من كلام لاوون 13 وبيوس 11، ويؤكّد ذلك أيضًا يوحنّا 23. فالحقّ الطبيعيّ في الملكيّة الخاصّة ليس إذًا حقًّا مطلقًا، لأنّه حقّ تابع أيضًا لمقتضى توزيع الخيرات المنصف الذي لا يسقط أبدًا. هذا التوجّه يقودنا إلى تغيير جذريّ في المفاهيم المتعلّقة بالزراعة والإصلاح الزراعيّ، ويناقض بشكل قاطع المفهوم الكلاسيّكيّ القائل بحقّ استعمال ما نملك وحتى بالإسراف في استعماله، من دون الإهتمام بشأن الآخرين: فمن يملك، يملك لأجل الجميع، “تلك هي الحقيقيّة المسيحيّة التي تلزم الجميع”. المرجع ذاته، ص 95-96.

7. مزاولة العمل البشريّ: Laborem Exercens.

8. أهمّيّة الشأن الاجتماعيّ: Sollicitudo rei socialis.

9. أهمّيّة المئة عام: Sollicitudo Centesimus Anni.

10. الأب مارون كرم، قصة الملكيّة في الرهبانيّة اللبنانيّة المارونيّة، بيروت، 1972، ص 200.

11. تقدّم الشعوب: Populorum Progressio.

12. فرح ورجاء: Gaudium et spes.

13. أنظر ما أتى بهذا الخصوص في رسالة Sollicitudo rei socialis، البند السابع.

14 Cf: “Notre Eglise en question – un dossier de l’Orient culturel”, Beyrouth, Ed. de l’Orient, 1969.

15. أربعون سنة، ترجمة وإعداد الأب جورج أبو جودة اللعازريّ، منشورات حركة عدالة ومحبّة، جبيل، ص 96.

16. المرجع ذاته، ص 96.

17. الإرشاد الرسوليّ “رجاء جديد للبنان“، منشورات اللجنة الأسقفيّة لوسائل الإعلام، ص 151، سنة 1997.

18. المرجع ذاته، ص 153.

19. المرجع ذاته، ص 153-154.

20. المرجع ذاته، ص 155.

21. يمكن العودة إلى هذه المحاضرات الهامة في كتاب عهد الندوة اللبنانيّة – خمسون سنة من المحاضرة، دار النهار، بيروت،

22. عمل الأب لوبريه في إطار وزارة التصميم العامّ مدّة أربعة أعوام كاملة، وقام بدراسات واستقصاءات اجتماعيّة واقتصاديّة عديدة، بمعاونة فريقٍ من الخبراء الفرنسيّين واللبنانيّين. وقد اشتهر من بينهم المأسوف عليه الأب يوحنّا مارون الذي أسّس وأدار معهد التدريب من أجل التنمية، و قد كان من أعلام الفكر التنمويّ في لبنان، إلى جانب شخصياتٍ أخرى من سائر الطوائف.

23. Missions IRFED – Liban, Besoins et possibilités de développement du Liban, 3 vol., Ministère du Plan, Beyrouth, 1961.

24. الأوضاع المعيشيّة للأسر في عام 1997، مديّرية الإحصاء المركزيّ، وكذلك خارطة أحوال المعيشة في لبنان وزارة الشؤون الاجتماعيّة وبرنامج الأمم المتّحدة الإنمائيّ (UNDP) في لبنان؛ والأزمة الاقتصاديّة والاجتماعيّة المجلس الاقتصاديّ والاجتماعيّ.

25. L’entrée des jeunes libanais dans la vie active et l’émigration, 3 volumes, Université Saint-Joseph, Beyrouth, 2002.

26. د. ابراهيم مارون، مسائل اقتصاديّة مطروحة على المجمع البطريركيّ المارونيّ.

27. هامش في النصّ المستشهد به:”تمّ تقدير هذا الرقم بالإستناد إلى المعطيات الإحصائيّة حول دخل الأسر في لبنان الواردة في دراسة الإحصاء المركزيّ: الأوضاع المعيشية للأسر في عام 1997 ـ دراسات إحصائية العدد 9، شباط 1998 (ص68)”.

28. هامش في النصّ المستشهد به: “تمّ احتساب هذا الرقم بالإستناد إلى المعطيات الإحصائيّة التي وفرتها لنا مؤسّسة”ريتش-ماس” reach-Mass للدراسات الحقليّة حول مداخيل الأسر بحسب الطوائف وعلى صعيد لبنان (معطيات غير منشورة). كما تمّ احتساب القدرة الشرائيّة بالاستناد الى مؤشّر غلاء المعيشة الذي تنشره جمعيّة مصارف لبنان في منشورتها الشهريّة Economic Letter (سنة الأساس)، وإلى دراسة اليونيسيف وإدارة الإحصاء المركزيّ: “الدخل“، في: دراسة وضع الأطفال في لبنان 2000 (ص 65)”.

29. هامش في النصّ المستشهد به: “راجع بيوس الحادي عشر، الرسالة العامّة Ubi arcano، 23 كانون الأول 1922، حيث يعرض البابا المبادئ الأساسيّة للعلاقة بين علم الاقتصاد والنظام الأخلاقيّ المسيحيّ، مؤكّداً التمايز والتلازم بينهما، في آنٍ معًا، وهذا ما يؤكّده مجددًا في هذه الرسالة أربعون سنة”.

30. أربعون سنة، المرجع ذاته، ص 107-108.

31. المرجع ذاته، ص 108-109.

32. من الجدير بالذكر المبادرة الطيّبة التي قام بها أحد المغتربين، في العام 2000، إذ طلب الاكتتاب بسندات خزينة لمدّة خمس سنوات، بمبلغ مئة ألف دولار، بدون فائدة، مساهمةً منه في تخفيف حدّة أزمة المديونيّة، على أمل أن يقتدي به آلاف من المغتربين الميسورين. كما نشير إلى الهبات الكبيرة التي تلقتها الخزينة اللبنانيّة (52 مليار ليرة) للتعويض عن أضرار البنية التحتيّة الكهربائيّة الناجمة عن الإعتداء الإسرائيليّ في حزيران 1999؛ وهذا يدلّ على استعداد اللبنانيّين وقدراتهم في تلبية حاجات بلدهم، عندما يشعرون بإمكانيّة تغيّر الظروف نحو الأفضل.