العائلة المارونية

الفصل الأوّل: المعطيات التاريخيّة

أوّلاً: الإيمان بالله وخدمة الكنيسة

  1. الكنيسة المارونيّة كنيسة شرقيّة متأصّلة في بيئتها الجغرافيّة. والعائلة المارونيّة قد تفاعلت مع كنيستها قلب هذه الكنيسة منذ نشأتها حتى اليوم، إذ تحلّقت الجماعة المؤمنة حول الكنيسة والدير، وتمسّكت بالإيمان المسيحيّ وبالخلقيّة التي يفرضها هذا الإيمان، كما شهدت، بشجاعة، إلى جانب رعاتها لهويّتها التاريخيّة، متحدّية الأخطار الدينيّة والسياسيّة والاجتماعيّة والبيئية المحدقة بها.

 1. التزام العائلة بالحياة الروحيّة

أ) في الحياة الليتورجيّة

  1. تحصّنت العائلة المارونيّة بالإيمان المسيحيّ، فانتهجت تنظيم يوميّاتها، على مثال الكهنة والرهبان[1]، وفق الصلوات الطقسيّة المركّزة على سرّ المسيح القائم من القبر، ووفق الأعياد المريميّة وأعياد القدّيسين. وهكذا أصبحت الحياة الليتورجيّة نهج قداسة لكلّ عائلة. فكلّ روحانيّة في حياة العائلة انتقلت من الكنيسة والبيت إلى الحقل، حيث كان أفراد العائلة يعملون معًا طوال النهار، ويغنّون ويصلّون، حتى إنّ الصلوات الليتورجيّة نفسها انطبعت بطابع الحضارة الزراعيّة السائدة حتى الماضي القريب، فدعي المسيح “الفلاّح الصالح”، والعذراء “سيّدة الزروع”[2]، و”سيّدة الفريك”، و”سيّدة الكرمة”، إلخ…

ولقد ظهر اسم الله في لغة العائلة بكلّ عفويّة وتلقائيّة، في الشدائد والأفراح على حدّ سواء. وازدانت كلّ البيوت، حتى تلك البعيدة عن الممارسة الدينيّة، بصورةٍ مقدّسة ومذبحٍ وصليب كمصدرٍ للخير والبركة والأمان. ولقد اختلطت لديها، أحيانًا، بعض الممارسات الدينيّة ببعض الأعراف والعادات الموروثة، ظنًّا منها بأنّها تقدّم لله من خلالها عبادةً حقيقيّة. وما كان ذلك إلاّ دليل على إيمانٍ بسيط تأثّر تأثّرًا عميقًا بذاكرتها الدينيّة والتاريخيّة وتقاليد الشعوب المحيطة بها التي تفاعلت معها[3].

ب) تكريم العذراء مريم

  1. حظيت العذراء مريم، والدة الله الكليّة القداسة، بنصيبٍ وافرٍ في حياة العائلة المارونيّة اليوميّة، تجلّت بنوعٍ خاص في الصلوات الطقسيّة التي تكرّس بيتًا للعذراء مريم في كلّ لحن، والقومة الأولى من صلاة الليل، علاوةً على فروض أعيادها الملازمة للأعياد السيّديّة، كزمن الميلاد والآلام والقيامة والعنصرة والزمن العاديّ، وأعيادها المستقلّة كالحبل بها وميلادها وانتقالها وشهر أيّار كاملاً. كما حظيت بمكانة خاصّة جدًا تجلّت في تكريس مراكز البطريركيّة المارونيّة[4] على اسمها. ولقد إزدانت البيوت المارونيّة بصورٍ مقدّسة، يجتمع أمامها، كلّ مساء، أفراد العائلة لصلاة المسبحة والطلبة والزيّاح “يا أمّ الله يا حنونة”، “وإن كان جسمك”. ناهيك عن المزارات أمام البيوت، والتطوافات في السّاحات والطرقات، فصحّ القول إنّ الروحانيّة المارونيّة هي ذات “طابع مريميّ”[5] مميّز.

ج) التزام العائلة في الحياة الرعائيّة والاجتماعيّة

  1. كانت كنيسة الرعيّة في القرى المارونيّة روح البلدة وقلبها النابض. فالكنيسة هي نقطة ارتكاز القرية ومحورها، تتحلّق حولها البيوت والعائلات، ويلتقي فيها الأهالي عائلةً كبيرة للمشاركة في الذبيحة الإلهيّة وفي الاحتفالات الطقسيّة الأخرى. إنّ ذاك الارتباط الروحيّ بالكنيسة قد وثّق العلاقات الاجتماعيّة بين العائلات المارونيّة إلى حدٍّ كبير، فكانت المشاركة شاملةً في الأفراح والأتراح، وكانت “العونات”، حين يشارك الجميع في مساعدة الفرد، كلّ في دوره.

2. العائلة المارونيّة في عيشها للرسالة المسيحيّة

  1. لم تكتف العائلة المارونيّة بأمانتها للإيمان المسيحيّ، بل تحلّت بروحٍ رسوليّة راسخة تُعدّ من ثوابتها التاريخيّة. وتفاعلت هذه الروح الرسوليّة مع فئاتٍ لا تشاركها إيمانها. فاتّصفت بالانفتاح والحوار معها في العيش المشترك.
  2. ولم تقتصر مهمّة العائلة المارونيّة على توفير التربية المسيحيّة لأبنائها فحسب، بل تخطّته لتشجّع المدعوّين من بينهم على تكريس حياتهم في الحياة الكهنوتيّة والرهبانيّة. وهي في ذلك لم تَضُنَّ بالأرزاق، إذ لم تتردّد في وقف بعض أراضيها وأملاكها للكنيسة، وفي المشاركة في بناء الكنائس والأديار، ممّا ساهم في نموّ المؤسّسة الكنسيّة واستمرارها. 
  3. لم تخلُ حياة العائلة المارونيّة، على الصعيد العائليّ والاجتماعيّ، من صعوبات. فعانت، أسوةً بكلّ عائلةٍ بشريّة، من مشاكل العلاقات بين أفرادها أو من أزماتٍ اقتصاديّة واجتماعيّة وغيرها. وعلى الرغم من ذلك، استمرّت في عيش حياتها بثقةٍ وسخاء، موزّعة بين العمل في الأرض والصلاة والتربية البيتيّة الصالحة، لا يثنيها الفقر عن إنجاب العديد من البنين معتبرة إيّاهم “بركة” و”نعمة” من الربّ.

ثانيًا: علاقة العائلة المارونيّة بالأرض

  1. تعلّق الموارنة بالأرض، فكانت لهم خير أُمّ جمعت أبناءها على الإلفة والتعاون. ولقد تركوا فيها بصماتهم، إذ نحتوها من صخر، وحوّلوها أرضًا خصبة حمت العائلة من العوز، فأضحت لها مورد رزقٍ ثمّ تاريخًا ووطنًا؛ واستمدّت منها روح البساطة والقناعة والثبات والعطاء، وكانت لها عونًا في أحلك ظروف تاريخها. 
  2. وتشبّعت هويّة العائلة المارونيّة من خير الأرض الضامنة للحريّة، وإذا بالإطار الزراعيّ يوثّق اللّحمة في قلب العائلة المارونيّة، والتضامن بين العائلات في محيط المجتمع نفسه.  

ثالثًا: العائلة المارونيّة والقيم الإنسانيّة

1. نظام العائلة

  1.  قامت العائلة المارونيّة، أسوةً بسائر العائلات في الشرق القديم، على نظام الأبوّة، فالأب يمثّل المرجعيّة الأولى والأخيرة في العائلة. 
  2.  لذلك، تحمّل الرجل “ربّ العائلة” كامل مسؤوليّته كزوجٍ وأبٍ معًا في سبيل خير عائلته، مؤمّنًا الاستقرار العاطفيّ والاجتماعيّ والماديّ لزوجته ولأولاده، مهما كلّفه ذلك من سهرٍ وعملٍ مستمرّ من “الفجر حتى النجر”، أو من غيابٍ قاهر عن زوجته وأولاده.
  3. كذلك فإنّ هذه الذهنيّة قد سبّبت في بعض الأحيان تقصيرًا وإجحافًا في حقّ المرأة[6]، إلاّّ أنّ المرأة الأمّ، التي نشأت وتربّت على الفضائل المسيحيّة والاجتماعيّة، قد لعبت دورًا هامًّا في العائلة، فساهمت، بوفائها لزوجها في السرّاء والضرّاء، في استمراريّة الوحدة الزوجيّة والعائليّة، محافظةً أيضًا على عُرى القربى بقبولها لأهل زوجها أهلاً لها، وعيشها معهم تحت سقفٍ واحد. ورافقت زوجها في عمله، في الحقل وحاكت الحرير، وساهمت بطريقةٍ فعّالة في منتوج البيت وتوفير الراحة لعائلتها. ولقد سعت الأمّ المارونيّة دومًا، بقدر ما أُعطي لها من مواهب وظروف، إلى توطيد احترام ومحبّة الأوّلاد بعضهم لبعض ولذويهم. وكانت المؤتمنة على الهويّة الأخلاقيّة، تنقلها إلى الأجيال الطالعة، بصفتها أمًّا مصلّية وملتزمة بمبادئ الإنجيل وقيمه.
  4. إمتازت العائلة المارونيّة باحترام المسنّ فيها، وطاعة المتقدّمين من أبنائها، وحفظ سرّ البيت وبإجلال الكاهن، معتمدةً تعاليم الإنجيل قولاً وفعلاً، فامتازت بالوداعة والبساطة والإيمان والصمود في وجه الغزوات والهجمات عبر تاريخها[7].

2. حبّ المعرفة لدى العائلة المارونيّة

  1. اتّصفت العائلة المارونيّة، منذ القدم، بالرغبة في تحصيل مبادىء العلم والدين. ففي المدارس القليلة المتواجدة في بعض الأديرة أو تحت السنديانة، كان الأولاد يوزّعون نهارهم بين التدرّب على مبادئ العربيّة والسريانيّة، والتعليم الدّينيّ والحساب والمنطق، وبين العمل في الحقل. ولم تتوان العائلة المارونيّة يومًا عن التضحية بالغالي والنفيس من أجل تعليم أولادها.

رابعًا: من الماضي البعيد إلى الماضي القريب

  1. لم تبق حياة العائلة المارونيّة على هذا القدر من السهولة، لأنّ الأمور تعقّدت شيئًا فشيئًا لأسباب أهمّها: استبداد الحكم العثمانيّ وقساوته؛ وظلم بعض الأمراء والمستفيدين الذين كانوا يمثّلون دور الوسيط بين الشعب والباب العالي العثمانيّ، فيمعِنون في تحصيل الجزية وفرض السخرة؛ وهيمنة بعض العائلات على المجتمع.
  2.  من الطبيعيّ، إذًا، أن تؤثّر تلك المعطيات في التحوّلات الاجتماعيّة والعائليّة، وفي استغلال الشعب، وتكوين عائلاتٍ إقطاعيّةٍ، وقيام تكتّلاتٍ عائليّةٍ امتازت بالتضامن بين أفرادها، غير أنّها انغلقت على نفسها ولم تكن دائمًا على وفاق مع العائلات الأخرى، ولا يزال أثرها فاعلاً حتى اليوم.  
  3. في تلك الأثناء، وصلت الإرساليّات الأجنبيّة إلى لبنان، وراحت تفتح المدارس وتثقّف الشعب، ونقلت إليه نهج الغرب. أضف إلى ذلك تعدّد ثورات القرن التاسع عشر، من صناعيّة وثقافيّة وفكريّة، التي كان لها تأثيرها على المجتمع المارونيّ الذي تفاعل معها بسلبيّاتها وإيجابيّاتها. وفي الوقت عينه، أخذت الدول الأجنبيّة المتمثّلة بقناصلها تدعم طائفة دون أخرى، لا لتحميها كما كانت تدّعي، بل لتحفظ مصالحها في المنطقة وحسب.
  4. ثمّ اندلعت الحرب العالميّة الأولى (1914-1918)، وتفاقمت الهجرة، التي كانت قد بدأت من قبل بسبب الفقر الشديد والعوز، والواقع السياسيّ والاجتماعي،ّ وانعدام الآفاق أو حبًّا بالمغامرة والمعرفة أو طلبًا للعلم والحرّيّة، فكان من مساوئ تلك الهجرة أن غاب أحيانًا ربّ البيت عن عائلته التي تشتّتت وتقوّضت. وكان من حسناتها أنّها ساهمت في دعم وإعالة الباقين في الوطن من أفراد العائلة.

الفصل الثاني: الوضع الراهن والتحدّيات الجديدة

1. واقع جديد

  1. يشكّل النموّ السكّاني المطرد، والتحوّلات الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة، وتطوّر الظروف الحياتيّة وواقع الهجرة، مجموعة عوامل أدّت إلى تغيّرات كبيرة في العائلة المارونيّة، والتحوّل في النموذج العائليّ من العائلة الكبيرة إلى العائلة النواتيّة، مع ما يستتبعه التحوّل المذكور من انحسارٍ لدورها الاجتماعيّ والاقتصاديّ والدينيّ والوطنيّ. أضف إلى ذلك التغيّر الذي طرأ في واقع المرأة بسبب دخولها معترك العمل خارج البيت وتأثيره على حياة العائلة والحياة العامّة، ثمّ هجرة العائلة المزدوجة من الجبل إلى المدينة ومن لبنان إلى المهجر. لقد ولّدت كلّ هذه التحوّلات السريعة والمتتالية جملةً من التحدّيات، تستدعي قراءةً معمّقة للواقع الجديد، بهدف العمل على استنباط سبلٍ ملائمةٍ من شأنها أن تجدّد العائلة في رسالتها السامية “لأنسنة المجتمع وروحنة قيمه”.

2.التحدّيات الثقافيّة والدينيّة

أ) إلتباس في جوهر الإيمان

  1. إنّ النـزوح من الجبل إلى المدينة، ومن لبنان وسائر المشرق إلى المهجر الأميركيّ والغربيّ، قد حوّل حياة العائلة المارونيّة من نمطٍ زراعيّ، إلى نمطٍ قائمٍ على مفاهيم وقيم صناعيّة وتقنيّة وضعت العائلة المارونيّة أمام خيارات جديدة من حيث عيشها لإيمانها المسيحيّ ولقيمها الحضاريّة والثقافيّة. وربما كان الاختلاط والتلاقي مع أبناء الديانات الأخرى، والانفتاح على الثقافة الغربيّة التي تبنّت العلمنة منذ القرن التاسع عشر، وانتشار التيّارات الإلحاديّة التي تعتبر أنّ الإنسان قيمةٌ مطلقة انطلاقًا من إنسانيّته، والتيارات العقلانيّة التي تعتقد أنّ العلم والتقدّم التقنيّ قادران وحدهما على تحرير الإنسان وتلبية حاجاته…كلّها أمور أثارت في قلب العائلة المارونيّة إرتباكًا في مفهوم جوهر إيمانها بالله الثالوث من جهة، وفي الخلط ما بين المسيحيّة والنـزعة الإنسانيّة من جهةٍ أخرى. ولن ننسى فئة المؤمنين الذين ابتعدوا عن الكنيسة أو اقتربوا منها، إذ ربطوا التزامهم وممارستهم بموقفهم من الإكليروس. كلّ ذلك جعل العائلة المارونيّة تعبّر عن هذا الارتباك بطرقٍ مختلفة.

ب) بروز النـزعة الماديّة

  1. لقد قلب النمط الاستهلاكيّ، القائم على تغذية روح الفرديّة والمادّية ومنطق الربح السريع، سلّم القيم الذي طالما عرفته عائلاتنا ونشأت عليه. فالإستهلاك نمط ينظّم الاقتصاد وفقًا لمبدأ إشباع حاجات الفرد وتكثيرها في الوقت عينه. ولمّا كانت الحاجة نقصًا ترافقه الرغبة الملحّة في إزالته، فإنّ تزعزع القيم بات جليًّا، خاصّة وإنّ الذهنيّة الإستهلاكيّة هذه طالت قطاعات الحياة كافّة، الجنسيّة منها والثقافيّة والمهنيّة والرعويّة…
  2. في الحياة الجنسيّة: بدأت مجتمعاتنا تعرف اليوم نوعًا من التراخي في السلوك الجنسيّ. فما نشاهد على صفحات الصحف والمجلاّت وعلى شاشات التلفزة وعلى الملصقات الإعلانيّة، يشكّل تحدّيًا للقيم الدينيّة والأخلاقيّة، ويؤدّي إلى فقدان البعد الإنسانيّ للجنس، ويقدّم عنه نظرةً مشوّهة، مع كلّ ما ينتج عنها من شواذٍ في السلوك والعيش. كلّها مخاطر باتت تهدّد العائلة المارونيّة أينما وجدت. هي موجة تحتاج إلى حضور واعٍ من قبل الأهل وإلى جهودٍ جدّيّة من قبل المراجع التربويّة والدينيّة والمدنيّة والإعلاميّة، لاحتوائها وتفادي تأثيرها.
  3.  في التحصيل العلميّ: لقد بدأ تأثير المجتمع الإستهلاكيّ يطاول حتى المجال العلميّ. فأصبح طلب العلم والدراسة وتحصيل الشهادات عند البعض غايةً في حدّ ذاته، وصار في الكثير من الأحيان وسيلةً لتأمين حياةٍ إنتاجيّة نفعيّة، ولو على حساب خدمة المجتمع والإنسان. بينما المبدأ المرجو هو أن “يخضع العلم والثقافة لنموّ الإنسان ولخير الجماعة والجنس البشريّ بأسره”[8].
  4. في الحياة الاجتماعيّة: إنّ النمط الإستهلاكيّ، الذي يحيط بالعائلة المارونيّة في عالم اليوم، بات يتغلغل إليها، وراحت تصرف وقتها في سدّ حاجاته، فضاق بها هذا الوقت ولم يعد يتّسع لعلاقاتٍ إنسانيّة طالما تميّزت بها. كما أنّه طبع بعضًا منها بذهنيّةٍ سطحيّة تعتمد على المظهر ولو على حساب راحتها وإمكانيّاتها، فسلبها روح قناعةٍ كانت من أهمّ صفاتها. ولقد اضطرّ بعض الأهل في هذا الجوّ إلى الغياب المستمرّ عن أولادهم، وإلى الاستقالة من مسؤوليّاتهم التربويّة، ممّا انعكس ضررًا على كلّ الأفراد، خاصّةً الشباب منهم، فاعتمد البعض في تصرفاتهم سهولة العيش والسعي إلى النتيجة السريعة كما انصرف بعضهم إلى تفلّت العيش والفساد والمخدّرات.
  5. في الحياة المهنيّة: في هذا الجو الاستهلاكيّ يفقد العمل قيمته وجوهره. فبدل أن يكون تحقيقًا للذات ومجالاً للنموّ والرقيّ والتضامن مع الأفراد وخير المجتمع، راح يتّجه نحو الربح السريع، من أجل إشباع حاجاتٍ مادّيةٍ هي في تزايدٍ دائم. فاتّسع مفهوم الضروريّات، حتى أصبح يشمل كلّ ما هو كماليّ. ومع هذا المنحى الجديد، أخذ الفساد يعمّ معظم قطاعات العمل، وصار الربح يبرّر الوسيلة، ولو على حساب القيم الأخلاقيّة. والعائلة المارونيّة ليست بمنأى عن هذا الواقع الجديد، وهي قد تفتقر اليوم، في معظم الحالات، إلى ذهنيّة بساطةٍ وقناعة وجرأة تقيها مخاطر الانزلاق في هذا الجوّ الإستهلاكيّ.
  6.  في الحياة الروحيّة والرعويّة:لم يقتصر التغيير على الناحية الاجتماعيّة من حياة العائلة المارونيّة، بلّ طال كذلك الناحية الروحيّة والرعويّة منها، حتى بتنا نلحظ، أحيانًا، تناقصًا في ارتياد الكنائس، إلاّ في بعض المناسبات الكبرى. ومن المبادرات الإيجابيّة في هذا الموضوع، خلق مراكز للتثقيف الدينيّ، يرتاده المؤمنون، ويستفيدوا من التعليم اللاهوتيّ الذي يُلقيه عليهم أساتذة كبار يجسّدون تعليم الكنيسة على أكمل وجه.

ج) عيش القيم الإنجيليّة

  1.  في ظلّ هذا الواقع الاجتماعيّ الجديد المليءٍ بالتحدّيات، لا بدّ للكنيسة من عملٍ دؤوب بغية تجديد وتطوير وسائل نقل الإيمان ونشره بين أبنائها. فالتحدّي الثقافيّ أمام الكنيسة المارونيّة، هو في مدى قدرتها على عيش القيم الإنجيليّة الهادفة إلى بناء حضارة المحبّة في كلّ قطاعات الحياة العامّة والخاصّة، والشهادة لإيمانها بالقول والفعل، ليتحوّل هذا الإيمان إلى نسيجٍ حضاريّ يستجيب لدعوة إنسان اليوم ويجيب على تساؤلاته الكبرى.

3. التحدّيات الاجتماعيّة

أ) في تبدّل النموذج العائليّ

  1. ساهمت السرعة في تبدّل الأوضاع الاقتصاديّة والثقافيّة في تبدّل النموذج العائليّ، الذي تقلّصت مساحة روابطه، بحيث انتقل من عائلة كبيرة تمارس الرعاية في شتّى الظروف، وتلعب دورًا في الشأن العامّ والخاصّ، إلى أسرة نواتيّة مؤلّفة من الزوجين والأوّلاد فقط. وإذا كان هذا الواقع الجديد قد منح الزوجين إمكانيّة بناء حياتهما الزوجيّة وتقاسم المسؤوليّات والتفرّغ للتربية السليمة، غير أنه لم يعط حتى اليوم للأسرة إمكانيّة بلورة دورها الجديد وأبعاد رسالتها في ظلّ الوضع القائم.
  2. واقع المرأة الجديد: أدّت الأوضاع الجديدة إلى تغييرٍ كبير في واقع المرأة التي تحوّلت من العمل في إطار الأسرة والبيت إلى الانطلاق للمشاركة في القطاعات التربويّة والاجتماعيّة والثقافيّة والاقتصاديّة والسياسيّة منها، مدفوعة بمقتضيات النمط الجديد وحاجاته وضرورة تحقيق الذات في ما هو أبعد من حدود المنزل العائليّ. وقد أدّى هذا الأمر -على إيجابيّته بالنسبة إلى المرأة- إلى بعض التراجع على صعيد دور العائلة التربويّ، خصوصًا من ناحية العلاقة مع الأوّلاد والحضور الدائم للإصغاء إلى حاجاتهم. لذلك لا بدّ من إعادة النظر في إعادة ترتيب البيت الداخليّ للحفاظ عليه كواحة سلامٍ وتفاهمٍ ونموّ لأفراد العائلة عبر مشاركةٍ أوسع في المسؤوليّات بين الرجل والمرأة من جهة، وبين كافّة أفراد العائلة من جهةٍ أخرى. ولن ننسى أن نذكر الظلم الذي ما زال يلحق ببعض النساء من استهتار بطاقاتهنّ البشريّة أو من تعنيف على كلّ المستويات في البيت وفي العمل، وكلّ ذلك ناتج عن الذهنيّة الذكوريّة التي ما زالت تسود بعض بيوتنا.

ب) في صعوبة الوضع الاقتصاديّ

  1.  بعد حروب خلّفت أوضاعًا معيشيّة صعبة على كلّ المستويات، إزداد الوضع الاقتصاديّ سوءًا، انعكس سلبًا على الحياة العائليّة، فشكّل ضغطًا على العائلة وأفرادها، أدّى في بعض الحالات إلى هجرة الأب، أو إلى عمل الزوجين المستمرّ وافتقاد الأوّلاد لحضورهما. كما أدّى إلى توتّرٍ وتعب كانت نتيجتهما علاقةٌ سيّئة. وقابل هذا الوضع شبه غياب للمؤسّسات العامّة عن مسؤوليّاتها تجاه العائلة، ممّا جعل عائلاتنا اللبنانيّة ترزح تحت أعباء الطبابة والتعليم والمسكن ومتطلّبات الحالات الخاصّة كالإعاقة وغيرها… وفي ظل هذه الأوضاع، تقوم الكنيسة بمبادراتٍ محدودة، وتسعى إلى تطوير هيكليّاتها الرعويّة والمؤسّساتيّة لمواكبة أبنائها في أنماط عيشهم الجديد وتحدّياته. وتجدر الإشارة أيضاً إلى السند الذي تقدّمه عائلاتنا بعضها لبعض والذي يساعد على تجاوز هذه المحنة كما نلفت إلى دعم المنتشرين لعائلاتهم في الوطن والتعاضد معها.
  2. للأوضاع الجديدة وقعها المباشر الإيجابيّ أيضًا على الحياة الاجتماعيّة العائليّة، التي تأثّرت بها إلى حدٍ كبير. فقد ساعدت تلك الأوضاع العائلة المارونيّة على الانفتاح وطلب العلم، وساهمت في تثقيف المرأة وتطوير الذهنيّات تدريجيًّا باتّجاه المزيد من الوعي للمساواة في الكرامة بين الرجل والمرأة ولمسؤوليتهما المشتركة ضمن العائلة وفي المجتمع.

ج) في مواكبة مسيرة التغيير

  1. في هذا الإطار المجتمعيّ الذي تغيّرت ملامحه وتعدّدت مرجعيّاته الدينيّة والثقافيّة والسياسيّة، وتفرّعت نشاطاته الاقتصاديّة في كلّ اتّجاه، وجدت العائلة المارونيّة نفسها أمام تحدٍّ كبير يوجب عليها أن تواكب مسيرة التغيير، دون أن تتنكّر لرسالتها في أن تظلّ للحياة حضنًا يحميها، وللقيم حصنًا يصونها، لئلاّ يفقد المجتمع وجهه الإنسانيّ. حبّذا لو جعلت العائلة المارونيّة من هذا التحدّي حافزًا لقفزة نوعيّة إيجابيّة، تضعها في موقع الشهادة الرائدة. كما إنّ الكنيسة مدعوّة لتسعى، من خلال هذه المستجدات، إلى استنباط رعويّة جديدة للعائلة، تواكب الحداثة وتطوّر العصر، دون الحنين الدائم إلى الماضي واعتباره المقياس الوحيد، علمًا أنّ الحياة في تقدّمٍ مستمرّ وأنّ الجمود موت. فتدعم هذه الرعويّة العائلة وتنعش رسالتها الخاصّة وتعزّز دورها كمدرسة للفضائل ومنبع للدعوات المقدَّسة.

4.التحدّيات الأخلاقيّة

أ) في التعدديّة الثقافيّة والعولمة

  1. في الأمس، عاشت العائلة الكبيرة في إطار غنيّ بروابطه الإنسانيّة، وفي كنف مرجعيّة دينيّة محدّدة وثابتة، ساعدتها، إلى حدّ بعيد، في خياراتها الأخلاقيّة وعيشها لقيمٍ ومبادئ واضحة ومشتركة. أمّا اليوم، فنحن نعيش في مجتمع تسوده تعدّديّة الثقافة والمفاهيم، وسهولة الإتصال والتبادل والتعرّف على الأنماط المغايرة، والتطوّر العلميّ على المستويات كافة، ونشهد تفتّحًا في قدرة الإنسان الخلاّقة، ووعيًا مبكّرًا يعزّز الحرّية المسؤولة لدى الأجيال الجديدة. لكنّ هذا الوضع، على إيجابيّته، يحمل في طيّاته مزالق عديدة، نظرًا لتفشّي الروح الماديّة، والذهنيّة الإستهلاكيّة والإباحيّة الجنسيّة. أمّا انجراف بعض عائلاتنا المارونيّة في هذا التيّار فيعود، على اختلاف مظاهره، إلى مشكلتين واحدة تكمن في نقصٍ بالثقافة المبنيّة على روح النقد والتمييز، والمشكلة الثانية تكمن في مدى فهمها وعيشها للإلتزام المسيحيّ وأخذها بالقيم الروحيّة في حياتها اليوميّة. إن هذا الواقع يضع العائلة المارونيّة أمام تحدّيات أخلاقيّة تتفاقم في أكثر من مجال، بحيث لن تقوى بعد الآن على مواجهتها منفردة.

ب) في مفهوم الحرّية

  1.  في ظل هذا التعدّد الثقافيّ، قد تتعرّض العائلة إلى التباس في المقياس الموضوعيّ لخياراتها الأخلاقيّة، وغالبًا ما تميل إلى اختيار ما يوافقها من الحلول، بغضّ النظر عن أبعادها الأخلاقيّة الثابتة المرتبطة أولاً وأساسًا بالمعنى الذي يعطيه الإنسان لذاته ولغاية وجوده ومفهومه للحرّية. ولا بدّ لهذا الخيار الخاطئ من أن يزعزع أركان العائلة، بخاصّة عندما يصرّ كلّ فرد، باسم الحرّية، على استباحة ما يشاء. بينما التنشئة الصحيحة على الحرّية هي التي تثمر مسؤوليّةً وتضامنًا وبنيانًا للذات وللآخر.

ج) في الحبّ والزواج

  1. إنّ “الكسوف في معنى الله قد أدّى إلى الكسوف في معنى الإنسان”، على حدّ قول البابا يوحنّا بولس الثاني[9]. وهذا الكسوف في تحديد الإنسان لهويّته هو السبب الجوهريّ للتزعزع الذي أصاب سلم القيم في عالمنا اليوم، بدءًا بمفهوم الحبّ والزواج والإنجاب والتضحية، كما سبّب هذا الكسوف تفلّتًا مؤسفًا لدى البعض في إقامة علاقاتٍ مرفوضة أخلاقيًّا وكنسيًّا، واللجوء إلى وسائل تتنافى ومبدأ احترام الحياة البشريّة[10]. ولا شكّ أن صعوبة الحصول على العمل والمسكن قد شكّلت هي أيضًا تحدّيًا للزواج وللاستقرار في حياة شبيبتنا العاطفيّة والعائليّة.

د) في أخلاقيّات الحياة

  1. غالبًا ما نلحظ جهلاً كبيرًا أو تجاهلاً لتعاليم الكنيسة في موضوع أخلاقيّات الحياة عند نسبةٍ لا بأس بها من المستشفيات والأطّباء والأزواج المسيحيّين الموارنة وإن كان التطوّر العلميّ والتقنيّ، في مجال علم الجينات خصوصًا، قد مكّن البشريّة من تعزيز الحياة في مواجهتها للأمراض والآفات، فهو أيضًا بدوره قدّم حلولاً تتعرّض لكرامة الحياة البشريّة ولمفهوم الحبّ الزوجيّ ومبدأ ارتباطه بالحياة. كما أن الأبحاث والتحاليل السابقة للولادة القادرة على الكشف عن مكامن الإعاقة والمرض لدى الجنين بإمكانها أن تقدّم العلاج وتخدم الحياة الناشئة لكنها أحيانًا تعتمد الحل السهل وتشجّع على الإجهاض للتخلّص من حمل غير مرغوب فيه، متناسية أنّ الحياة تبدأ منذ اللحظة الأولى لتكوينها وإنّ احترامها وحمايتها واجب مقدّس.
  2. لا بدّ للكنيسة إذًا من متابعة ومواكبة ومساءلة كلّ جديد في هذا المجال، والسعي إلى نشر تعليمها وإيصاله إلى المعنيّين بالشأن العائليّ من كهنة ومرافقين وأزواج. ولا بدّ للعائلة من أن تعود إلى تعليم كنيستها في هذا الشأن، فتغرف من تراثها الحيّ، وتسعى إلى عيش الأبوّة والأمومة المسؤولة في كلّ أبعادها إنطلاقًا من واقعها الجديد.

5. أوضاع خاصّة

  1. تعاني عائلاتنا اليوم من أوضاع خاصّة كثيرة، تفاقمت على أثر التغيير الذي طرأ عليها نتيجة الحرب والعولمة والوضع الاقتصاديّ…، منها واقع المسنّين والمهمّشين والمسجونين والمرضى، وكلّها فئاتٌ تتطلّب من الكنيسة، رعاة ومؤمنين، رعويّةً ملائمة وحضورًا خاصًّا. ومع أنّ كلّ هذه الأوضاع هي بالأهميّة عينها، نورد حالتين محدّدتين على سبيل المثال لا الحصر :

أ) الإعاقة

  1. إنّ ما تعانيه بعض العائلات من نظرة المجتمع السلبيّة وعدم الاهتمام، بسبب إصابة أحد أفرادها بإعاقة، يجعلها وحيدة في مواجهة واقع يتخطّى قدرتها، ويؤدّي بها ربما إلى الأخذ بالتيّار القائل “لا للحياة إذا كانت غير صحيحة”، فتتبنّى عن غير قصد منها، النظرة الماديّة السائدة، التي تربط كرامة الإنسان بسلامته الجسديّة وقدرته على الإنتاج، وتلغي بذلك دورها في أن تكون في قلب المجتمع الشاهدة الأولى على كرامة الإنسان الفائقة التي تعلو كلّ اعتبار. وبالرغم من أن عائلاتنا لا تتخلى بسهولة عن الضعيف فيها فهي تحتضن المعاق والمهمّش، يبقى أن صعوبات الإعاقة تشكّل عبئًا كبيرًا يرهق العائلة عاطفيًّا ومعنويًّا وماديًّا واجتماعيًّا، ويهدّد وحدتها وسلامتها، إذا ما تركت وحيدة في مواجهتها.

ب) التفكّك العائليّ

  1. يعترف الجميع أنّ لتماسك العائلة وتضامنها الفضل الكبير في الحفاظ على الوطن حتى في أصعب المراحل التي مرّ بها، كما يعترف أنّ عائلاتنا المارونيّة في بلدان الانتشار تشهد هي أيضًا لقيمنا العائليّة أمام المجتمع الغربي بفضل هذا التماسك وهذا التضامن. لكنّ وللأسف تطالعنا اليوم ظاهرة جديدة تطال بعض عائلاتنا المارونيّة، ألا وهي التفكّك العائليّ. فبدلاً من مواجهة صعوبات الحياة اليوميّة معًا، نرى أزواجًا يختارون الهجر أو الانفصال، أو يلجأون إلى طوائف وأديان أخرى سعيًا وراء الطلاق. ويعود ذلك إلى أسباب شتّى منها الإنجراف بروح العالم الدّاعية إلى الفرديّة والأنانيّة، بعيدًا عن كلّ استعداد للتضحية، ومنها سوء فهم لسرّ الزواج المسيحيّ كعهدٍ مقدّس. ولا أحد يجهل ما تعانيه هذه العائلات بكلّ أفرادها بخاصّة الصغار منهم، نتيجة لهذا التفكّك والأوضاع المؤلمة التي يفرضها[11].
  2. فالتحدّي المطروح على الكنيسة اليوم، بمؤسّساتها ورعاياها وعائلاتها الملتزمة، إنّما هو إعداد رعويّة خاصّة لتنشئة شبيبتها على مفهوم سرّ الزواج، ومرافقة العائلات الناشئة عن قرب للحدّ من أخطار التفكّك، ومواجهة الصعوبات الناجمة عن حالات الإعاقة وغيرها.

6. علامات رجاء

  1.  إنّ العائلة التي نمت في الأمس ضمن العائلة الواسعة في الرعيّة والمجتمع الثابت، مدعوّة اليوم، في مواجهة التغيرات المتعدّدة، إلى تحصين ذاتها من الداخل. إنّ عددًا كبيرًا من العائلات قد أدركت أهميّة هذا الواقع فهي تسعى إلى المحافظة على اتحاد أبنائها وتضامنهم بالرغم من انتشارهم في بقاع العالم، متمسّكة بالقيم الإنسانيّة والمسيحيّة الأصيلة، وهي تمارس حياتها الروحيّة بالتزامٍ حرٍّ وواعٍ معزّزةً هذا الالتزام بانتمائها إلى حركات رسوليّة وجماعات صلاة وجمعيّات مدنيّة. كلها علامات رجاء تظهر في قلب كنيستنا وتؤكّد “أنّ مصير الكنيسة والعالم مرتبط بمستقبل العائلة[12] ويبقى المرتجى أن تعي كلّ من عائلاتنا المارونيّة دعوتها ورسالتها، وتستلهم الفسحات المشرقة في ماضيها وفي حاضرها، لتطلّ على مستقبل تكون فيه شاهدة على أنّ الله في جوهره واحدٌ وثالوث، أيّ هو عائلة رباطها المحبّة.

الفصل الثالث: دعوة العائلة المارونيّة ورسالتها

  1. للعائلة المارونيّة، كما لسائر العائلات المسيحيّة، دعوة ورسالة تعيشهما في محيطها أينما حلّت. فلتستلهم رتبة الإكليل السريانيّ المارونيّ، وتعود إلى الروحانيّةٍ التي تأسّست عليها، لتستقي من ينابيعها المعنى الصحيح لالتزامها المقدّس. ولا بدّ لها أيضًا من أن تستلهم دومًا تعليم الكنيسة الجامعة حول المفاهيم الأساسيّة للزواج المسيحيّ. صحيح أنّ المخاطر والتحدّيات كثيرة، لكنّ يد الربّ مع العائلة المؤمنة والمصلّية، لتقيها المعاثر، وتهدي خطاها إلى الخير والقداسة.

أوّلا: روحانيّة العائلة المارونيّة إنطلاقًا من رتبة الزواج بحسب الطقس المارونيّ

1. الزواج عهد بين الرجل والمرأة

  1.  من اللافت والجدير بالملاحظة أنّ الكنيسة المارونيّة تسمّي سرّ الزواج المقدّس، في اللغة السريانيّة، “شَوتُفُوتو” أيّ شركة. وتستعمل اللفظة عينها، في بدء الصلاة الإفخارستيّة في القدّاس، لعمل الروح القدس: “محبّة الله الآب، ونعمة الإبن الوحيد، وشركة وحلول الروح القدس مع جميعكم يا إخوتي إلى الأبد”. إنّ هذه العبارة مستقاة من خاتمة رسالة القدّيس بولس الثانية إلى أهل قورنتس (13/13). فيها يشدّد الرسول على دور كلّ من الأقانيم الإلهيّة في حياة المؤمنين. وتستعمل الكنيسة المارونيّة أيضًا الكلمة عينها “شوتُفُوتو” للمناولة. فالروح القدس هو الذي يكمّل محبّة الآب ونعمة الإبن في تقديس الخبز والخمر في الإفخارستيّا، وتحويلهما إلى جسد المسيح ودمه الأقدس، من جهة، ومن جهةٍ ثانية، يكمّل سرّي المعموديّة والتثبيت في المؤمن المتناول جسد الربّ ودمه، فيحوّله إلى عضو حيّ في جسد المسيح السرّي. وهذا هو قمّة العهد بين الله وأبناء المعموديّة، والمثال الأكمل لعهد الزواج المسيحيّ.

2. عهدٌ مبنيٌ على الرضى المتبادل

  1. يرتبط الزوجان بعهدٍ حرٍّ مسؤول مدى الحياة، يتجلّى في رضى متبادل بينهما، كما ارتبطت الكنيسة في إيمانها وحبّها بعهدٍ أبديّ لا ينفصم مع المسيح عريسها الإلهيّ. وهذا واضح في رتبة الإكليل في سؤال الكاهن للعروسين: “أيّها الابن الحبيب، هل تريد أمة الله هذه زوجة لكَ بحسب تعاليم الكنيسة المقدّسة؟” وأنتِ، أيّتها الإبنة المؤمنة، هل تريدين عبد الله هذا زوجًا لكِ…؟” ثم في جواب العروسين بـ”نعم” حُرّة، مسؤولة، تستمر حتى الموت.

3. عهدٌ مبنيٌ على كلمة الله وإنجيله

  1. وبعد تبادل العهد والرضى، تتشابك يدا العروسين على الإنجيل المقدّس معلنين، بعلامة حسّية، تشابك يديهما بيد المسيح عينه، مصدر كلّ حبّ. ثمّ يضع الكاهن المكلّل بطرشيله، رمز السلطان المعطى له من قبل الكنيسة، فوق اليدين المتشابكتين، ويباركهما بالصليب، ويعلن زواجهما باسم الثالوث الأقدس[13]، أمام الجماعة الحاضرة.

4. عهدٌ مبنيٌ على بركة الصليب

  1. يتّحد الزوجان بعهدٍ ليصبحا جسدًا واحدًا بحسب تصميم الله؛ لذا يمنحهما الكاهن، بالسلطان المعطى له، البركة بالصليب على اسم الثالوث الأقدس. وتتمّ البركة بالصليب، رمز الظفر والانتصار، هو الذي أصبح مع المسيح الطريق الوحيد لبلوغ المجد. إنّه سقف الحياة الزوجيّة، بالطاعة للآب حتى الموت، وبالحبّ حتى بذل الذات. وترافق بركة الصليب مسار شخصَين يحمل فيه الواحد الآخر، ناقلاً إليه رصيده الشخصيّ والتاريخيّ والثقافيّ والعاطفيّ لإغناء الحياة والوحدة الزوجيّة. بهذا يصبح الكائنان المختلفان في البداية، “جسدًا واحدًا”، وتاريخ حبّ واحد، فيحقّقان وحدتهما، وينميان في الكنيسة وفي المجتمع.

5. عهدٌ مبنيٌ على الأمانة

  1.  ترافق بركة الصليب الزوجين وتصونهما في مسيرة الأمانة الزوجيّة المتبادلة وهي تعني، قبل كلّ شيء، أنّ كلاًّ منهما مؤتمن على قداسة الآخر، وعليه أن يبقى أمينًا للعهد معه، دون سواه.

يومًا بعد يوم، يتحقّق الزوجان من أنّ الحياة كشخصٍ فرد تختلف تمامًا عن الحياة كشخصين معًا، فيسعيان بإخلاص لتأسيس عائلتهما بحبّ متبادل كبير يسوده الحوار والاحترام والأمانة والتكامل في كلّ شيء وهذا هو الطريق الملوكيّ إلى السعادة الزوجيّة.

  1. الخاتمان هما العلامة الظاهرة للأمانة الزوجيّة، وعلامة الوحدة والمحبّة والقداسة، يذكّران العروسين بالنعمة الجديدة والمتجدّدة وبالبركة التي ترافقهما طوال العمر[14].
  2. الزواج المسيحيّ هو مشروع قداسة يقوم على الفضائل والقيم السامية كالخدمة والطيبة والوداعة والتفاني والصبر والعدل والحقّ والغفران والرجاء…وكلّها ثمار الروح القدس، ومصدر سلام وفرح، تستمدّ غذاءها من الصلاة اليوميّة، والإصغاء إلى كلمة الله، والتأمّل، والاشتراك في الأسرار الإلهية…
  3. بالأمانة المتبادلة، يستحقّ الزوجان أن يتكلّل حبّهما بالمجد والكرامة. وهذا ما يدلّ عليه الإكليلان على رأسيهما، ليصير الواحد الملك على قلب الآخر وعلى حياته، وفي الوقت عينه مصدر كرامته ومجده، به يرتفع رأسه، ولا يرفع رأسه عليه.

6. عهدٌ منفتحٌ على الحياة

  1. البنون هم عطيّة الله الكبرى. وهم ثمرة الحبّ الكبير المتبادل بين الزوجين اللذين يصبحان مشاركين لله سبحانه في خلقه.

إنّ المشاركة في إعطاء الحياة، والمساهمة في استمراريّة الجنس البشريّ، غاية أساسيّة لسرّ الزواج: “أنموا واكثروا واملأوا الأرض وأخضعوها”. من هنا وجب على الزوجين المؤمنين أن يحترما الحياة كعطيّة إلهيّة، و يتذكّرا أنّ أولادهما هم أبناء لله قبل أن يكونوا أبناءً لهما.

  1. لا يتجلّى الخصب في إنجاب البنين وحسب، بل في العناية القصوى بهم، وتربيتهم الكاملة وتهيئتهم ليصيروا بدورهم أهلاً لبناء عائلة سعيدة مقدّسة. وإذا حُرِم الزوجان من إنجاب البنين، فليتجلَّ خصبهما في دعوتهما إلى خصبٍ من نوعٍ آخر، مثلاً بالتبنّي، وبالانفتاح الكامل على عائلاتٍ أخرى بحاجة إلى عطائهما وخدمتهما وتضامنهما معها.
    1.  فجوهر الحبّ الزوجيّ أن يكون دومًا مخصبًا، ومدعوًّا إلى تخطّي نطاق العائلة الضيّق، لتحويلها إلى خليّة حيّة في قلب المجتمع، وكنيسة منزليّة في قلب الرعيّة، متضامنة وملتزمة بخدمة كلّ محتاج.
    2. تلك هي الروحانيّة التي عاشها آباؤنا في الأمس البعيد والقريب. لم تخلُ حياتهم من الصعوبات والشوائب والآلام الفرديّة والجماعيّة والوطنيّة، إلاّ إنهم جهدوا في عيشها على ضوء صليب فادينا الظافر، فتركوا لنا إرثًا من إيمانهم وكانوا لنا به مثالاً حيًّا خالدًا.

ثانيًا: الزواج مسؤوليّة الزوجين المشتركة

1. في هبة الحياة

  1. أمام الواقع الجديد والمستجدّ، يحثّ أعضاء المجمع العائلة على الوعي الدائم لرسالة الزواج وطبيعته في أن يكون خصبًا منفتحًا على الحياة، فيحترم الزوجان الحياة البشريّة احترامًا مطلقًا منذ اللحظة الأولى لتكوينها لأنّ “الإجهاض وقتل الأجنّة جرائم فظيعة”[15]، ولا يرفضان إعطاء الحياة، إن من الناحية الجسديّة، أيّ الإنجاب، أو من الناحية الروحيّة، أيّ التربية المسيحيّة ويعيشان الأبوّة والأمومة المسؤولة التي قد تقتضي تنظيمًا سليمًا للخصوبة، بقرار واعٍ وضمير مستنير، على أن يأتي هذا القرار منسجمًا مع الشريعة الإلهيّة وتعليم الكنيسة وغير مدفوع بـ “الأنانيّة واللذة والعادات غير المشروعة التي تحول دون الولادة”[16].

2. في التربية

  1.  كما يحثّ أعضاء المجمع عائلاتنا على أنّ لا يغيب عنها أنّ التربية هي غاية أساسيّة من غايات العهد الزوجيّ، وهي مسؤولية مشتركة لا تستبدل ولا تسلب، يضطلع بها الأب والأم معًا. وهي ليست واجبًا عليهم فحسب، إنما حقّ “لا يفوّض ولا يغتصب”. وإنّ الغاية الأخيرة لكلّ تربية مسيحيّة تكمن في السهر على تحويل المنزل العائليّ إلى “كنيسة بيتيّة”[17].

3. في حياة المشاركة

  1. إنّ العائلة المارونيّة مدعوة أن تلعب دورًا في الحياة الاقتصاديّة المرتّبة أساسًا لخدمة الإنسان بكلّيته، وخير الجماعة البشريّة[18] فتمارس النشاط الاقتصاديّ ضمن حدود النظام الخُلُقيّ، وبحسب مقتضيات العدالة الاجتماعيّة، مستنيرة بمبادئ الكنيسة الاجتماعيّة، ليأتي هذا النشاط مطابقًا لتصميم الله على الإنسان[19]. ويتطلّب هذا الموقف أن تحسن العائلة إدارة خيراتها الماديّة بروحٍ مسيحيّة، فتشكر الله عليها “لأنّ كلّ شيء من عند الله” (سي 11/14)، و لا تقع في الغرور بسببها (مز 48/7) أو تتحوّل إلى عبادتها، بل تعمل على الاستفادة منها لخيرها وخير الآخرين[20]. من هنا كانت دعوة العائلة المارونيّة إلى أن تتحلّى بذهنيّة بساطة العيش، وتحيا حياة مطبوعةً بنوع من الزهد والحكمة يؤدّيان إلى توظيف الفائض لديها في مختلف أعمال المحبّة والرحمة، بحيث إنّها تحسب للفقير حسابًا، وتخصّص له دائمًا حصّة ثابتة في اقتصادها، مهما تفاوتت مستوياتها الماديّة.

4. المساهمة في الترقّي الاجتماعيّ

أ) من خلال الانفتاح على المجتمع

  1. لا يمكن للعائلة، وهي “خليّة الحياة الأولى في المجتمع”، أن تحيا منغلقة على ذاتها، معزولة، لا مبالية بمحيطها أو معادية له. فالتربية داخل العائلة، مدعوّةً إلى تخطّي إطار “المجتمع الصغير” والانفتاح على “المجتمع الكبير”، والمبادئ التي رعت التربية العائليّة، كالمشاركة والمجّانيّة والعدالة وغيرها، هي نفسها تؤسّس العلاقات الاجتماعيّة. من هنا واجب العائلة المارونيّة في الدفاع عن هذه المبادىء ونشرها بالقول والفعل، فتحارب بذلك العنف والتدهور الخلقيّ والفساد.
  2. ويفترض هذا الدور أن تلتزم العائلة المارونيّة ذات الإرادة الصالحة، في ميادين عمل واسعة ومفتوحة، كالتربية المدنيّة والاقتصاد والسياسة والإعلام والعدل والمؤسّسات الاجتماعيّة، مع التشديد على حقوق الصغار والمهمّشين.
  3. ويمكننا أن نضيف إلى هذه الالتزامات المنشودة، تقليدًا مارونيًّا اجتماعيًّا مميّزًا، وله ثماره الغنيّة والأكيدة، يتلخّص في حسن الإستقبال وكرم الضيافة. فلا بدّ في هذا الصدد من القيام ببعض الجهد وتفعيل الإرادة الواعية، كي تحافظ العائلة المارونيّة على هذا التقليد النبيل وتستقبل في “كنيستها البيتيّة” الصغيرة، كلّ محتاج إلى المشاركة والفرح.

ب) إنطلاقًا من حقوق الإنسان وحقوق العائلة

  1. تتّسع الآفاق أمام مساهمة العائلة المارونيّة في عمليّة الترقّي الاجتماعيّ بتخطّيها إطار المبادرة الفرديّة النابعة من شعور مسيحيّ شخصيّ، نحو التزام عام فاعل عبر المنظّمات الكنسيّة والاجتماعيّة والوطنيّة والدوليّة والحكوميّة وغير الحكوميّة التي تهتمّ بالدفاع عن الحريّات العامّة، والحفاظ على كرامة الإنسان[21]، فلا تعود هذه المساهمة مجرّد هواية وتسلية بل تضحي التزامًا ورسالة.

ثالثًا: الإشتراك في حياة الكنيسة ورسالتها

  1.  للعائلة المارونيّة مهمّة كنسيّة خاصّة تجعلها “في خدمة بناء ملكوت الله في التاريخ من خلال مشاركتها في حياة الكنيسة ورسالتها”[22]. من هذا المنطلق، فإنّ هذه العائلة مدعوّة إلى تحمّل مسؤوليّتها في رسالة الكنيسة في العالم، لتسهم، من خلال عيشها لسمات الحبّ المسيحيّ، في نشر فضائل الإيمان والرجاء والمحبّة في عالم أصبح بأشدّ الحاجة إليها.

1. واجب نقل الإيمان

  1.  يقتضي الإشتراك في حياة الكنيسة ورسالتها، بالنسبة إلى الزوجين المسيحيّين، نقل الإيمان الصحيح إلى الأبناء بإعتباره حجر الزاوية للحياة المسيحيّة. راح يفتقد عالم اليوم إلى جوهر الإيمان الحقيقيّ، وبات الدين مجرّد ممارسة أو أُصوليّة أو أصبح يُعتبر عادة بالية، فعلى العائلة إذًا أن تنفتح على الإيمان، بتقبّل كلمة الله وبإعلانها في البيت والمجتمع، وأن تنمو فيه بالمواظبة على الصلاة وقراءة الإنجيل وتأمّله، فتصبح “جماعة تبشّر” أيّ تشترك في وظيفة الكنيسة النبويّة، من خلال الكلمة وعبر “حياة زوجيّة وعائليّة مقدِّسة ومقدَّسة بالمسيح”[23].

2. المساهمة في تعزيز الرجاء

  1.  يدعو أعضاء المجمع العائلة المارونيّة أينما حلّت، لأن تكون، في وجه اليأس والضياع واللامبالاة، مساحة مميّزة للتمرّس بالرجاء المسيحيّ وإشعاعه في البيت وفي المحيط العائليّ[24]. فكلّ فرد من أفرادها هو رجاء للآخر: الزوجان الواحد للآخر ولأولادهما، والأولاد بعضهم لبعض ولأهلهم.

وإن كانت السعادة المشروعة التي يتوق إليها كلّ إنسان، هي سعادة ينتظرها الواحد من الآخر، ففي العائلة المسيحيّة ينتظر الجميع الفرح أيضًا من السماء. و تثبت هذه العائلة في الرجاء أمام صعوبات الحياة اليوميّة، لأنّها تعلم أنّها بين يدي الله الآب الأمين لمواعيده، والحاضر دومًا في أوقات الضيق. هذا الرجاء يسبغ على الصعوبات معنى ويشركنا في خلاص البشريّة بحسب مشروع الله.

3. إشتراك العائلة في حياة المحبّة

  1. إنّ العائلة هي الإطار الطبيعيّ الأنسب ليحيا المسيحيّ الفضائل الإلهيّة الثلاث أيّ الإيمان والرجاء والمحبّة وبخاصةٍ المحبّة التي هي “صورة جميع الفضائل”[25]. فالعائلة المسيحيّة التي يحييها الحبّ الإلهيّ، تعيش المحبّة في ممارسة المسؤوليّات الزوجيّة والأبويّة والبنويّة، متخطّية الأخطار المحدقة بها، فيتمتّع فيها كلّ فرد بكرامته الإنسانيّة من دون تمييز بين سليم أو معوّق، بين معافى أو مريض، بين شاب أو مسنّ. إن المحبّة التي يعيشها جميع أفراد العائلة في وحدة صادقة روحًا وقلبًا، بنعمة الله ولأجله، تجعل العائلة، “ما يجب أن تكون عليه أيّ جماعة إيمان ورجاء ومحبّة”[26]. فتغدو المحبّة عملاً رسوليًّا في الكنيسة، وتنعش “روح القداسة التي دعي الجميع إليها”[27]، كما تصبح في نظر العالم، شهادة لحقيقة المسيح: لأنّه “إذا أحبّ بعضكم بعضًا عرف الناس جميعًا أنكم تلاميذي” (يو 13/35).

خاتمة

  1. من الكنيسة الجامعة إلى الكنيسة البيتيّة، من الأزواج إلى الأهل إلى الأبناء إلى كلّ فرد، تبقى مسيرة بنيان الإنسان وتكليله بالقداسة هي الغاية الأسمى لكلّ عقيدة وتخطيط وعمل. فعلى العائلة، في خضمّ مسؤوليّاتها المباشرة وغير المباشرة، أن تبغي هذه القداسة لكلّ شخص من أفرادها. وليسعَ الجميع إلى تقديس ذواتهم وبعضهم بعضًا من خلال التكامل والاحترام وصون الكرامة الإنسانيّة. على هذا الأساس، فلتسهر العائلة على تصويب ودعم مسيرة القداسة وتحقيق دعوة المحبّة والسعادة لكلّ فرد من أفرادها ومن أفراد المجتمع، متزوّجًا كان أم عازبًا، مرتبطًا أم أرملاً أم فاسخًا لزواجه، أهلاً أم من دون أطفال، إذ إنّ لكلّ واحد من هؤلاء كرامته ودعوته ودوره في بنيان ذاته وتحقيق دعوة الملكوت فيه وفي العالم. على هذا الأساس، لا يجوز لأيّ فرد، مهما كان وضعه، أن يقلّل من دوره ورسالته في صقل الجماعة العائليّة الرعائيّة والكنسيّة، بل عليه أن يسعى إلى وضع مواهبه وخبراته واختباراته في خدمة البشارة وبنيان جسد المسيح.
  2. “إن الكنيسة تثق بالعائلات، وتعوّل على الأهل، وبخاصّة في آفاق الألف الثالث، لكي يحظى الشباب بمعرفة المسيح، واتّباعه اتّباعًا سخيًّا… في العائلات حيويّة روحيّة غنيّة… الأسرة هي “الكنيسة الصغرى”، وهي مدرسة الحبّ، والموقع الأوّل للشهادة المسيحيّة والرسوليّة، بالمثل كما بالكلام. إنّ سرّ الحبّ الذي يربط الرجل بالمرأة يعكس الوحدة القائمة بين المسيح وكنيسته…” (رجاء جديد للبنان، 46).


 

توصيات النصّ وآليات العمل

 

الموضوع

التوصية

الآليّة

1- العائلة المارونيّة.

 

1- تحمل الكنيسة، الأمّ والمعلمة، مسؤوليّة جوهريّة في صون كرامة العائلة وترسيخ أسسها وتحسين ظروفها. ولا يجوز للجماعة المسيحيّة بشكلٍ عامّ، وللقيمين عليها بشكلٍ خاصّ، التغاضي عن دعم العائلة على المستويات الروحيّة والتربويّة والاقتصاديّة والسياسيّة لمساعدتها على تحقيق دعوتها.

 

2- على مستوى الرعيّة/جماعات عائليّة.

 

2- إنشاء لجنة للعائلة في كلّ رعيّة لكي تكون إلى جانب كاهن الرعيّة وتساعده على العناية بالعائلة.

– تأسيس جماعات عائليّة في الرعيّة تؤمّن للأسرة ظروفًا مؤاتية لعيش حياتها المسيحيّة ورسالتها.

2-أ: تتألف لجنة العائلة من أشخاص يعتنون بشؤون العائلة.

2-ب: تتكّون الجماعات العائليّة من 7 أو 8 أزواج يجتمعون بحسب برنامج موضوع لهذه الغاية (أنظر دليل اللجنة الأسقفيّة لشؤون العائلة والحياة).

3- على مستوى الأبرشيّة/لجنة شؤون العائلة والحياة.

 

3-أ: إنشاء “لجنة للعائلة” في كلّ أبرشيّة تخلو منها.

 

3-ب: تفعيل “لجنة شؤون العائلة والحياة” في الأبرشيّة بحيث تكون عضدًا للأسقف في تحقيق مخطّط راعويّ للزواج والأسرة.

3-ج: إعتبار التحضير للزواج إلزاميًًّا.

 

3-أ: تنشئة أعضاء هذه اللجنة على التحضير للزواج ومرافقة المتزوجين والعناية بشؤون العائلة.

 

 

 

3-ج: – تلتزم الكنيسة إزاء المؤمنين بإعدادهم إعدادًا واعيًاً وناضجًا لسرّ الزواج المقدّس. يُعتمد في هذا الإعداد برنامجًا مشتركًا في كلّ الأبرشيّات وموحّدًا في خطوطه الأساسيّة.

 

4- على مستوى الأبرشيّة – مركز للإصغاء.

 

4- إنشاء “مركز للإصغاء” في كلّ أبرشيّة يعمل بالتنسيق مع كهنة الرعايا لمواكبة العائلات نحو خيرها ونجاحها.

 

4- يعنى هذا المركز بالمهام التالية:

  4-أ: تأمين الإرشاد الروحيّ والإستشارات القانونيّة والاجتماعيّة والطبيّة.

  4-ب: الإصغاء الى مشاكل الأزواج والعائلات المعرّضة للانقسام والتعاون على إيجاد الحلول الملائمة لها.

 4-ج: إعداد أشخاص مؤهلين للقيام بهذه المهام.

5- على مستوى المؤسسات الكنسيّة.

 

5- حثّ المدارس والمؤسّسات الكاثوليكيّة بشكلٍ عامّ، والمارونيّة بشكلٍ خاصّ، على احتضان واقع الأم – العاملة ومساعدتها على تحمّل مسؤوليّاتها العائليّة من إنجاب وسهر وتربية وحضور، فلا تكون أمومتها سببًا أو مبررًا لطردها من عملها.

5- العمل على إستصدار التشريعات اللازمة بهذا الشأن بمتابعة من الأمانة العامّة للمدارس الكاثوليكيّة ولجنة التنسيق بين الجامعات.

 

6- معهد متخصّص على مستوى الكنيسة المارونيّة.

 

6-أ: دعم معهد  يوحنّا بولس الثاني الحبريّ للدراسات حول الزواج والعائلة (جامعة الحكمة- بيروت) من أجل تنشئة المتخصّصين في هذا المجال.

 

6-أ: يتّبع هذه التنشئة من اختارتهم الجماعة (مجلس رعويّ، كاهن الرعيّة، لجنة العائلة الرعويّة أو الأبرشيّة أو الأسقفيّة) وسمّاهم الأسقف المعنيّ “رسميًّا”، على أن يكونوا من المهتمين براعويّة العائلة.

6-ب: تسعى الأبرشيّة المعنيّة الى تأمين القسم الأكبر من الأكلاف الأكاديميّة.

7- الأبحاث اللاهوتيّة والأخلاقيّة.

 

7- تعميم تعاليم الكنيسة المتعلّقة بتطوّر العلوم البيولوجيّة والطبيّة، والتعمّق بالأبحاث اللاهوتيّة والأخلاقيّة الخاصّة بها.

 

7-أ: إدراج مادة أخلاقيّات علم الحياة في برامج التنشئة المسيحيّة.

7-ب: العمل مع الجسم الطبيّ المسيحيّ على احترام الحياة البشريّة.  

8- النزاعات العائليّة.

 

8-أ: تسريع العمل في المحاكم الروحيّة تحقيقًا للعدالة والإنصاف وتأمين الحقوق والفصل في الدعاوى ضمن  المهل القانونيّة.

 

 

 

 

 

 

 

8-ب: إستكمال ورشة تحديث قوانين الأحوال الشخصيّة.

8-أ: إعادة النظر في هيكليّة المحاكم وطريقة ادائها.

– اعتماد أصول المحاكمات المختصرة كلّما أتاح القانون ذلك.

– وضع حدّ للمحاولات التسويفيّة على يدّ بعض الفرقاء أو وكلائهم.

– المبادرة إلى تعيين الجلسات وإجراء التبليغات دون إنتظار مراجعة أصحاب العلاقة.

– تصديق قرارات البداية بصيغة إستثنائيّة مختصرة كلّما كان ذلك ممكنًا.

8-ب: تفعيل عمل اللجنة الأسقفيّة لتحديث قوانين الأحوال الشخصيّة في لبنان.

9- العائلات المارونيّة الكثيرة العدد.

 

9- يشجّع المجمع قيام العائلات المارونيّة الكثيرة العدد تقديرًا منه لما تحمله من قيم جوهريّة وإيمانًا منه بأنّها عطيّة من الله وبأنّها تساهم في إنماء الكنيسة والمجتمع.

9- رسم خطّة اقتصاديّة اجتماعيّة لدعم العائلات المارونيّة الكثيرة العدد والمعوزة الحال.

 

10- الصلاة العائليّة.

10- يحثّ المجمع العائلات على إعادة الإعتبار للصلاة ضمن العائلة، وعلى توسيع إطار هذه الصلاة مع تعميق مضمونها لكي تحوش أبعاد الإيمان.

10-أ: الإستعانة بالكتاب الخاصّ بصلاة العائلة، وهو مرتّب بحسب الروزنامة الطقسيّة ومن إعداد اللجنة الأسقفيّة للعائلة والحياة وترجمتها.

ب- التشجيع على تلاوة صلاة المسبحة أو قراءة نصّ من الإنجيل أو من سفر المزامير أو من مصادر كتابيّة أخرى.

ج- التشجيع على القيام بمبادارات جديدة في هذا الصدد.

 

 

11- التنشئة على راعويّة العائلة.

11- يوصي المجمع بإدراج موضوع “التنشئة على راعويّة العائلة” ضمن برنامج الدروس في الإكليريكيّات ومعاهد اللاهوت.

 

11- تعنى بهذا الموضوع الجامعات ودور التنشئة.

12- صون القيم العائليّة.

 

12- يحضّ المجمع على صون القيم العائليّة المسيحيّة في البرامج المدرسيّة والجامعيّة وفي مجالات الإعلان والإعلام المكتوب والمرئيّ والمسموع.

12-أ التنسيق بين وسائل الإعلام واللجان المعنيّة بشؤون العائلة لوضع خطط تربويّة وعائليّة موضع التنفيذ بعد دراستها بعناية.

12-ب: إنشاء “مجموعة ضغط” “groupe de pression” قوامها أشخاص من ذويّ الأهليّة لمتابعة البرامج التلفزيونيّة والإعلانات متابعة حثيثة، وإبداء الرأي فيها بهدف التأثير على وسائل الإعلام لحملها على صون القيم العائليّة.

 

 


1. “ليس فقط الكهنة، بسبب سيامتهم المقدّسة، هم مجبرين بتلاوة وترتيل الفرض، بل أيضًا كلّ الشعب المتواجد هناك يرتّل معهم الساعات عينها. وجمعيهم يلتقون عند منتصف الليل:الكهنة والرهبان والعلمانيون ومن شاء، ودائمًا في جمهرة كبيرة من الشعب.”

J. DANDINI, Missione Apostolica al Patriarca e Maroniti del Monte Libano, Cesana, 1656, p.82.

DE LA ROQUE, Voyage de Syrie et du Mont-Liban, I Paris, 1722, p. 205

2. الأب يوحنّا تابت، إنسان الشحيمة المارونيّة: مزارع وطبيب، الليتورجيا والعلوم الإنسانيّة، 15 (1992)، 77-140، معهد الليتورجيا – الكسليك.

3. كالإعتقاد بصيبة العين واللجوء إلى الخرزة الزرقاء وضرب المندل، وغيرها…

4. سيّدة قنوبين، سيّدة بكركي، سيّدة إيليج…

5.”L’âme libanaise, isolée dans sa vallée […], vivant entre église et monastère […] s’est portée tout d’une pièce vers la Sainte Vierge […] comme un foyer d’attraction et de salut, et peu à peu, elle s’est fait ce que j’appellerai un tempérament marial […] Il y a sur Mariam une solidarité, une unanimité qui m’ont frappé”.

Goudard P., La Sainte Vierge au Liban, cité par Mgr Béchara Chémali in Pentalogie, T. II, vol. 1, 440-441.

6. عبر حرمانها من الميراث أو التعلّم أو زجها في حالات لا رأي لها فيها كالزواج القسريّ مثلاً. كما عانت من عقلية التمييز السائدة في ذلك الزمان والتي كانت تفضّل الذكور على الإناث كضمانة لاستمراريّة العائلة.

7. راجع فصل العائلة المارونيّة في المونسنيور مسلين (مستشرق نمساويّ، القرن التاسع عشر)، “الأماكن المقدّسة”.

8. المجمع المسكونيّ الفاتيكانيّ الثاني، الدستور الرعائيّ (Gaudium et Spes)، فرح ورجاء، رقم 59.

9. Jean–Paul II, discours de réception au nouvel ambassadeur de la République Tchèque près le Saint Siège, 23-4-2003

10. كالإجهاض ووسائل منع الحمل وغيرها…

11. نذكر الأزواج الذين حصلوا على فسخ زواج أو والذين إلتجأوا إلى كنائس أخرى للحصول على الطلاق والمطلقين الذين تزوجوا ثانيةً…        

12. إرشاد رسوليّ إلى الأساقفة والكهنة ومؤمني الكنيسة الكاثوليكيّة جمعاء في وظائف العائلة المسيحيّة في عالم اليوم، 1981، ص 154 رقم 86.  

13. “سأكون بالقرب منكما وإلى جانبكما لأحتفل بسرّ زواجكما وسأشبك يمينكما لأشبكهما بيد الله”، القديس غريغوريوس حين يكتب إلى خطيبين من معارفه.

14. يبارك الكاهن الخاتمين طالبًا من الله أن “يكونا سورًا لجسديهما… وكم من المرات وضع فيها الكاهن خاتم العريس في كفّ العروس إذ أصبح عريسها أمانة في يدها ووضع خاتم العروس في كفّ عريسها إذ أصبحت وزنة بين يديه سوف يحاسب عليها.

15. فرح ورجاء، 52.

16. فرح ورجاء، 47.

17. في وظائف العائلة المسيحيّة في عالم اليوم، 21.

18. فرح ورجاء، 64.

19. التعليم المسيحيّ للكنيسة الكاثوليكيّة، 2426.

20. يقول القديس بولس “والذين يستفيدون من هذا العالم كأنّهم لا يستفيدون حقًا، لأنّ صورة هذا العالم في زوال” (1 كور 7/31).

21. السعي إلى إلغاء التعذيب والعنف وحماية الضعيف والنضال ضدّ الحروب والعناية بالمرضى والعمل على تحسين نوعية حياة المعوزين وتأمين تكاليف الدراسة للأولاد ومساندة العائلات التي تعاني من صعوبات مختلفة.

22. في وظائف العائلة المسيحيّة في عالم اليوم، 49.

23. في وظائف العائلة المسيحيّة في عالم اليوم، 51.

24. الرجاء هو الفضيلة الإلهيّة التي بها نرغب في ملكوت السماوات، والحياة الأبديّة، رغبتنا في سعادتنا، واضعين ثقتنا بمواعيد المسيح، ومستندين لا إلى قوانا بل إلى عون نعمة الروح القدس.

25. التعليم المسيحيّ للكنيسة الكاثوليكيّة، 2346.

26. في وظائف العائلة المسيحيّة في عالم اليوم، 1981، ص 30 رقم 17.

27. المجمع المسكونيّ الفاتيكانيّ الثانيّ، الدستور العقائدي (Numen Gentium)، نور الأمم، 42.