الحياة الرهبانية

مقدّمـة

  1. في كنيستنا المارونيّة مؤسّسات رهبانيّة عديدة، نسائيّة ورجاليّة، تضمّ حاليًا أكثر من ألف وخمسماية راهب وراهبة، تمتدّ جذورها في عمق الحياة الكنسيّة وتراثها، وهي تواصل أنماطًا تأمّليّة – رسوليّة عرفتها الكنيسة الأنطاكيّة منذ فجرها، وقد رافقت ولادة الكنيسة المارونيّة التي ترعرعت في مناخها، وبدونها ما كان لها أن تكون هي نفسها. يقول قداسة البابا: “منذ قديم الزمان كانت الحياة الرهبانيّة روح الكنائس الشرقيّة. فالرهبان المسيحيّون الأوّلون ولدوا في الشرق، والحياة الرهبانيّة كانت جزءًا من نور الشرق الذي نقله إلى الغرب كبار آباء الكنيسة غير المنقسمة”[1]. فقبل قراءة الحياة الرهبانيّة في واقعها الراهن، بنظامها وتطلّعاتها، نستعرض باقتضاب أهمّ ما توفّر من معلومات حول مصدر هذه الحياة وانطلاقتها ولاهوتها ومكانتها ودورها في الكنيسة المارونيّة، فنتكلّم على جذور هذه الحياة، ثمّ نوجز أبرز محطّاتها التاريخيّة، ونخصّص فصلاً، لروحانيّة الحياة الرهبانيّة، وقوانينها، وعلاقتها بالسلطات الكنسيّة. وبعد أن نعرض حقول رسالتها، نحاول الوقوف على مدى نهلها حاليًا من المعالم الروحانيّة الأولى وحرارتها وينابيعها، وهو أمر مفترض في أساس كلّ تجدّد، والشرط ضروري لتحديد الهويّة.

الفصل الأوّل : المحطّات التاريخيّة الرئيسة

أولاً: جذور الحياة الرهبانيّة السريانيّة الأنطاكيّة

  1. منذ فجر المسيحيّة، برزت ملامح الحياة المكرّسة منطلقة من سيرة السيّد المسيح وتعليمه، وتسابق البعض في هذا الشرق على الزهد بالدنيا والتمسّك بالإنجيل وعيشه بجذريّته كما فهمه، سالكًا نمط عيش فرديّ، أو عائليّ أو جماعيّ، وقاطعًا على نفسه عهدًا بالعفّة والتبتّل؛ لكننا لا نعرف عن هؤلاء إلاّ ما جاء في بعض الكتب، مثل كتاب أعمال توما[2] وكتاب المراقي[3] وكتابات افراهات[4] عن المسار الزهديّ التوحّديّ وعن جماعة أبناء العهد وبناته الذين عاشوا حياة مكرّسة. لقد كانوا تمهيدًا لتفجّر الحياة الرهبانيّة في الشرق، لا بل شكّلوا الحالة الرهبانيّة الأولى[5].

ومنذ القرن الرابع، برزت الحياة الرهبانيّة بصورة فرديّة، على يد نسّاك متوحّدين، رفضوا التراخي المنتشر بُعيد السلام القسطنطينيّ، فعاشوا وحيدين في القفر والمناسك، وازدهرت حياتهم القشفة والمتزهّدة. من هؤلاء النسّاك عرفنا الناسك الأوّل يعقوب النصيبيني ويوليانوس الملقّب بسابا، أيّ الشيخ (+367). وكان مارون من أبرز العائشين في العراء، وصاحب فضل في تأسيس الحياة النسكيّة في العراء في منطقة قورش. فتتلمذ على يده الكثيرون، رجالاً ونساء. من تلاميذه: حوشب القورشيّ ويوحنّا وبردات ويعقوب؛ ومن تلميذاته: مارانا وكيرا ودومنينا، وقد ذكرهم تيودوريتس أسقف قورش في تاريخه الرهبانيّ الأنطاكيّ المعنون “تاريخ اصفياء الله”[6]. لقد شكّل هؤلاء المتوحّدون دعامة رئيسيّة للشهادة على تعاليم المجامع ودحض البدع، فكان التفاعل التأسيسيّ بين المجمع الخلقيدونيّ وبناء دير مار مارون، انطلاقة لبروز حالات عيش مشترك. وبنتيجة تأثير ترجمة العديد من الكتب المصريّة الرهبانيّة إلى اللغة السريانيّة[7]، وخصوصًا بعد نشر سيرة القدّيس انطونيوس على يد اثناسيوس الاسكندريّ المعاصر له، وبعد الاطّلاع على قوانين القدّيس باخوميوس وعلى نمط القدّيس باسيليوس الكبير[8]، تعزّز امتزاج الطريقة التوحّديّة في التقليد السريانيّ الأنطاكيّ بالطريقة الجماعيّة، وسرعان ما تحوّل الكثيرون من التفرّد النسكيّ إلى اتحاد متوحّدين، لتوحيد الفهم والقلب والمسلك عبر شراكة الخبرات وضبط المغالاة والتطرّف[9]. عندئذ، بدأت الحياة الرهبانيّة الجماعية بتجمّع النسّاك، وتمحورت سريعًا حول حياة ديريّة، جزئيّة (قنّوبيّ)[10] أو كاملة، مع حفاظها على النسك الفرديّ، أحد وجوهها الزهديّة المهمّة[11].

  1. تميّزت الحياة الرهبانيّة السريانيّة الأنطاكيّة في هذه المرحلة بالزهد الكليّ وعيش أنماط نسك متنوّعة، كما اتّسمت بالاضطلاع بأعمال الكرازة والتبشير والرسالة.  يشهد الكتّاب على أنّ رهبان دير القدّيس مارون لم يكونوا يقتصرون على النسك والتكامل بالفضيلة وتخليص نفوسهم فقط، بل كانوا يباشرون الرسالة والاهتمام بخلاص الآخرين ايضًا[12]. ولعبت الراهباتُ في هذا المجال دورًا مؤازرًا، وعُهدت إلى رئيسات الأديار خدمة الشمّاسيّة ليدهنّ طالبات العماد بالزيت بعد أن يكون الكاهن قد دهن جباههنّ. فالواقع أنّّ الإيمان المسيحيّ لم يعمّ في مناطق سورية وبلاد ما بين النهرين، ولم ينتشر في الأقطار بين بلاد فارس وأرمينيا والهند، إلاّ نتيجة نشاط إرساليّ كبير قام به الرهبان السريان بصلابة وإيمان[13].

وقد استمرت هذه الميزة المزدوجة، التأمّليّة-الرسوليّة للحياة الرهبانيّة، في الكنيسة الأنطاكيّة عامّة، وصحبت قيام الكنيسة المارونيّة بالذات في أواخر القرن السابع.

ثانيًا: من القرن السابع حتى القرن السابع عشر

  1. رافقت الحياة الرهبانيّة بنمطيها، النسكيّ والديريّ، نشأة الكنيسة المارونيّة، فارتبط تاريخ الموارنة برهبان دير مار مارون الناسك وتلاميذه. ولعب هؤلاء دورًا هامًّا في حياة الكنيسة، فشكّلت الحياة الرهبانيّة عصب الحباة الكنسيّة المارونيّة وسرّ تجذّرها السريانيّ والأنطاكيّ، وبقي هذا الدور فاعلاً عبر التاريخ حتى الآن. فتطوّرت الحياة الرهبانيّة في الكنيسة المارونيّة وازدهرت، وبنى الرهبان دير مار مارون الشهير وبلغ عدد الرهبان والنسّاك فيه وحده ثمانماية راهب وناسك، اعتزل منهم ثلاثماية في الصوامع والمناسك المحيطة به، منقطعين للصلاة والتأمّل، بينما ظل الاخرون مقيمين فيه، خاضعين لسلطة رئيس ونظام، فبدت الحياة الديريّة هكذا، وكأنّها مقدّمة توصل المدعوين من الرهبان إلى حياة النسك والاعتزال الكليّ عن العالم[14].

ويجمع المؤرّخون واللاهوتيّون على القول إنّ دير مار مارون بأسقفه ورهبانه ومؤمني الجوار، شكّل النواة الأولى لنشأة الكنيسة المارونيّة، دون أن ننسى أن الدير ورهبانه أنبثقوا هم أيضًا من جوار مؤمن. وفي هذا قيل: “إنّها ظاهرة فريدة في تاريخ الكنيسة الجامعة، حيث لا نعرف كنيسة أخرى خرجت من دير، وتمحورت حوله، بالرغم ممّا كان للحركات الرهبانيّة من أثر عميق في حياة الكنائس في الشرق والغرب؛ فمن الطبيعيّ، إذًا، أن تتميّز كنيسة الموارنة بروحانيّة نسكيّة ورهبانيّة، انطبعت بها منذ نشأتها، وتشابك تاريخها بمصير الحياة الرهبانيّة التي بقيت بمثابة القلب النابض فيها”[15].

  1. لمّا ولّى الموارنة وجوههم شطر لبنان الشماليّ، في سبيل المحافظة على حريّة معتقدهم الدينيّ بعد الفتح العربيّ، استوطنوا منطقة الجبّة ووادي قنّوبين ووادي قزحيّا، ليحتموا في تلك الجبال الوعرة المسالك ويختبئوا في الأودية السحيقة الغور. وبعد أنّ حطّوا رحالهم في هذه المناطق، نما بينهم عدد الرهبان والنسّاك، ودلف كثيرون منهم إلى تلك المغاور الطبيعيّة والصوامع النائية. فازدهرت الحياة الرهبانيّة والنسكيّة في ذلك الوادي المقدّس، واتّسمت محطّاتها التاريخيّة بطاقة روحيّة رائعة فجّرتها نخبة رائدة من الرهبان والنسّاك الموارنة، الذين تميّزوا كنسّاك القورشيّة الأقدمين، بنـزعة إنجيليّة راديكاليّة نابعة من أغوار الوحي الإلهيّ، وغنى التراث المارونيّ، فحوّلوا تلك الأودية إلى جنائن غنّاء، وتوسّعوا إلى المناطق الجبليّة الأخرى.

 وبعد اندحار الصليبيّين والهجوم على الجبل، ذُبح العديد من الرهبان والراهبات وتأثّرت الحياة الرهبانيّة وتفكّكت الأديار الكبيرة. لكنّ الحالة الرهبانيّة ما لبثت ان عادت لتزهر في أعماق الوديان وأعالي قمم جبل لبنان، فشكّلت منذ القرن الرابع عشر وحتى القرن السادس عشر، فردوسًا من الرهبان والراهبات.

  1. بعد المجمع التريدنتينيّ (1545-1563)، تأسّس مجمع انتشار الإيمان (1568) وترسّخت الإرساليّات في لبنان والشرق. وفي سنة 1584، أسّس البابا غريغوريوس الثالث عشر المدرسة المارونيّة في روما بهدف تنشئة الإكليروس المارونيّ على تعاليم المجمع التريدنتينيّ. أدت هذه المستجدّات إلى إدخال نمط غربيّ على الحياة الرهبانيّة في الشرق، وإلى مقارنات ومفاضلات بين العبّاد والعابدات والآفلين من المدرسة المارونيّة، وبينهم وبين سائر رهبان الإرساليّات المثقّفين الذين فتحوا المدارس وعلّموا الأولاد بدعم خارجيّ وكسبوا ثقة الشعب وعطفه، فطرحت تساؤلات كثيرة وتبدّلت النظرة إلى الرهبان والنسّاك الفقراء القاطنين في المحابس والأديار، فراح عددهم يتقلّص ويتضاءل، ممّا حطّ من ميزة الحياة الرهبانيّة المارونيّة في أوائل القرن السابع عشر؛ وعليه، فإنّ مرحلة جديدة ستبدأ بالاصلاح والتجديد مع أواخر القرن السابع عشر.

ثالثًا: منذ  أواخر القرن السابع عشر وحتى اليوم

  1. قبيل نهاية القرن السابع عشر، بدأ إصلاح الحالة السائدة لدى الرهبان أوّلاً، وما لبث أن شمل الكنيسة المارونيّة بكاملها، من خلال المجمع اللبنانيّ (1736) الذي أكمل قوانين الرهبان والراهبات وأقرّ الإصلاحات التي أجروها. لقد شكّل التنظيم الجديد منعطفًا هامًا في وجه ما تسرّب إلى الحياة الرهبانيّة خلال القرن المنصرم، ليعيد التأكيد على تراثها المشرقيّ، دون إغفال التطوّر التنظيميّ الحاصل في الغرب.
  2.  ابتداء من سنة 1695، تحوّلت الهيكليّات التنظيميّة السابقة، فتمّ الانتقال من أديار مستقلّة، تابعة لمناهج رهبانيّة ونسكيّة متنوّعة، إلى منظّمات رهبانيّة تجمع كلّ منها أديارًا عدّة يحكمها رئيس رهبانيّ بمؤازرة مجلس مساعدين، أيّ سلطة مركزيّة ترتبط بها مجموعة الأشخاص والأملاك بالتسلسل الإداريّ والتنظيميّ. ومع تبنّي هذا التنظيم الجديد، تشبّث المنظّمون الجدد بروحانيّة الحياة الرهبانيّة الشرقيّة، وأكّدوها عليها كما يقول عبدالله قرألي في مقدّمة كتابه “المصباح الرهبانيّ”: “إنّي لا أهدف من شرحي للقوانين إلاّ برهان تطابقها مع تعاليم الأقدمين وأحكامهم”. وهكذا بدت الحياة الرهبانيّة في إصلاحها، مرتكزة على الزهد والصلاة والعمل اليدويّ، ولكنّها باتت مبنيّة على غرار الهيكليّة المعتمدة لدى المنظّمات اللاتينيّة المستقرّة في المنطقة.
  3. هكذا شهدت الحياة الرهبانيّة إصلاحًا تجديديًّا وتنظيميًّا، بدأ مع ثلاثة شبّان حلبيّين: جبرائيل حوّا وعبدالله قرألي ويوسف البتن، تبعهم جرمانوس (جبرايل) فرحات، قصدوا جبل لبنان ومثلوا بين يدي البطريرك اسطفانوس الدويهيّ في قنّوبين، وأطلعوه على نيّتهم في الترهّب، وبعد أن تأكّد من قوّة عزيمتهم ومن استعدادهم للعيش القشف، أُعجب بهم وأرسلهم مزوّدين ببركته إلى دير سيّدة طاميش أوّلاً، ثمّ إلى دير مرت موره – إهدن (في شمال لبنان)، ومن هناك نزلوا إلى قنّوبين وألبسهم البطريرك الدويهي الإسكيم الملائكيّ في 10 تشرين الثاني سنة 1695، فانطلقت مسيرة الرهبانيّة الحلبيّة (اللبنانيّة بعد سنة 1706) التي انجذب اليها كثيرون، وسرعان ما كثر عدد الأديار المليئة بالرهبان والراهبات.

في السنة1770 انقسمت هذه الرهبانيّة إلى قسمين، حلبيّة[16] وبلديّة[17] (لاحقًا، المريميّة واللبنانيّة)، أشخاصًا وأديارًا وممتلكات وديونًا ونفوذًا ومعاملات.

  1. وفي السنة 1700 أيضًا، ومن دير طاميش بالذات، وبعد اختبار رهبانيّ نسكيّ عميق لسنوات، أطلق المطران جبرائيل البلوزانيّ، مطران حلب ورئيس الدير، مجموعة من الرهبان والآباء، هم رزق الله السبعليّ وبطرس البزعوني، تبعهما سليمان بن الحاج المشمشانيّ وعطالله كريكر وموسى البعبداتيّ، ليبدأوا مسيرة الرهبانيّة الأنطونيّة في محيط غير مسيحيّ من المتن الشماليّ الحاليّ، في دير مار اشعيا الذي بنوه بمساعدة المطران المذكور، على تلّة مكرّسة للإلهة “عرمتا” الفينيقيّة، فانصرفوا إلى الخدمة والعمل، ونمت هذه الرهبانيّة بدورها وانتشرت سريعًا في مختلف النواحي اللبنانيّة، ولاسيّما في الأقاليم غير المسيحيّة بالكامل، وتعدّدت مراكزها، وكثر عدد رهبانها وراهباتها.
    1.  وغالبًا ما بقيت أديرة الراهبات مجاورة لأديرة الرهبان، كما في السابق، وذلك لتيسير الخدمة الروحيّة لهنّ وسدّ حاجاتهنّ الماديّة، وللإفادة من خدماتهنّ الداخليّة المتنوّعة، والذود عنهنّ ضدّ المعتدين. لكنَّ المجمع اللبنانيّ أيقظ بعض الظنون معتبرًا هذا الوضع وضعًا شاذًّا ومشكّكًا، واتّخذ قرارات حازمة بهذا الشأن[18]. لكن تنفيذ هذه القرارات لم يكن سهلاً، فبدأ العمل على تقليص النشاطات المشتركة إلى حدّها الأدنى، وخصّص تباعًا بعض ما أمكن من الأديار، ولم تفصل جميع الأديار فعليًّا إلاّ مع البطريرك يوسف حبيش الذي وضع حدًّا نهائيًّا للأديار المزدوجة في رسالته المؤرّخة في 26 ايلول 1824. وعلى الرغم من فصل معظم الأديار وتخصيصها، بقيت الراهبات اللبنانيّات والأنطونيّات في كنف الرهبانيّات الرجاليّة، وارتبطن بانطلاقتها وعشن باسمها وبرعاية رؤسائها طوال قرنين ونصف القرن، حافظن خلالها على سيرة نسكيّة وحياة تأمّليّة محصّنة، تملأها الصلاة والزهد والعمل اليدويّ لتأمين الخدمات الفضلى. أمّا قانونهنّ، فكان القانون المثبت للرهبان، وقد خُصّص فيه لهنّ الفصل الرابع عشر، بالإضافة إلى ما خصّصت به سائر الراهبات المارونيّات في أحكام المجمع اللبنانيّ، بما في ذلك القرار الأخير المثير للدهشة عن إمكانيّة قبول رئيساتهنّ بركة الشمّاسات من يد الأسقف، إحياء لتقليد الكنيسة الأنطاكيّة الأوّل والفريد[19].
    2. وفي السنة 1940 رفع الكرسيّ الرسوليّ الحصن عن الراهبات الأنطونيّات لتمكينهن من ممارسة الرسالة الخارجيّة، ثمّ استفتاهنّ سنة 1953حول هذا الأمر، فاخترن انتهاج الرسالة وثبّت الكرسيّ الرسوليّ قوانينهنّ الخاصّة سنة 1958، فيما اختارت الراهبات اللبنانيّات البقاء، بإنعام خاص، في كنف الرهبانيّة الرجاليّة حتى سنة 1984، حين قرّر الكرسيّ الرسوليّ توحيد أديارهنّ ضمن منظّمة رهبانيّة، على أن تبقى مرتبطة بالرهبانيّة اللبنانيّة الرجاليّة من الناحية الروحيّة، فيما تستند حياتهنّ الرهبانيّة على الحياة الديريّة الجماعيّة المشتركة مع مواصلة اعتبار الدير ديرًا مستقلاًّ ذا جمهور ثابت، وتعود السلطة الرهبانيّة العليا فيه إلى المجمع العام الذي له أن ينتخب رئيسة عامّة ومجلس مدبّرات.
    3. وكان البطريرك حبيب العاقوري قد أسّس سنة 1643 دير مار يوحنّا حراش، ولا نعرف عن تاريخ الدير سوى أنّ المجمع المارونيّ قد عُقد فيه، وأنّ أوّل رئيسة عليه توفيت سنة 1659، كما أنّ المطران عبدالله قرألي سكنه مذ أصبح أسقفًا على بيروت وتعذّرت عليه الإقامة الدائمة في كرسيّ أبرشيّته[20]. فساعد الراهبات المحصّنات وسهر على شؤونهنّ، بعد أن كان قد سنّ لهنّ قانونًا طغى عليه الطابع النسكيّ، وشكّل دستورًا لسائر أديار الراهبات المستقلّة، وأرسلت بعض راهبات هذا الدير إلى الأديار الممتثلة لتدرّب جمهورها على هذا القانون. لقد رُحْنَ يوزّعن نشاطهنّ الديريّ بين التأمّل اليوميّ والقراءة الروحيّة والصلوات الفرديّة والأشغال اليدويّة، فيما تهتمّ بعضهنّ اليوم بإدارة مدرسة أسَّسنها في منتصف القرن العشرين، ويخضعن قانونًا لأبرشيّة صربا (حاليًّا الأبرشيّة البطريركيّة).
    4.  سنة 1744، أسّس دير راهبات الزيارة في عينطورة وانطلقت منه راهبتان إلى ذوق مكايل سنة 1836 لإنشاء دير آخر تخضع فيه الراهبات للبطريرك المارونيّ، بموجب شرط وضعه البطريرك يوسف حبيش، على قبول وقفيّة بيت وأملاك السيّد بشاره جفّال الخازن وشقيقته بادوانيّة وزوجته زياره، على أن تتّخذ الراهبات الطقس المارونيّ[21]. إنّهنّ يتبعن القانون الذي يجسّد روحانيّة المؤسّسين: القدّيس فرنسوا دي سال والقدّيسة جان دي شانتال، والذي وضع لراهبات الزيارة المحصّنات، اللواتي برزن سنة 1610 في فرنسا (انسي)، ويعشن في أديار مستقلّة ويتقيّدن بسلطة الأسقف المحلّي، ما عدا في لبنان حيث يخضعن للبطريرك المارونيّ ويتبعن الطقس المارونيّ. وقد أوقف قبول المبتدئات في دير عينطورة منذ أكثر من 40 سنة، ولا تزال فيه حاليًّا ستّ راهبات مارونيّات مسنّات، يأملن اتّخاذ القرار بقبول المبتدئات مجدَّدًا، ليعود هذا الدير إلى سابق عهده من النموّ الروحيّ والشهادة الصادقة لحضور الإيمان والصلاة في عيش النسك، و”لتستعيد الحياة التوحّديّة المكان الذي يعود اليها”، كما شدّد على ذلك الإرشاد الرسوليّ “رجاء جديد للبنان”[22].
    5. أمّا دير سيّدة الحقّلة فبقي ديرًا مزدوجًا حتى سنة 1818، تستظلّ تحت سقفه جماعتان رهبانيّتان، رجاليّة ونسائيّة، تعيشان بحسب نمط حياة الرهبان العبّاد والراهبات العابدات. ولمّا التأم مجمع اللويزة سنة 1818، حتّم انفصال أديرة الرهبان عن أديرة الراهبات وخصّص دير سيّدة الحقّلة بالراهبات[23]، ولمّا يزل حتى اليوم ديرًا مستقلاًّ، تطبّق فيه الراهبات القانون الرهبانيّ الذي سنّه المطران عبدالله قرألي سنة 1725.
    6.  في عهد البطريرك يوسف حبيش وعهدته، برزت سنة 1839 “جماعة المرسلين الإنجيليّين” وكان من روادها بعض كهنة الطائفة. إلاّ أنّها تعثّرت في بداياتها، فعمد إلى تجديدها سنة 1865 الخوري يوحنّا حبيب من بتدّين المير (المطران في ما بعد) في دير الكريم-غوسطا، بمعاونة الخوري اسطفان قزاح من بكفيّا، وأصبح اسمها “جمعيّة المرسلين اللبنانيّين”، وأثبت قانونها التأسيسيّ البطريرك بولس مسعد سنة 1873. ودأب الخوريّان معًا على إيقاظ الدعوات وتنشئتها وبعث الخدمة الرسوليّة في أرجاء الطائفة. وقد اعتنقت الجمعيّة  مهمّات التبشير بالكلمة عن طريق الوعظ والإرشاد والإعلام والكتابة والتعليم، وامتدّت باكرًا نحو بلدان الانتشار بدءًا بالأرجنتين (منذ السنة 1901)، بحيث ينشط اليوم خارج لبنان والشرق، قرابة النصف من أعضائها.
    7. بتاريخ 15 آب 1895، أسّس البطريرك الياس الحويكّ، وهو لا يزال أسقفًا، جمعيّة راهبات العائلة المقدّسة، وهي جمعيّة رهبانيّة رسوليّة، تهدف إلى حياة الاتحاد بالله في خدمة الكنيسة والعائلة. وقد تجلّى هذا الهدف في الخدمة التربويّة والتعليميّة، والإنسانيّة والاجتماعيّة وفي خدمة راعويّة العائلة والتنشئة على الحياة المسيحيّة.
    8. في 17 ايار سنة 1935، الموافق عيد تثبيت القدّيسة تيريزيا الطفل يسوع، أسّس الخوراسقف أنطوان سعد حبيب عقل جمعيّة راهبات القدّيسة تريزيا الطفل يسوع المارونيّات، وغاياتها تقديس نفوس المشتركات وخدمة الإنسانيّة المتألّمة عبر إنشاء المياتم والمستشفيات والمآوي بصورة رئيسيّة، ومساعدة كهنة الرعايا في خدمتهم، بروحانيّة القدّيسة تيريز الصغيرة، أي عيش البساطة والطفولة الروحيّة والفرح في الخدمة والرسالة. فاشتهرت مستشفياتها ومدارسها وخدمتها الرعويّة في المناطق اللبنانيّة وفي الأراضي المقدّسة.
    9. وأسّس الأب إميل جعاره سنة 1966، في دير مار أنطونيوس-عين ورقة، جمعيّة راهبات القربان الأقدس المرسلات، وغاياتها: تأمين العبادة لسرّ القربان الأقدس ونشرها وتنشئة فتيات القرى ومعاونة كهنة الرعايا في مختلف نشاطاتهم الرسوليّة تحت شعار: “وأرسلني لأبشّر المساكين وأشفي منكسري القلوب” (لو 4/18)، وشفيعتها العذراء مريم سلطانة الرسل، وحقل رسالتها هو القرية باعتبارها الأكثر احتياجًا.  وفي العام 1969، أصبح لهنّ مركز جديد للرسالة في بيت حبّاق (جبيل) وحاليًا ثمانية مراكز موزّعة على مختلف المناطق اللبنانيّة.
    10. بعد مرور سنة على إعلان قداسة مار شربل (1977)، اتّفق الأب البنديكتانيّ ويليام دريسكول وبعض رفاقه على تبنّي روحانيّة القدّيس الجديد، وبنوا سنة 1981، بموافقة راعي أبرشيّة الموارنة في الولايات المتّحدة الأميركيّة المطران فرنسيس الزايك، ديرًا وكنيسة في مدينة بيترشام في ولاية ماساشوسيتس الأميركيّة. هناك أعدّوا قوانينهم بإشراف الراهب اللبنانيّ الأب يوسف محفوظ (المطران الحاليّ للموارنة في البرازيل)[24]، وبتاريخ 8 أيلول 1989 وقّع سيادة مطران الأبرشيّة القوانين الجديدة وأعلن الدير ديرًا مارونيًّا قائمًا بذاته، باسم دير الثالوث الأقدس ذي الحقّ الأبرشيّ، يعيش فيه حاليًّا 17 راهبًا، بينهم 9 كهنة، حياة تأمّلية محصّنة، وقد أعطى رئيسه الأب ويليام لقب أباتي منذ عيد مار أنطونيوس الكبير سنة 1996. وأنشأت هذه الرهبانيّة سنة 2000 ديرًا تابعًا في بلدة “موناستيري” في ولاية “نوفا سكوتيا” في شرقي كندا، يخضع لمطران أبرشيّة كندا للموارنة.  ونرجو ان تندفع هذه المسيرة الرهبانيّة المارونيّة وتلتقي بجذورها العباديّة المحصّنة-الرسوليّة فتنمو من خلال إشعاع الدير وشهادة العائشين فيه.
    11. بتاريخ 12 تمّوز 1959 أجاز المطران اغناطيوس زياده رئيس أساقفة بيروت تأسيس دير لراهبات الوحدة في اليرزة، على الطقس المارونيّ. وفي لبنان وسائر بلدان الشرق العربيّ توجد رهبنة أخوات يسوع الصغيرات وهي تنتمي في هذه البلدان إلى الكنائس الشرقيّة وتختار في كلّ منها الطقس الملائم، وفقًا لقوانين الرهبنة ذات الحقّ الحبريّ. بناء على ذلك، ينتمي إقليم لبنان إلى الكنيسة المارونيّة، وترتبط راهباته برعاة هذه الكنيسة، وتتبعن ليتورجيّة الكنيسة المارونيّة وأنظمتها وروحانيتها.
      1. هكذا ينشط في كنيستنا المارونيّة اليوم خمس مؤسّسات رهبانيّة رجاليّة تضمّ 723 راهبًا، بينهم 565 كاهنًا، وستّ مؤسّسات رهبانيّة نسائيّة تجمع 820 راهبة[25]، وكلّها تحافظ على تراث أصيل من الروحانيّة العميقة وتكيّفه بأنظمة رهبانيّة مواكبة لزمن الكنيسة المعاصر.

والمؤسّسات الرهبانيّة الرجاليّة هي: الرهبانيّة اللبنانيّة المارونيّة، الرهبانيّة المريميّة المارونيّة، والرهبانيّة الأنطونيّة المارونيّة؛ وهذه الرهبانيّات الثلاث ذات حقّ حبريّ؛ وجمعيّة المرسلين اللبنانيّين، ذات الحقّ البطريركيّ، ورهبانيّة دير الثالوث الأقدس، ذات الحقّ الأبرشيّ.

أمّا المؤسّسات الرهبانيّة النسائيّة فهي: الراهبات اللبنانيّات المارونيّات(حقّ حبريّ)، الراهبات الأنطونيّات المارونيّات(حقّ حبريّ)، جمعيّة راهبات العائلة المقدّسة المارونيّات (حقّ بطريركيّ)، وجمعيّة راهبات القدّيسة تريزيا الطفل يسوع المارونيّات(حقّ بطريركيّ)، وجمعيّة راهبات القربان الأقدس المرسلات (حقّ بطريركيّ).

وتحافظ راهبات أخريات على انتمائهنّ إلى أديار قديمة مستقلّة، وهنّ: راهبات دير سيّدة الحقّلة، راهبات دير مار يوحنّا حراش، راهبات الزيارة في دير عينطورة وراهبات الزيارة في دير سيّدة البشارة-الذوق.

بالإضافة إلى هذه المؤسّسات الرهبانيّة المارونيّة، تغذّي كنيستنا المارونيّة بالدعوات مؤسّسات رهبانيّة كاثوليكيّة من كنائس أخرى، بحيث يشكّل الموارنة في بعضها غالبيّة الأعضاء، كما تتبع رهبانيّات وجمعيّات عديدة في لبنان الطقس المارونيّ.

الفصل الثاني: روحانيّة الحياة الرهبانيّة المارونيّة السريانيّة الأنطاكيّة

  1.  بعد هذه المحطّات التاريخيّة، يمكننا أن نرسم لوحة روحانيّة رافقت الحياة الرهبانيّة المارونيّة عبر حقباتها، ونتوسّع قليلاً في تبيان ملامحها، كونها تطال في جوهرها كلّ أنماط هذه الحياة. ترتبط هذه الروحانيّة بموهبة الرهبان والراهبات الخاصّة، وتعكس ملمحًا من ملامح السيّد المسيح، مرتكزة على نواة صلبة من التراث السريانيّ الأنطاكيّ، اتّصفت بالجذريّة الإنجيليّة وروح الصلاة والتعبّد والتشفّع، وغذّت الكلمة المصلاّة جهاد الرهبان والراهبات وزهدهم وهمّهم الرسوليّ الدائم بالتعليم والكرازة وشهادة الحياة. وإلى نواة التراث السريانيّ، أغنت الحياة الرهبانيّة المارونيّة مخزونها بمزيج من روحانيّة آباء الصحراء، واختمرت لاحقًا بتراث متنوّع، متوالد، أبرز ظاهرة علميّة وأخرى نسكيّة، والكلّ في مسيرة إعادة تأسيس وتقويم الواقع دون هوادة، بروحانيّة متوثّبة، هي في العمق روحانيّة قيامة وصبر على الرجاء، وروحانيّة تجسّد في الكنيسة وفي الأرض، وشهادة واستشهاد بالنسك والخدمة وبذل الذات. أمّا أهمّ صفات هذه اللوحة فهي:

1. تجذّر إنجيليّ

  1. وجد الرهبان والراهبات في قراءة لاهوتيّة للكتاب المقدّس،  منبع حياتهم الروحيّة ومصدرها، فاستندوا إليها ولبّوا الدعوة الشخصيّة إلى اتّباع المسيح المطيع والبتول والفقير، والتتلمذ له والسعي إلى الاقتداء به، مشتركين في مصيره. لقد انتهجوا نهجه في الخلوة والصلاة على الجبل أوّلاً، ثمّ في إحياء روابط الأخوّة لحمل رسالة تفرضها ديناميّة العلاقة به وثمرتها والشعور بضرورة إيصالها إلى الآخرين وتجسيدها معهم وبينهم، سواء عبر الصلاة، التي كانت دائمًا كما اعتبرها المجمع الفاتيكانيّ الثاني، “زينة الكنيسة ومجدها وفيضًا للنعم السماويّة”[26]، أم بفعل الخدمة، كلّ بحسب موهبته الخاصّة. ولقد أكّد البابا يوحنّا بولس الثاني أنّ الحياة الرهبانيّة “منغرسة عميقًا في مثل السيّد المسيح وتعليمه”[27].

بذلك، تتمثّل الحياة الرهبانيّة في المدى السريانيّ-الأنطاكيّ، على شكل دعوة خاصّة إلى الاقتداء بيسوع المسيح الذي عاش ومات وقام من أجل خلاص الجنس البشريّ. فكما سلّم المسيح ذاته بكليّتها لعمل الخلاص مطيعًا حتى الموت على الصليب حبًّا بأبيه السماويّ، هكذا يسلّم الراهب ذاته حتى الموت مقتديًا بالمسيح، توّاقًا إلى تحقّيق خلاصه الذاتيّ وخلاص القريب.

2. حبّ لـ “وحيد الآب”

  1. لقد شدّدت روحانيّتنا السريانيّة على صفاء القلب لمعاينة الله. ولذا فإنّها ركّزت على شخص يسوع المسيح بلقبه المفضّل عند السريان “الوحيد” كنهج حياة. فالمسيح هو المتوحّد بامتياز. إنّه “وحيد الآب” (يو 1/18) و”شعاع مجده وصورة جوهره” (عب 1/3). فلئن اعتبر افرام وسائر الكتّاب السريان أنّ التعلّق بالمسيح والتشبّه به هو غاية المعمّدين قاطبة، فإنّ المسيح يشكّل للمتوحّدين “الوحيد” بلا منازع، فهم يلبسونه “وحيدًا” بنوع خاصّ ومميّزًا، ويتّحدون به، ليصبحوا بدورهم متوحّدين، قادرين، بعين الإيمان والصفاء، على إدراك سرّ الله الخفيّ، المتجلّي من خلال الطبيعة والكتاب المقدّس، والمعلن في ابن الله الوحيد المتجسّد من العذراء مريم بفعل الروح القدس، وفي قلب الكنيسة حاملة أسرار الابن.

إنّ الروحانيّة التي يعيشها المكرّسون هي روحانيّة كنيستهم العرسيّة، التي تدخلهم في العشق الإلهيّ ببعده الكنسيّ. هذه الصورة العُرسيّة التي يعشقها مار افرام تجعل من الجميع أبناء العليّ. فكلّ المعمَّدين أطهار  مخطوبون للمسيح، ومصابيحهم تضيء، وهم يدخلون الخدر برفقة العريس. والمتوحّدون هم أشخاص معمّدون تابعون للمسيح بلا منازع، متوحّدو الذهن، وقلبهم متوحّد غير منقسم، جاهز للعريس الأوحد. ولذا يصفهم تيودوريتس في مقدّمة كتابه قائلاً: “ليست طبيعتهم المائتة والمليئة بوفرة الآلام هي التي تمنحهم هذا الانتصار، بل عزمهم المنوط بالنعمة الإلهيّة. ولمّا كانوا عاشقين عشقًا حارًّا الجمال الإلهيّ ومصمّمين على أن يعملوا ويحتملوا كلّ شيء بطيبة خاطر في سبيل حبيبهم، كانوا يصمدون صمودًا رائعًا تجاه نزوات الشهوات”[28].  تلك هي حكمة الشهادة والاستشهاد. إنّها حكمة الصليب التي طبعت الحياة الرهبانيّة بالصبر على الرجاء، وأصبحت بديلاً عن الاستشهاد بالدمّ أو مرافقة له، استشهادًا يوميًّا أبيض، حبًّا للحمل الذبيح القائم.

3. نسك وحياة جماعيّة

  1. كثيرًا ما يدهشنا الرهبان السريان في تنوّع ممارساتهم التزهّديّة وتصلّب تقشّفهم. لا يمكن التنكّر للتأثير الرسوليّ على هذه المآثر الزهديّة التي أسهمت في نشر الإنجيل في المنطقة. وإنّنا، عبر تاريخ الحياة الرهبانيّة السريانيّة الأنطاكيّة كلّه، نجد أنّ التنسّك، أو حياة الوحدة، والاستحباس بقي دائمًا للراهب مثالاً يصبو إليه. فالحياة الجماعيّة التي تأصّلت في الإفخارستيّا والصلوات المشتركة وتقاسم الخبز والخبرات الروحيّة، وحافظت على بعض الممارسات النسكيّة، اعتُبرت مرحلة لتوجّه القادرين نحو الحياة التوحّديّة. لا تتوافر لنا سوى القليل من الوثائق بشأن المقارنة العدديّة بين المتوحّدين في جماعة والحبساء، عبر مختلف حقبات التاريخ الرهبانيّ السريانيّ. ولكن، يقدّر أنّ الحياة ضمن جماعة كانت غالبة دومًا. فبالنسبة إلى النسّاك، دوّن البطريرك اسطفانوس الدويهيّ في مؤلّفه “تاريخ الأزمنة”[29] نبذات مختصرة عن سيرة النسّاك الموارنة، فذكر أسماءهم وأشار إلى ترقية الكثيرين منهم إلى الدرجة الأسقفيّة وتبوُّؤ ثلاثة منهم الكرسيّ البطريركيّ[30].

ولقد أُنشئت المحابس حول معظم الأديار الكبيرة، فاستمطر العديد من نسّاك الرهبانيّات النعم الغزيرة، ولم ينقطع هذا النهج، لأنّ السنوات الأخيرة عادت لتشهد نهضة لافتة بوجود ثلاثة حبساء في محابس أديرة الرهبانيّة اللبنانيّة[31]، يلتزمون نظام المحبسة القائم أساسًا على الانصراف إلى الصلوات الطويلة والتأمّل بصمتٍ في سرّ الدهر الآتي، مع العمل والتقشّف والصيام، فلا يأكلون إلاّ مرّة واحدة كلّ يوم، ممتنعين عن أنواع مأكولات حتى في مرضهم، إلاّ بإذن مباشر وصريح من الرئيس الرهبانيّ العام.

ولئن تطلّب الاستحباس نعمة خاصّة لا تعطى لكثيرين، فإنّه لا يعفي سائر الرهبان من العمل على خلق محبسة في أعماق نفوسهم، وفي صميم الحياة المشتركة. إنّ النجاح في تنشيط الحياة المشتركة بما تستدعيه من خروج من الذات لملاقاة الآخر،  لا في تقلّباته البشريّة، بل في عمق سرّ وجوده الفصحيّ، وباستمداد الجذوة من وهج حياة الثالوث الأقدس، لهو دليل ساطع على تقيّد الجميع برباط المحبّة، وهو شرط لإطلاق الراهب نحو حياة اتّحاد أوثق بالله في المحبسة.

4. صراع داخليّ ونموّ روحيّ 

  1. الحياة الرهبانيّة هي، قبل كلّ شيء، بحث متّقد عن الله، في رهبة وحبّ. فمنذ يوحنّا الأفاميّ (يوحنّا المتوحّد، النصف الأوّل من القرن الخامس)، شدّد على هذا السعي إلى الاتحاد بالله من خلال صورة المراحل الثلاث على الدرب الصوفيّة، والتي تتمثّل بالجسد، والنفس، والروح بحسب تعبير القديّس بولس (1 تس 5/23).

يتحقّق هذا الارتقاء الروحيّ في الانتقال من حياة الجماعة إلى حياة توحّديّة في جوار الدير، وأخيرًا إلى وحدة أكثر قسوة. ولا يتعلّق الأمر هنا إلاّ بنمط الحياة المثاليّ هذا، الذي بموجبه ينفخ الروح القدس حينما وأينما شاء.

أثناء حياة الراهب في الدير، ضمن الجماعة،  خصوصًا في مرحلة الإبتداء والنذور الموقَّتة يطبّق الأعمال التقشّفيّة الجسديّة تحت إشراف أبيه الروحيّ وتبعًا لتمييزه. وهذه الأعمال هي بخاصّة الصيام، والسهر، وصلاة الخورس، والقراءة الروحيّة، والسجود، وخدمة الأخوة…؛ تهدف ممارسات الراهب الجسديّة هذه إلى محاربة شهوات الجسد كالشراهة، وحبّ المال، والإرادة الذاتيّة. هذه هي مرحلة التطهير.

عندما تصل هذه المرحلة الزهديّة إلى شيء من الكمال، وتبعًا لرأي المعلّم الروحيّ، ينصرف الراهب إلى الأعمال الخاصّة بمرحلة النفس. فبالإضافة إلى الصيام والسهر لمدّة أطول من تلك المتّبعة في المرحلة السابقة، وإلى صلاة الخورس والسجود، ينقطع الراهب إلى الصلاة ساعات طويلة متأمّلاً في كلمة الله ومشروعه الخلاصيّ للبشر. وأثناء هذه المرحلة الثانية، يتطهّر الراهب من أهواء النفس، كالكسل، والوهن، والملل، والغضب، والتكبّر…، متّبعًا في كلّ ذلك، إرشادات المعلّم الروحيّ. وهذه هي مرحلة التنوير.

في نهاية هذا الإرتقاء، يدرك الراهب “الروحانيّة”، أي الحريّة الروحيّة لحامل الروح. من هنا يصبح الروح القدس قادرًا  على الانبعاث فيه وتوجيهه إلى ذروة الروحانيّة، ألا وهي التأمّل في الثالوث الأقدس. هكذا، وانطلاقًا من هذه الحياة، يدخل الراهب بوعي وبطريقة أسراريّة في حياة الحبّ غير الموصوف للربّ الواحد والثالوث: الآب، والأبن والروح. غير أنّ هذه الدرجة لا يبلغها الجميع مع أنّهم يتوخونها غاية لهم ودعوة. وهذه هي مرحلة التقديس.

5. صلاة وعمل

  1. “صلّ واعمل”، قول مأثور يصلح بملئه لوصف الحياة الرهبانيّة المارونيّة. فالصلاة الخورسيّة، ولاسيّما الاحتفال بالليتورجيا الإلهيّة صباح ومساء كلّ يوم، وتلاوة صلاة الفروض العموميّة المشبعة بتعاليم المجامع المقدّسة وبالتوجهات الثالوثيّة والذكر المريميّ الخاصّ والدائم، بمحافظة شديدة على الطقوس المارونيّة وألحانها، شكّلت جوهر القوانين والفرائض الرئيسيّة في حياة الرهبان والراهبات، فعُرفوا بالساهرين اليقظين، وعبقت أديرتهم برائحة البخور المتواصلة وبالصلاة الشخصيّة والتنافس في الممارسات التقشفيّة الحرّة والتأمّل في الكتاب المقدّس وفي كتابات الآباء والليتورجيا، وكلاهما نسيج من كلام الله المغتني بالخبرة النسكيّة، والمتجسّد في الحياة.

لم يكن يقطع هذه الصلوات والممارسات الروحيّة إلاّ الانكباب على العمل. فلطالما اتُّخذ العمل هدفًا مزدوجًا بالنسبة إلى الرهبان إن لجهة الالتزام بالوضع البشريّ العامّ، أيّ كسب الخبز اليوميّ بعرق الجبين، والابتعاد عن البطالة؛ وإن لجهة خدمة القريب عبر مشاركته في ما ينتج، ثمّ عبر تعزيز كرامة الإنسان، ومن ثمّ عبر تقديم خبز الكلمة له، إضافة إلى الأسرار المقدّسة، والتربية والعناية الصحيّة والثقافة…. ناهيك عن اعتبار العمل اليدويّ المضني أحد عناصر برنامج توبة الرهبان وطريقتهم الخاصّة لعيش الفقر. لهذا كانوا يعملون في الوديان والجبال، يستصلحون المنحدرات ويجعلون منها مدرجات صالحة لزراعة الكرمة والتوت والزيتون؛ وينسجون الأقمشة لتلبية حاجات الجماعة الجسديّة، ويبنون الكنائس والأديار لتلبية حاجاتها الروحيّة، مؤكّدين ارتباط الحياة الرهبانيّة المارونيّة الشديد بشعب الله.

لقد تميّز التنظيم الرهبانيّ السريانيّ-الأنطاكيّ، والمارونيّ تحديدًا، بسعيه الحثيث إلى استصلاح الأراضي، وبحبّه الآداب. فقد ساعد العمل الزراعيّ الشعب على الاعتماد على مهارة الرهبان وحذاقتهم لتأمين قوتهم ومؤونتهم في ظروف غالبًا ما كانت قاسية. ومن حبّ الأرض وإخصابها استمدّ إيمانهم ميزات الصلابة والعفويّة والصمود والصبر والقناعة. أمّا العمل الثقافيّ، وفيه أيضًا قول سريانيّ مأثور “كتوبوخ ونفشوخ” (كتابك ونفسك)،  فقد اكتسب أشكالاً مختلفة منها المحافظة على الإرث السريانيّ وتطويره، وإطلاق ثقافة عربيّة وسريانيّة مزدوجة ونسخ المخطوطات، وتأمين التعليم للأولاد، وممارسة المهن وغيره…. لقد اعتُبر الكتاب رفيقًا للراهب السريانيّ، وسمةً ميّزته عن الراهب الصعيديّ. نتيجة لهذا التراث، كانت أوّل مطبعة في بلاد الشرق تلك التابعة لدير مار أنطونيوس قزحيا، التي أحضرها الرهبان القدماء من الغرب في سنة 1585. وبقي هذا النشاط بارزًا ومتواصلاً من خلال مطبعة طاميش في أواسط القرن التاسع عشر، والمطبعة الأنطونيّة في مطلع القرن العشرين، وحاليًّا من خلال مطبعة الكريم التي تقدّم الخدمات الجلّى للكنيسة.

6. حياة رهبانيّة رسوليّة

  1. تميّزت الحياة الرهبانيّة المارونيّة بانخراطها الشديد في رسالة الكنيسة. وقد تضمّن الاندفاع الرسوليّ للحياة الرهبانيّة جوانب عدّة: مثاليّة حياة الجماعات الأسراريّة المشعّة التي تشمل الاحتفال بالقدّاس الإلهيّ، وحسن الضيافة، والنشاطات الاجتماعيّة التي تتجسّد بالحنوّ على المرضى والمعوزين[32]، والكرازة لغير المسيحيّين، والتعليم الدينيّ للمسيحيّين، الخ.

وعليه، فإنّ تزهّد الرهبان السريان القاسي لم يمنعهم من الانخراط في العالم بغية حمله إلى المسيح. لقد كان نضالهم الروحيّ الشخصيّ تحضيرًا ضروريًّا من أجل الصراع الأكثر صعوبة ضدّ الشرّ في العالم. ففي كلّ مرّة يخرجون من كهوفهم وأديرتهم، يجوبون الطرقات ويدخلون المدن والقرى ليبشّروا الناس ويربحوهم للإنجيل. دام هذا الاندفاع الإرساليّ للتنظيم الرهبانيّ السريانيّ زهاء ألف عام (400-1400). لكنّ مآسي الزمن عملت على أفوله منذ القرن الخامس عشر وانحصاره، في أبناء الجوار، ليستعيدوه بعد تنظيمهم الجديد في أواخر القرن السابع عشر، فيعمّموه في كلّ مناطق لبنان وخارجه، بالتزام مباشر وحثيث.

7. حياة رهبانيّة منفتحة

  1. ثمّة سمة أخرى تميّز الروحانيّة الرهبانيّة السريانيّة-الأنطاكيّة، ألا وهي قدرتها الفريدة على الانفتاح على التيّارات الروحيّة وعلى اقتباس بعض من الصور التنظيميّة الرهبانيّة المستوحاة من آفاق كنسيّة أخرى، وتاريخ هذا التنظيم أصدق شاهد على ذلك. فعلى مرّ العصور، اتّصف تقليدنا، مع المحافظة على هويّته الخاصّة، بالانفتاح على تأثيرات الحياة الرهبانيّة المصريّة (برعاية القدّيس أنطونيوس الكبير)، والنَّهل، من خلال تطويع الترجمات السريانيّة والعربيّة، من مساهمات كبار معلّمي الروحانيّة البيزنطيّة (القدّيسين باسيليوس الكبير ويوحنّا السلّمي) والسريانيّة-الشرقيّة (القدّيس اسحق النينوي)؛ وبعد انغلاق مرجّح في القرون الوسطى، عاد واعتنق تيّارات روحيّة وأشكالاً مؤسّساتيّة من الغرب المسيحيّ. وها هي الحياة الرهبانيّة اليوم تطلّ على مختلف الحضارات وتنوّع اختصاصات أبنائها وبناتها في كلّ ما يتّصل بخير الإنسان وخدمته، وتنشط في تقدّم الحركة المسكونيّة كما تسهم في تشكيل الموادّ وإعداد الدراسات لحوار الأديان.

هذا التأقلم الروحيّ قاد الحياة الرهبانيّة إلى عملية إصلاح وتجديد للأطر على المثال الغربيّ من حيث التنظيم، وهو ما يجب أن يقودها دومًا إلى إطلاق مسيرة تجدّديّة، مع الحفاظ، من حيث المبدأ، على الأساس التوحّديّ، النسكيّ – الرسوليّ لكلّ دير ومركز، ومع الحرص على مواصلة خبرة الأقدمين الوجوديّة المتمثّلة بعناصر هذه الروحانيّة المختمرة عينها، وان غلب أحيانًا عنصر على آخر.

الفصل الثالث : قوانين الحياة الرهبانيّة

  1. يبدو أنّ الحياة الرهبانيّة في لبنان والمنطقة، منذ بدايتها حتى أواخر القرن السابع عشر، لم تكن حياة منظّمة في تفاصيلها بدقّة، فلم تسر بموجب قوانين ورسوم مفصّلة ومحدّدة ومخصّصة لها، ولم تحتفل بنذور علنيّة على النحو الذي عُرف في القرون الثلاثة الاخيرة. لقد كان الإنجيل دستور الرهبان والراهبات الأعلى وقاعدتهم الحياتيّة. وبالإضافة إلى قدوة حياة النسّاك، وبخاصّة سيرة حياة مار أنطونيوس، وتعليم المجامع الكنسيّة، وما أخذ من قوانين القدّيس باخوميوس ومن قواعد القدّيس باسيليوس الكبير، وقوانين رابولا، وما جاء في كتاب “الهدى” حول نظام الصلوات ومرجعيّة البطريرك في تثبيت الرؤساء، كانت كل جماعة تخضع مباشرةً لسلطة الرئيس، الذي كان يتبع قوانين نسكيّة غير مكتوبة، وهي في جوهرها عادات وتقاليد توارثها النسّاك عن معلّميهم، فكانت سلطة الرئيس هي القانون الرسميّ لكل جماعة رهبانيّة. هذا ما يبدو من تاريخ البطريرك الدويهيّ وكتابات دنديني وجان دي لاروك، ومن خلال كتابات قرألي. يقول الأب دنديني الذي جاء قاصدًا رسوليًّا لدى الموارنة سنة 1596: “ليس لهؤلاء الرهبان طرائق او قوانين خاصّة تميّزهم عن غيرهم كباقي الجمعيّات الرهبانيّة، بل يسيرون كلّهم على خطّة واحدة”[33]. ويقول عبدالله قرألي: “لم يكن للرهبان الموارنة قوانين ورسوم قبل سنة 1695، ولكنهم كانوا سائرين بسذاجة صالحة للصالحين وخطرة لغير الصالحين”[34].
  2. لذلك، وضع قرألي القانون الأوّل مؤلّفًا من 22 بابا، ثمّ اختصره بـ 15 بابًا، أضيفت إليها لاحقًا أبواب ثلاثة[35] في التواضع والصبر والمحبّة الأخويّة، فكان أن ثبّت هذا القانون البطريرك اسطفانوس الدويهيّ للرهبانيّة اللبنانيّة في 18/6/1700، وبعده البطريرك يعقوب عواد سنة 1725، وأمر البطريرك البلوزاني أبناء الرهبانيّة الأنطونيّة باعتماده إعتبارًا من سنة 1705، بعد أن فكّروا أوّلاً باعتماد قانون القدّيس اغوسطينوس ونقلوه إلى اللغة العربيّة. سمّيت هذه القوانين قوانين القدّيس انطونيوس، فعرفت الرهبانيّات الثلاث الناشئة برهبانيّات القدّيس انطونيوس، علمًا بأنّ الكثير من قواعد الأبواب المضافة وأحكامها أخذت من أحكام التنظيم اليسوعيّ كما من التنظيم الكرمليّ أيضًا[36]. بعد أن نقّحه المطران يوسف السمعاني، تمّ تثبيت هذا القانون عينه لاحقًّا، بأبوابه الثمانية عشرة، من قبل الكرسيّ الرسوليّ الرومانيّ وبقي ساري المفعول للرهبانيّات الثلاث الرجاليّة وللراهبات اللبنانيّات والأنطونيّات إلى أن وضع الكرسيّ الرسوليّ لهم رسومًا جديدة سنة 1938[37] شكّلت تعديلاً شاملاً للقوانين الأولى. تجدر الإشارة هنا إلى أنّ كنائس شرقيّة عديدة تبنّت هذا التنظيم الجديد[38].
  3. وإلى القواعد المأخوذة عن أنظمة الإرساليّات، استوحيَ القانون الأوّل من روحانيّة الرهبان السريان وتراثهم، فنرى فيه، إلى جانب الإقرار بالنذور الثلاثة، تشديدًا خاصًا على روحانيّة التزام الطاعة: “يجب على الراهب أن يتّخذ رئيسه بمنـزلة المسيح مع قطع النظر. ويقدّم له الطاعة في كلّ شيء دون الخطيئة، ويبالغ في كرامته ومحبته باطـنًا وظاهرًا. لا يبحث مدقّقًا في تدبيره في أمر الإخوة. ويطلعه على جميع تصرّفاته”. لقد حرص القانون القديم على اعتماد الإنضباط المسلكيّ خير وسيلة لاستمرار تغذية النفس وتنشيطها، وأناط الصمت حيّزًا هامًا، لاعتبار أنّ الفائدة الناشئة عن السكوت، خصوصًا بحضرة الرئيس والمعلّم، من شأنها ان تطبع الراهب على الإصغاء، وهو باب الحوار، وأيضًا على احترام الغير الذي يربّي في النفوس روح التواضع. من جهة أخرى، ومع حفاظ الرهبانيّات دومًا على عدد وافر من الرهبان غير الكهنة، تمتّعت الرهبانيّات الرجاليّة بقوّة الحقّ والواقع، بميزة رهبانيّة إكليريكيّة، بمعنى أنّ غالبيّة أعضائها يعدّون بطريقة مألوفة لقبول الدرجات المقدّسة، باعتبار أنّ رسالتهم الرهبانيّة تتضمّن غالبًا خدمة كهنوتيّة.
  4. ومن جملة متغيّرات الهيكليّات ما تمثّل في المرجعيّة التسلسليّة العليا في الكنيسة، إذ تحوّلت الرهبانيّة اللبنانيّة أوّلاً، من حقّ بطريركيّ إلى حقّ بابويّ، تمثّل في تثبيت البابا اكليمنضوس الثاني عشر قوانين الرهبانيّة اللبنانيّة سنة 1732 ببراءة “انّ الوظيفة الرسوليّة”، ثمّ حذا حذوهم الرهبان الانطونيّون، فسعوا في طلب تثبيت قوانينهم، إنسجامًا مع توجّهات المجمع اللبنانيّ وفرائضه[39]، مزوّدين برسائل توصية من البطريرك يوسف الخازن والأساقفة، فتثبّتت قوانينهم سنة 1740 ببراءة “إنّ أبا المراحم”. رافق هذا التثبيت تأكيد كامل الإنعامات التي تعود للمؤسّسات التوحّديّة، وأبرزها إنعامات خاصّة لرؤساء المنظمات الرهبانيّة الرجاليّة، ومنها تقلّد الشارات الحبريّة حتى بحضور البطريرك والأساقفة. وقد نصّ المجمع اللبنانيّ على ذلك بقوله: “لقد غلبت العادة القديمة في بيعة الله المقدسة أن يمتاز الرؤساء العامّون المترئّسون على عدّة أديار بتقلّد الشارات الحبريّة في الاحتفالات المقدّسة، أيّ التاج والعصا وصليب الصدر والخاتم، وذلك في أديارهم وفي الكنائس الخاضعة لهم، وفي كلّ مرّة اتّفق أن يؤازروا الأساقفة أو السيّد البطريرك السامي الاحترام آونة الاحتفالات”[40]. إلى ذلك، شدّد المجمع اللبنانيّ على إعطاء الرهبان الذين أتمّوا دروسهم في روما، ملء السلطان لمباشرة الوعظ والحلّ والتفسيح في منبر التوبة ولمزاولة وظيفة الرسالة في جميع أنحاء البطريركيّة[41]، كما ألزمهم بالتعليم في أديرتهم[42].
  5. بعد صدور الإرادة الرسوليّة “في الرهبان وأموال الكنيسة ومعنى الكلمات” سنة 1952، عكف الرهبان على إعادة درس قوانينهم ومطابقتها على الأحكام الجديدة، وفي هذه الأثناء، جاء المجمع الفاتيكانيّ الثاني ليجدّد حياة الكنيسة كلّها فشكّل تحوّلاً كبيرًا في شتّى الميادين، كما وضع مبادئ عامّة لتجديد الحياة المكرّسة، تؤكّد أنّ اتّباع المسيح هو القاعدة الأسمى لكل حياة مكرّسة، وأنّ التجديد الباطنيّ أساس لكلّ تجديد خارجيّ وضمانة لنجاحه، ودعا إلى التعرّف إلى روح المؤسِّسين والمحافظة عليها وعلى تراث المؤسّسة، مع العمل على اشتراكها في حياة الكنيسة بحسب موهبتها وطابعها المميَّزين، بعد الوقوف على أوضاع الإنسان وحاجات الكنيسة في عالم اليوم، والعمل بغيرة على المساعدة الفعّالة. فأكبّ الرهبان والراهبات، المتجدّدون والمؤسّسون، على مواصلة الإعداد لتكييف قوانينهم الجديدة، وتعمّدوا التمعّن والإبطاء، بانتظار صدور مجموعة قوانين الكنائس الشرقيّة الجديدة، فختمت كلّ مؤسّسة أعمالها في إطار أحكام المجموعة الجديدة وقدّمتها إلى المراجع المختصّة التي ثبّتتها مؤخّرًا لفترة تجريبيّة تراوحت بين أربع وستّ سنوات للبعض وثماني وعشر سنوات للبعض الآخر.

الفصل الرابع:  رسالة الرهبانيّات

  1. إلى ما جاء في رسالة الرهبان والراهبات القدماء، تحمل الرهبانيّات اليوم، بفرعيها: الرجاليّ والنسائيّ، تراثًا غنيًّا أكسبها صدقيّة كبيرة لقدرتها العالية على الاستمراريّة والازدهار، والتي أكّدتها خبرتها الطويلة. وهي أغنت التراث المسيحيّ المارونيّ بعملها المتفاني، وحافظت على نقله. فالرهبان “نقلوا لنا إرثًا إنسانيًّا محترمًا، روحيًّا وطقسيًّا”[43]، وملأوا الوطن بالأديار والكنائس لدرجة أنّ أحد الكتّاب الحديثين صدّر الفصل الخامس من كتابه بعنوان “لبنان أرض رهبانيّة”[44].

 ومن أهمّ ثمار الحياة الرهبانيّة، غزارة النعمة المتدفّقة بفعل الصلوات المنتظمة في معظم الأديار والمناسك. وقد تميّز القرن المنصرم ومطلع القرن الحاليّ بالتماع عهد تطويب وتقديس بعض الرهبان والراهبات، فأُعلنت قداسة الأب شربل مخلوف والراهبة رفقا ومؤخّرًا الأب نعمة الله كسّاب الحرديني، وذاع صيتهم ونهجهم الرهبانيّ المارونيّ في العالم. وهناك وجوه أخرى عديدة نأمل أن تظهر علامات قداستها.

وهناك أديار حوت مزارات تستقطب الزائرين من مسيحيّين وغير مسيحيّين أيضًا، من لبنان والمنطقة العربيّة والعالم، يؤمّونها لتنشّق عبير الروح العابق في أرجائها. لقد واصلت الرهبانيّات مواكبتها همّ الكنيسة الجامعة والمحليّة المسكونيّ، فأسهمت في إنعاش التراث الأنطاكيّ بعد التعمّق فيه، وتابعت إسهامها في شحذ الطاقات الفكريّة وكلّ الوسائل التي تركّز الحوار بين الأديان، في سبيل العيش معًا بالإحترام المتبادل.

أمّا استشهاد الدمّ الذي طبع الرهبانيّات منذ البدايات، فقد تواصل في كلّ العصور، لكنّه لم يضعف الرهبانيّات قدرة على الحوار والانفتاح، ممّا سهّل لها الاستقرار في مناطق متعدّدة الطوائف، وفي بلدان متنوّعة الحضارات.

  1. على الصعيد الثقافيّ والتربويّ، نشر الرهبان والراهبات العلم والمعرفة والثقافة وأسهموا كثيرًا في التقدّم الحضاريّ، جاعلين من أديارهم مراكز إشعاع ومراجع روحيّة صالحة، فأدّوا رسالة كبرى ولا يزالون. لهم حاليًا 92 مدرسة بارزة، وحوالي 20 معهدًا تقنيًا وفنيًّا، ومعهدًا جامعيًّا، وثلاث جامعات تسعى إلى التكامل، وتحرص على النموّ والتطوّر، مرسّخة بأدائها مكانها المرموق بين الصروح الثقافيّة الوطنيّة والعالميّة، وتشغل فيها حيّزًا هامًا علوم اللاهوت والأديان والليتورجيا والفنّ المقدّس والأيقونات والتاريخ الكنسيّ وسواها. والرهبان روّاد النهضة الموسيقيّة الدينيّة، المتواصلة مع موسيقيّين كنسيّين كبار يحافظون على التراث السريانيّ وإنشاده ويـبتكرون ألحانًا مارونيّة خاصّة. لقد سخت الرهبانيّات على مؤسّساتها واضطرّت أحيانًا إلى أن تبيع جزءًا من أرزاقها لتؤمّن استمراريّتها ونموّها. هذا بالإضافة إلى مواصلة الرهبانيّات تأليف الكتب أو تعريـبها وطباعتها ونشرها مـع إصــدار عدد لا يُحصى من المنشورات، كانت باكورتها “كوكب البريّة”، أوّل مجلّة تصدر عن رهبانيّة شرقيّة في لبنان وسوريا في مطلع القرن المنصرم، اتّخذت لقب القدّيس انطونيوس الكبير، تبرّكًا وتيمّنًا[45].
  2. وعلى الصعيد الإنمائيّ، كانت الرهبانيّات أوّل من ابتكر نظام الشراكة مع العلمانيّين لاستثمار الأراضي ولخلق امتداد لأديارها، يطول الساكنين حولها والمتردّدين إليها، للمشاركة في زراعة الأرض وإحياء الخورس وتبادل النهج الروحيّ، مكوّنة عائلة الدير الكبرى. غير أنّ إغفال النّظم القانونيّة الصريحة وعدم تحديث هذا الرباط، بالاضافة إلى انصراف معظم الرهبان عن الإشتراك الفعليّ في عمل الأرض وإيكاله إلى الشركاء، أمور  أفرغت هذا النظام من بعده الروحيّ والوجوديّ، وغالبًا ما أدّى إلى نزاعات لم تجد لها حلولاً بغير تضحيات كبرى. وعملت الرهبانيّات في تربية المواشي ودود القزّ واشتهرت مطاحنها ومعاصرها، وجرّت مياه الريّ. وها هي تعود اليوم إلى الاعتناء بالأرض في أكثر من دير، على الرغم مّما أصاب قطاع الزراعة من نكبات، وقد خصّصت جامعة الروح القدس كليّةً للزراعة، تدليلاً على وعي المسؤولين أهميّة هذا القطاع المميّز في تاريخ أبناء العائلة المارونيّة.
  3. وعلى الصعيد الرعائيّ والخدماتيّ، يؤمّن الرهبان، بمؤازرة الراهبات، خدمة الرعايا القريبة من أديارهم والبعيدة، في لبنان وخارجه، وخدمة المريض في 13 مستشفى يديرونه، كما يؤمّنون الوعظ والرياضات الروحيّة والإعترافات والإرشاد في المدارس والجامعات والسجون والمستشفيات. ويؤسّسون المياتم ودور العجزة والمعاقين، وهم يسهمون في تنشيط العمل الرعويّ الجامعيّ وفي الرسالات القضائيّة والإعلاميّة والاجتماعيّة وسواها من الحقول الكنسيّة التي يُطلب اليهم الاشتراك فيها، أو تسند إليهم مسؤوليّتها، كما تحتضن الرهبانيّات وتوجّه حركات ثقافيّة ورسوليّة وكشفيّة وسواها. بذلك “شكّلت الجماعات الرهبانيّة للأبرشيّات والكنيسة ثروة كبيرة وينبوع نعمة وحيويّة”[46].

ولم يتوّقف نشاط الرهبانيّات عند مناطق لبنان الوسطى، بل تعدّاها بسخاء إلى تلك المناطق النائية والبعيدة. وبالأكثر، فقد اهتمّ الرهبان والراهبات بالخدمات الرعويّة والتربويّة لموارنة الانتشار حيثما حلّوا. فمنذ انطلاقتهم المتجدّدة، أسّسوا مدارس في قبرص وعكّا واللاذقية، وخدموا رعايا هذه البلاد مع رعايا بلاد الشام ومصر وفلسطين وتركيا. ثمّ منذ منتصف القرن المنصرم، وصلوا إلى افريقيا وكندا وأستراليا وأميركا والبرازيل والمكسيك وإنكلترا وبلجيكا وفرنسا والأوروغواي وفنزويلاّ والأرجنتين، كما أمّنوا حضورًا رهبانيًا كثيفًا في إيطاليا.

  1. في المجال الاجتماعيّ، اشتهرت الرهبانيّات بمواقفها التضامنيّة المتعاطفة مع القريب، فشاركته في خيراتها ومنتجاتها، وعرفت أديارها بملجأ المعوزين، وقد شرّعتها مع مراكزها ملاجئ ومطاعم للمساكين ابّان الحرب العالميّة الثانية والحرب اللبنانيّة الأخيرة. ويذكر في هذا المجال أنّ الرهبانيّة اللبنانيّة رهنت جميع أملاكها للدولة الفرنسيّة، وباعت الرهبانيّات قسمًا من أرزاقها، بغية إغاثة منكوبي الحرب العالميّة الأولى. وحافظت على الضيافة، وساعدت ولا تزال على تعليم مجانيّ لعدد وفير من المحتاجين، كما على توفير فرص العمل لأعداد كبيرة في مؤسّساتها التربويّة والاجتماعيّة والخدماتيّة؛ كما تقوم بمشاريع سكنيّة عديدة تملّكها بتسهيلات واضحة، وأمّنت مراكز عديدة لجمعيّات ومؤسّسات اجتماعيّة.
  2. بذلك، يؤكّد الواقع “أنّ للرهبان والراهبات حضورهم اليوم في كلّ قطاعات الكنيسة والمجتمع”[47]، وهذا الحضور ليس طارئًا في حياتهم، ولا هو فضوليّ أو مزاحمة، بل إنّه مشاركة حيّة وفاعلة ومكمّلة لتراثنا المارونيّ.

الفصل الخامس:  ارتباط الرهبان والراهبات بالسلطات الكنسيّة العليا

  1. يؤكّد تاريخنا المارونيّ على الوثاق المتين بين غبطة البطريرك والسلطات المحليّة والرهبانيّات، وليس من قبيل الصدفة أن يكون أسقف، وهو تيودوريتس، أسقف قورش، قد نقل إلينا سيرة أصفياء الله في زمانه، وليس غريبًا ايضًا أن تنطلق الرهبانيّات في تجدّدها بمسعى بطاركة واساقفة وبتوجيههم. فالحياة الرهبانيّة، منذ نشأتها، كانت على ارتباط وثيق بالبطريرك والأسقف وبشعب الله، وبقيت على هذا الارتباط الكنسيّ مع النسّاك والمتعبّدين في منطقة افاميا وغيرها من المناطق. من هنا التشديد الدائم في صلواتنا على التفاعل والتناغم العضويّ بين البيع والأديار. لقد شدّد تيودوريتس على الإنسجام الكامل بين السلطات الكنسيّة والنسّاك مع تأكيد الحبّ والتكامل بينهما. وسبق للمجمع الخلقيدونيّّ (القانون الرابع) أن سنّ سنة 451 قانونًا يخضع كلّ الرهبان، في المدن والأرياف، لسلطة المطران المحليّ، ومنع تأسيس دير بدون إذنه، وهذا ما تواصل عبر الأجيال، وكانت الطاعة للأساقفة، مندوبيّ البطريرك في الرعايا كما في رئاسة أديار كثيرة، إحدى ميزات الرهبانيّة الشرقيّة، وهي بطبيعة الحال طاعة للبطريرك، الوليّ على كل النطاق البطريركيّ في غياب التقسيمات الأبرشيّة قبل المجمع اللبنانيّ. لقد تقاسم البطريرك والأساقفة والمطارنة حياة الرهبان وشاركوهم في صلواتهم وأعمالهم، ولم يسكنوا إلاّ في أديار، لا بل لم يثبت وجود أسقف أو بطريرك من غير الرهبان، فتأكدّ عبر الأجيال تقارب شديد واندماج خاصّ بين السلطة المحليّة والرهبان إلى حدّ انتفاء التمييز بينهم طوال قرون، فبقيت هذه الميزة قويّة وظاهرة حتى نهاية القرن السادس عشر.

ومنذ بدايات الألفيّة الثانية تجلّى التزام الحياة الرهبانيّة بتوجّهات كنيستها المارونيّة وميزتها، فأظهرت الإجلال العميق لبابا روما وللبطريرك والأساقفة وفي الوقت نفسه، استيعاب كبير للتنوّع المدهش في التسلسليّة المنصهرة في الكنيسة، وبتناغم مع الكنيسة المارونيّة بكامل فئاتها. هذا ما أكّدت عليه قوانين الرهبان الأولى (1732 و1740) فأوجبت على الرهبان والراهبات الخضوع للكرسيّ الرومانيّ وللسيّد البطريرك في آن، فنقرأ في القسم الثاني، الباب التاسع، أوّلاً: “(…) فليجتهد الرؤساء كافة في أن يحقّقوا عند رهبانهم الإعتقاد بأنّ الطاعة والخضوع للكرسيّ الرومانيّ الرسوليّ هو بمنزلة أساس ووسم وعلامة لديانتنا التي بها أرادت طائفة الموارنة للسريان ان يفترقوا ويتميّزوا من جميع الطوائف الشرقيّة. (…) فليحرصوا إذًا حرصًا كليًّا على حفظ هذه الوديعة الكليّة الثمن المقلّدة لنا من سلفائنا”، وثانيًا: “ثمّ بعد إكرام الأحبار الرومانييّن الأعظمين فليكرّموا أمّهم الكنيسة الأنطاكيّة والسيّد البطريرك الكليّ الاحترام المتولّي على رعاية طائفتنا ورهبنتنا من قبل الكنيسة الرومانيّة المقدّسة، وليكونوا له خاضعين بودّ خاص فريد بمنـزلة أب خصوصيّ، وليخضعوا ويطيعوا كلّ مراسيمه وأوامره غير المضادّة الإيمان الكاثوليكيّ والأحبار الرومانيّين ولا يخالفوها”.

  1. غير أنّ انطلاقة الرهبانيّات بتنظيمها الجديد، يقابلها تنظيم كنسيّ شامل وجديد هو أيضًا، ولاسيّما من حيث إيلاء كلّ أبرشيّة إلى أسقف مقيم، له في أبرشيّته  ملء السلطان، أحوج الأديار المنتشرة في أبرشيّات عدّة إلى مرجعيّة تعلو سلطة الأسقف المكانيّ المحصورة، فكان أن واصل الحقّ البطريركيّ تعزّزه بطبيعة الحال. وما لبث أن تجاوب الرهبان مع ما ومن دفعهم إلى نقل مرجعيّتهم العليا إلى المسؤول الكنسيّ الأعلى في روما، سيّما وأنّ الكنيسة المارونيّة بأسرها تجلّه وتطيعه، وقد أوصى البطريرك يوسف الخازن الخلف، والأساقفة بتسهيل هذا الإنعام لرهبانيّة أخرى ناشئة هي أيضًا[48].

ومع أنّ تثبيت القوانين من قبل الكرسيّ الرسوليّ الرومانيّ لا يعني بحدّ ذاته خروج الرهبانيّات من كيان كنيستهم المارونيّة، أثارت التغيّرات التنظيميّة الكبيرة في الهيكليّات جملة تساؤلات، خصوصًا وإنّها تختلف عن تقليد الموارنة وتنظيمهم الكنسيّ المألوف، فظهرت مفاهيم متباينة وممارسات غير مألوفة، أدّت أحيانًا إلى بعض خلافات واللجوء إلى الكرسيّ الرومانيّ وتدخّل هذا الأخير بشكل متواتر، لفرض حلول تزيد من تطابق أنظمة الكنيسة المارونيّة مع مثيلاتها في الكنيسة اللاتينيّة، فتعزّز سلطان الأساقفة في أبرشيّاتهم وتربط الرهبانيّات بالكرسيّ الرومانيّ بصورة مباشرة وحصريّة بدافع خير الكنيسة العام. مع ذلك بقيت الرهبانيّات تبدي احترامًا كبيرًا للبطريرك ولكلّ سلطة كنسيّة محليّة كما تواصل اهتمام البطاركة والأساقفة بالرهبانيّات فاحترموا قوانينهم وأنظمتهم وسهروا على شؤونهم. ولكنّ ازدياد إطلالة الرهبانيّات على الأعمال الرسوليّة أوجبت تعميق العلاقات بين الأساقفة والرهبانيّات، شرقًا وغربًا، وتوضيح الصلاحيّات المتقاطعة وأطرها، فجاءت وثيقة “العلاقات المتبادلة” والإرشاد الرسوليّ “الحياة المكرّسة” والإرشاد الرسوليّ “رجاء جديد للبنان” والرسالة البابويّة “نور الشرق”، إضافة إلى توجيهات المجمع الفاتيكانيّ الثاني في القرار المجمعيّ “في مهمّة الأساقفة الرعويّة في الكنيسة”، والقرار “في نشاط الكنيسة الإرساليّ”، وغيرها من الوثائق، لتركّز العلاقة بين الرهبان والسلطة الكنسيّة على قاعدة مفهوم الكنيسة اللاهوتيّ. ويعمل المعنيّون على استلهام كلّ هذه المراجع والاسترشاد بها وإثرائها بخبرة الكنيسة البطريركيّة المميّزة بعد تبيان خصوصيّتها، لتجسّد علاقاتهم المتبادلة إشراق روح الشراكة والخدمة، ولتؤكّد على تعاطيهم الكنسيّ الذي لا يقوم إلاّ بالتعاون والتنسيق، ولتظلّ الحياة الرهبانيّة شديدة الإرتباط بحياة كنيستها وصدق شهادتها.

  1. صدرت مؤخّرًا مجموعة قوانين الكنائس الشرقيّة الجديدة، وأخضعت جميع الرهبان والراهبات للحبر الرومانيّ، خضوعهم لرئيسهم الأعلى، فحتّمت عليهم واجب الخضوع له بقوّة نذر الطاعة[49]، أمّا لجهة ما يتعلّق بقانون الرهبانيّات ونظامها وحكمها الداخليّ، فقد حصرت مجموعة القوانين هذه الصلاحيّة بالكرسيّ الرسوليّ للرهبانيّات ذات الحقّ الحبريّ[50]، وبالبطريرك أو بالأسقف الأبرشيّ للرهبانيّات ذات الحقّ البطريركيّ أو الأبرشيّ، لكنّها أكّدت، في آن، خضوع جميع هذه الرهبانيّات لسلطة الأسقف الأبرشيّ، في كلّ نشاطاتها التابعة للاحتفال العلنيّ بالعبادة الإلهيّة والتبشير والتعليم المسيحيّ، ومختلف أعمال الرسالة، وحتى في ما يتعلّق بتصرّفات أفرادها المتّصلة بالحالة الإكليريكيّة، كما أكّدت مرجعيّة البطريرك وسينودس الأساقفة في بعض شؤون قضائيّة وماليّة عائدة لمؤسّسات الحياة الرهبانيّة، وان من حقّ حبريّ[51]، وحثّت البطاركة والأساقفة على تشجيع الاجتماعات مع رؤساء الرهبان في مواعيد محدّدة وكلّما بدا ذلك ضروريًّا، لتنسيق العمل وتبادل الآراء في ما يخصّ الأنشطة الرسوليّة[52]. 

الفصل السادس : تجـدّد دائـم

  1. إنّ ما جاء في كلامنا عن الرهبانيّات ورسالتها لا يعني أنّها لم  تُصَب  بجراح تقتضي المعالجة والتجدّد الدائم في ضوء روحانيّتها وهدفها الأوحد أيّ السيّد المسيح. لا شكّ في أنّ التجديد في كلّ الأمور الحياتية أمر حيويّ وملحّ في كلّ زمن ومناسبة، لتبقى الرهبانيّات محافظة على نضارتها وقوّة شهادتها وصدقها. لذا فإنّنا، وإيمانًا منّا بأنّ الحياة الرهبانيّة “تعبّر عن طبيعة الكنيسة بالذات ولا يمكن الاستعاضة عنها”[53]، وأنّ كنيستنا تعتبر تجدّد الحياة الرهبانيّة المتواصل فيها عنصرًا يسهم في تجديدها بأسرها، فيما تقرّ الرهبانيّات بأنّ كلّ ازدهار للكنيسة المارونيّة هو ازدهار لحياتها نفسها، نودّ في هذه المناسبة المقدّسة الإشارة إلى ضرورة معالجة بعض الأمور الشاملة والهامّة. وبالأكثر، إنّنا ندعو الرهبانيّات إلى تجدّد جريء وثابت، يستمدّ خطوطه العريضة من عبقريّة تاريخ كنيستنا وأصالته، فتستلهم ثوابته وتتبّناها في التجاوب مع نداءات العصر وحاجاته المستحدثة.
  2. في نظرة آنيّة ومستقبليّة، لا بدّ من التأمّل المعمّق في الوثائق المجمعيّة وسماع نداء التراث لاستلهام الطريق والتركيز على أبعاد الحياة الرهبانيّة الكريستولوجيّة والايكليزيولوجيّة. لذا يجهد الرهبان والراهبات في إبراز موقع سلطات كنيستهم المارونيّة في حياتهم ليعزّزوه، ويتعاطفوا مع هذه السلطات، قلبًا وروحًا. “على الرهبان، من جهتهم، ولو منضوين إلى مؤسّسة ذات حقّ حبريّ، أن يشعروا بأنّهم أعضاء في عائلة الأبرشيّة، وأن يكلّّفوا نفوسهم مشقّة التكيّف اللازم”، “ومن المهمّ جدًا، لأسباب لاهوتيّة ورعائيّة، أن يندمج الرهبان والراهبات اندماجًا فعليًّا في الحياة الكنسيّة”[54]، ولن تثمر الحياة الرهبانيّة إلاّ بمقدار تجذّرها في عمق الحياة الكنسيّة. فعلى الرهبان والراهبات أن يشهدوا على انتمائهم إلى كنيستهم البطريركيّة ويعزّزوا التواصل ببطريركهم معوّلين على مرجعيّته الأبويّة والرئاسيّة، لأنّ العلاقة مع البطريرك، “تتخطّى الأطر القانونيّة الضيّقة، حتى تلتقي مع الدعوة التاريخيّة والآنيّة”[55]. وعلى السلطات بدورها أن تصون وتحترم خصوصيّة الرهبانيّات والكاريسما الخاصّ بها، وأن تتعاون معها وتثق بها، فتشركها في سلطانها التبشيريّ والرسوليّ لتواصل عملها في الخدمات الروحيّة والراعويّة والليتورجيّة والاجتماعيّة وغيرها. ولأجل توفير مقتضيات الشركة بين السلطة الكنسيّة المحليّة والسلطات الرهبانيّة، حبريّة كانت أم بطريركيّة أم أبرشيّة، يوصي هذا المجمع بتفعيل الدائرة البطريركيّة للتنسيق بين الأساقفة والرهبانيّات[56]، بهدف تعزيز التواصل بمرجعيّة البطريركيّة المارونيّة والتعاون مع الاساقفة وتأكيد المواقف الواحدة بانفتاح وإخلاص في شتّى الميادين.
    1. لقد أنتجت الحداثة قِيَمًا تسربت، سريعًا، إلى الرهبانيّات، كالحريّة والمساواة والعدالة والتواصل والشراكة والشفافيّة وروح النقد وسواها، فاستفادت منها الرهبانيّات في إقامة وزن للأفراد وفتح مجال المبادرات والتنمية الذاتيّة أمامهم والإنخراط في مختلف القطاعات الرسوليّة والإنمائيّة والاجتماعيّة. غير أنّ هذه القيم قد تسهّل للبعض، من ناحية أخرى، التفرّد من خلال حريّة بدون ضوابط، أو مساواة لا تقيم للسلطة وزنًا، أو صراحة قد تبلغ حدّ الوقاحة، أو تعنّتًا يدلّ على قناعات مضطربة، أو إفتقارًا للإنصياع المحبّ، وسواها من الأمور التي قد تبرز ظاهرة صراع أجيال وملامح أزمة مزدوجة: أزمة هويّة بالنسبة إلى الحياة الرهبانيّة؛ وأزمة صدقيّة بالنسبة إلى الآخرين. ولكن الأزمة تبقى محرّكًا مهمًّا، وقد يخترق كلّ جماعات الكتاب المقدس، فالأزمات كانت نقطة الانطلاق نحو نقلة نوعيّة ترجع الحياة الرهبانيّة إلى زخم البداية، إلى حدثها “كذاكرة إنجيليّة”، تمحّص كلّ الشوائب في أتّون التطهير. ومن شأن الأزمة أن تكثّف التفاعل بين الموهبة والروحانيّة، فتكتشف الهويّة وتبرز خصائص النموذج الموروث، الذي يختصر الذاتيّة ويجسّد التراث ويتحوّل إلى مهمّة دائمة، مهمّة التوبة المتواصلة إلى الله وهي السبيل الوحيد للتحرّر والنجاة وإرجاع الذات لذاتها. إنّ إحياء حضور الربّ، لا الحضور للذات، هو الثابت الموروث الذي يفوق الإدراك ويساعد على تبيان صدى استذكار كلمة الله في ما يمكن الربّ أن يبتدعه في مدعوّيه.
    2. وعلاوة على تحدّيات الأمانة للنذور المبرزة وعيشها بالتزام صادق ومحبّ، تبقى الحياة الروحيّة التحدّي الأكبر الذي تواجهه الحياة الرهبانيّة في الكنيسة المارونيّة. ولن تخصب رسالتها إلاّ في اتّحادها بالمسيح من خلال عطاء يشمل حياتها بأكملها. لذا انصرف كثير من الرهبان والراهبات إلى النشاطات الرسوليّة المحمودة في ذاتها نظرًا لطبيعة الكنيسة الرسوليّة ولتراثنا الرهبانيّ الذي كان دومًا نسكًا، تأمّليًّا ورسوليًّا في آن، لكنّها قد تبعد البعض عن اختبارهم الشخصيّ والجماعيّ للربّ. فإذ تبقى الصلاة الشخصيّة والجماعيّة في جميع الأديار والمراكز، ضمانة أكيدة ودرعًا واقيًا للحياة الرهبانيّة، لا بدّ من “إعلان الحقيقة دون مساومة والبحث عنها ووضعها موضع الممارسة”[57]، وتأكيد مكانة الصلاة والحياة التأمّليّة وقيمتها الدائمة في كلّ عمليّة توازن بين “الجبل والقفر” و”القرى والمدن”، لدى مختلف أشكال الحياة الرهبانيّة. وإذا كان لا بدّ من العمل على تقوية البعد التأمليّ، في أديار الرهبانيّات ومراكزها، فلا بدّ بأولى حجة من بعث زخم جديد لدعم الحياة التأمليّة الكليّة، لاسيّما في الأديار المستقلّة القائمة.
    3. ولطالما انغرس الدير في الجماعة الكنسيّة، وغدا محورًا بفضل حياة الجماعة فيه وشهادتهم. غير أنّ مكانته تنحسر اليوم في حياة المجتمع والكنيسة. فقد قامت الحواجز بين الدير والناس وضعفت الشهادة، وبدأت بعض الأديار تفرغ ممّن يعيش حياته “في ما هو للربّ” ومّمن يثبت أنّها الخدر وواحات الصلوات والتأمّل والإرشاد. فلا بدّ من إعادة تعزيز الحياة الديريّة قبل أيّ أمر آخر، عبر تأمين الحياة المشتركة فيها والحفاظ على ثوابتها وخصوصًا على المحبّة الأخويّة، وعبر التأكيد قولاً وفعلاً، إنّ الأديار هي المكان الفعليّ ليعيش الأبعاد النبويّة القادرة وحدها على أن تشير إلى الملكوت، وهي ملجأ الفقراء وملاذ الغرباء ومراكز شفائهم ورجائهم، لا أسوار بينها وبينهم، بل هي علامة حضور الله والقربى من الناس والشركة معهم، يسكنها من وقتهم متاح للمستغيثين ويومهم مشحون بالصلاة والأعمال، ومن عمقها تنطلق سائر المؤسّسات والخدمات وتصطبغ بروحانيّتها.
    4. ومع الإعتراف بازدهار الحياة الرهبانيّة في القرون الثلاثة الأخيرة، بفضل بنيتها المؤسّساتيّة والعمل المشترك فيها، نشير إلى أنّ الإنهماك المفرط في هموم المؤسّسات المتّسعة، مع ما يستتبعه من نزعة إلى العمل الإداريّ، إنّما يقلق الإنسان ويفقده صفاءه ويقوده إلى الجفاف فيسقط، لا محالة، عندما يضع رجاءه في أعماله. لذا يحرص الرهبان والراهبات على أن لا تصبح مؤسّساتهم شكلاً آخر من أشكال الأعمال التي تشبهها بحيث يصعب على المنصرف إليها أن يتنـزّه، من تلقاء ذاته، عن مغرياتها، فيقف عند مستوى الفعل والإنتاجيّة والمردوديّة، ويسهل انجرافه فيصير مثل غيره من أصحاب الأعمال، وتفقد المؤسّسة قوّة شهادتها لعالم التطويبات، ويُستبعد الفقير والمحتاج بحجة استمراريّة المؤسّسة وتطويرها، وتغلب البرامج على الهدف الأساسيّ، وهو نقل البشرى وحمل الخلاص. لا بدّ إذًا من تقوية البعد الزهديّ وإعادة فتح صوامع القلوب وولوج بريّتها الداخليّة، لكي يكون ذلك ضابطًا للحياة الرهبانيّة، يحمي الرهبان والراهبات من زهو المظاهر ويحبب إليهم عريّ التخلّي ليواصلوا حياة البساطة، علامة النضج الفرديّ والجماعيّ، كما لا بدّ من تنمية شبكات حيّة من التنشيط الروحيّ، تطال جميع العاملين في مؤسساتهم، لتكون كنائس حيّة شاهدة للمسيح ورحمته، ومدارس روحانيّة إنجيليّة حقّة.
    5. وفي عالم سهل التمزّق والإنقسام، غير قادر على التعالي على جراحاته أو التغلّب على تسلّطه، تبرز ضرورة تعزيز الشهادة للحياة الأخوية المحبّة، المتجرّدة والمتفانية، لأنّ منها ينبع خصب الحياة الرهبانيّة، كما تبرز الحاجة الملحّة لإنماء روحانيّة الشراكة بين جماعات الرهبان والراهبات لتأكيد انتسابهم كيانيًّا إلى من جمعهم فيعيشوا بأبعاد فصحيّة واسكاتولوجيّة، ينعشها الروح القدس. يمكن تلافي بعثرة الحياة المشتركة، أقلّه بخلق محطّات ثابتة ومكثّفة من لقاءات العيد والاستغفار المتبادل والإغتناء بالخبرات المختلفة وبالتأمّلات الروحيّة العميقة والخلوات المتواترة. إنّ الجماعة المتحابّة لا تسمح بأن يتغلغل فيها، حتى عند تبديل الولايات وتوزيع الخدمات، روح عالميّ يهشّم ويجرح ويحطّم أو يعتكف أو يعزف عن العمل المشترك أو ينكر إرادة المسيح في مسؤول لم يكن ليحبّذه، كما أنّ طبيعة الدعوة الرهبانيّة، وإن أقرّت بالإختلاف وتغذّت بالتنوّع، تمنع التحزّبات المعادية وتركيز المواقف على المشاعر الشخصيّة والذاتيّة.
      1. وتمتد ضرورة الوحدة والتعاون والتنسيق لتشمل علاقة الرهبانيّات في ما بينها وخصوصًا الرهبانيّات المارونيّة بفرعيها: الرجاليّ والنسائيّ، فتعزّز شراكة العمل المسؤول وتكامله مع الراهبات وتجتنب المنافسة في مؤسّساتها وتعمل على تأكيد وحدة الإنتماء والتقارب والمسعى الواحد، بالتعاضد البنّاء وتبادل الخبرات، خصوصًا في المناطق التي تضمّ مراكز رهبانيّة متجاورة، وكذلك في بلاد الانتشار حيث يجب تنظيم الرسالات بشكل منطقيّ. ويحثّ مجمعنا  الرهبان والراهبات في بلاد الانتشار، على أن يشدّدوا، إنطلاقًا من أديار يؤسّسونها وينعشونها بحياة ديريّة، على الإعتناء بروحانيّة كنيستهم وعلى ضرورة تنشئة موارنة تلك البلاد، على ارتباطهم الروحيّ بمنبع تراثهم الدينيّ المشرقيّ، وإرشادهم بتوجيهات مرجعيّة كنيستهم البطريركيّة وتطلّعاتها، حفاظًا على تواصلهم وانتمائهم وتعزيزًا لتراثنا المارونيّ الذي قدّس الكثيرين، دون أن يكون ذلك على حساب تفاعلهم مع محيطهم.
      2. والأهمّ أن تولي الرهبانيّات التنشئة أهمّيّة قصوى، “فإنّ مستقبل الحياة المكرّسة متوقّف على القدرة الديناميّة التي تبذلها المؤسّسات الرهبانيّة لتنشئة أعضائها”[58]. لا بدّ من ان توقظ الدعوات وتميّزها وترافقها وتمرّسها برويّة، بحيث لا يغلب الهمّ العدديّ على الالتزام الصادق والشاهد، قولاً وحياةً، ولا يبتلع الهدف الكهنوتيّ حالات الأخوّة الدائمة، فتركّز على شخصانيّة الدعوات وانتظامها من خلال توليد الحاجة إلى الانكباب المتواصل على القراءة الإلهيّة والتمرّس على الصمت والزهد، فيتعلّم المدعوّ أن يتتلمذ دومًا للمسيح قبل أن يغرق بجلبة الأنشطة الجامحة. وتتصاعد التنشئة وتتكامل، لا بهدف تجميع المعلومات، بل لتكثيف إمكانيّة الشهادة في الحياة والعمل وسط التحوّلات المعاصرة. إلى ذلك، تسعى الرهبانيّات إلى زرع التقارب بين طلابها وبين الإكليريكيّين الأبرشيّين للتعارف والتآلف والتكامل في خدمة العمل الرسوليّ الواحد. إنّ مجمعنا يبارك كلّ اللقاءات المشتركة التي تنظّم في هذا السياق، ويوصي بتوفيرها وتكثيفها.
      3. ولا بدّ من أن تولي الحياة الرهبانيّة الأرض واستثمارها أهميّة خاصّة في أعمالها، وتعمد إلى الإسهام في انتشال القطاع الزراعيّ من كبوته، والتوصّل إلى تحديث أنماط الشراكة مع العلمانيّين، لأنّها من عمق الروحيّة المارونيّة، ولأنّها استباق لشركة القدّيسين وحافز لجعل الدير ينطق بكلام الله ويشهد له حتى في صميم الصراعات. هذه الشراكة هي التواصل المنتظر لتثبيت العائلة الصغرى المحيطة بالأديرة وللمؤازرة الوطنيّة في السعي إلى الائتلاف والوحدة، صونًا للعائلة الكبرى. إنّ الأرض تحمل التاريخ وتحمي التراث، وبالأخصّ أنّها تجمع العائلات التي منها تتألّف الكنيسة.

خاتمة

  1. في ضوء ما تقدّم، تؤكّد الكنيسة المارونيّة أنّ حياة الرهبان والراهبات فيها، بشتىّ أنواعها، كانت ولمّا تزل وستستمرّ بعمق، هبة نفيسة، وظاهرة عافية وحيويّة في قلبها، لا يمكن الإستغناء عنها، لأنّها “جزءًا لا يتجزّأ منها”[59]، ولكنّها تسأل الله أن يلهم المسؤولين وجميع الرهبان والراهبات لينقادوا إلى عمليّة توبة متوثّبة، تجدّد حياتهم وتصقلها في نور الإنجيل وتعليم الكنيسة وإرشاداتها، والموروث النسكيّ الثابت، المكيّف مع نداءات إخوتهم واحتياجاتهم، فتسطع مصداقيّة هذه الحياة وتشهد حقًّا على انغراسها في عمق سيرة السيّد المسيح وتعليمه.

 

توصيات النصّ وآليات العمل  

 

الموضوع

التوصية

الآليّة

1- تعزيز الحياة الديريّة المشتركة لإبراز روح الإنجيل وكاريزما الرهبانيّة

1- لمّا كانت الحياة الديريّة المشتركة المكان الأكثر ملاءمة لكي يعيش الرهبان والراهبات التعاليم الإنجيليّة، لاسيّما المحبّة الأخويّة، وبما أنّ عمل الرهبان والراهبات المتزايد في المجالات الرسوليّة قد يُضعفُ تلك الشركة في بعض الحالات، يدعو المجمع المؤسّسات الرهبانيّة إلى أخذ المبادرات التي من شأنها تعزيز الحياة الديريّة المشتركة وفقًا لتعاليم الإنجيل، والقوانين والتقاليد الرهبانيّة، وظروف الزمان والمكان.

1-أ: تضع الجماعات الديريّة برنامج يتضمّن على نحو ثابت مجامع ديريّة، ولقاءات أخويّة في مناسبات متنوّعة، وتبادل الخبرات.

1-ب: التحلّي الدائم بالفضائل الرهبانيّة، لاسيّما عند تبديل المسؤوليّات والولايات.

2- التوازن بين الصلاة والتأمّل والعمل.

 

2- بما أنّ الصلاة الفرديّة والجماعيّة والبعد التأمليّ هما من المقوّمات الأساسيّة للحياة الرهبانيّة، وحيث إنّ تنامي البعد الرسوليّ في مؤسّساتنا الرهبانيّة بات يهدّد التوازن المرجّو بين الصلاة والتأمّل والعمل في بعض الحالات، يوصي المجمع تلك المؤسّسات بالعمل على تقوية حياة الصلاة والتأمّل في كلّ أديارها ومراكزها بحيث تغدو تلك الأخيرة علامات حيّة للملكوت.

2-أ:  الإلتزام بأوقات صلاة مشتركة يوميّة تتناسب ومُهمات الرهبان والراهبات المتنوعّة.

2-ب: تعزيز الصلوات الخورسيّة بشكلٍ منتظم وتمكين العلمانيّين من المشاركة فيها.

2-ج: الحفاظ على جوّ الخلوة والصمت والبُعد عن العالم.

3- العلمانيّون العاملون في المؤسّسات الرهبانيّة.

 

3- لمّا كان العلمانيّون العاملون في المؤسّسات الرهبانيّة يؤلّفون مع الرهبان والراهبات عائلةً روحيّةً واحدة، يدعو المجمع تلك المؤسّسات إلى أن تولي هؤلاء العاملين إهتمامها الخاصّ بحيث تسهر على تنشئتهم الروحيّة كي يشهدوا للمسيح في نطاق عملهم وخارجه.

3-أ: السهر على الجمع بين العدالة والمحبّة المسيحيّة في تطبيق قوانين العمل.

3-ب: توفير رياضات ومرافقة روحيّة دوريّة للعلمانيّين العاملين في المؤسّسات الرهبانيّة.

3-ج: إنشاء رابطات روحيّة بينهم وبين المؤسّسات.

 

4- الرهبانيّات المارونيّة والإهتمام بالأرض.

 

4- نظرًا إلى ما أولته بعض الرهبانيّات المارونيّة من أهميّة روحيّة واقتصاديّة واجتماعيّة للأرض، وذلك منذ تأسيسها حتى اليوم، وبما أنّ الإهتمام بالأرض وإستثمارها يسهم في تنمية المجتمع وفي الحدّ من الهجرة المتنامية، يوصي المجمع تلك الرهبانيّات بمواصلة جهودها في تنمية القطاع الزراعيّ ضمن أراضيها.

4-أ: إستثمار الأراضي على أسس علميّة حديثة مع إدخال تصنيع المنتوجات الزراعيّة.

4-ب: تطوير نظام الشراكة مع العلمانيّين العاملين في تلك الرهبانيّات.

5- تفعيل الدائرة البطريركيّة للتنسيق بين الأساقفة والرهبانيّات.

 

5- لمّا كانت الرهبانيّات المارونيّة في قلب الكنيسة البطريركيّة وفي خدمتها، وحرصًا على أن تؤدّى تلك الخدمة، لاسيّما في المجالات الراعويّة، بروح الشركة لما فيه خير الكنيسة وبنيانها، يوصي المجمع بتفعيل الدائرة البطريركيّة للتنسيق بين الأساقفة والرهبانيّات.

5-أ: التنسيق بين الأساقفة والرؤساء العاميّن والرئيسات العامّات في ما يتعلّق بالخدمة الراعويّة والعمل الرسوليّ.

5-ب: تعزيز اللقاءات القائمة بين الإكليريكيّين الأبرشيّين والرهبان والراهبات الذين يدرسون معًا بحيث يتدربون على خدمة الكنيسة بروح الشركة الحقيقيّة.

5-ج: الإهتمام بالتنشئة الرعويّة للرهبان وللراهبات.

6- التنسيق بين المؤسّسات الرهبانيّة.

 

6- تشجيعًا للتعاون البنّاء بين المؤسّسات الرهبانيّة ذات الطابع الرساليّ، وحرصًا على توزيعٍ مسؤولٍ للطاقات بحيث تسهم في تلبية حاجات الكنيسة في لبنان والنطاق البطريركيّ وبلاد الانتشار، يوصي المجمع بضرورة التنسيق والتعاون بين تلك المؤسّسات، لاسيّما في المناطق التي توجد فيها بشكلٍ مكثّف.

6- تعهد هذه المسألة إلى الدائرة البطريركيّة للتنسيق بين الأساقفة والرهبانيّات وإلى مجلس الرؤساء العاميّن والرئيسات العامّات.

7- الرسالات الرهبانيّة المارونيّة في بلاد الانتشار.

 

7- نظرًا إلى واقع الانتشار المارونيّ المتنامي منذ بضعة عقود، وحرصًا على وحدة الكنيسة المارونيّة في النطاق الأنطاكيّ وبلاد الانتشار، ونظرًا إلى أهميّة دور المؤسّسات الرهبانيّة في تعزيز هذه الوحدة من خلال نقل التراث الأنطاكيّ السريانيّ المارونيّ إلى موارنة الانتشار بما يتلاءم مع حاجاتهم وذهنياتهم، يوصي المجمع تلك المؤسّسات بضرورة متابعة عملها في مختلف الرسالات وتنظيمه في ما بينها بشكلٍ متكافئ وهادف، وذلك بالتعاون الوثيق مع السلطات الكنسيّة المختصّة.

7-أ: تضع الدائرة البطريركيّة للانتشار، بالتعاون مع أساقفة الانتشار والمؤسّسات الرهبانيّة المعنيّة بهذه المسألة، خطّة كنسيّة شاملة للعمل في بلاد الانتشار.

7-ب: تنشئة الرهبان والراهبات:

أوّلاً: على تاريخ كنيستهم البطريركيّة وروحانيتها، وعلى التراث الأنطاكيّ السريانيّ في أبعاده الليتورجيّة، والروحيّة، والآبائيّة، والإيقونوغرافيّة، وغيرها.

ثانيًا: على واقع الانتشار في تعقيداته وتحدياته قبل إرسالهم إلى بلدان الانتشار.

ثالثًا: على العمل الراعويّ المشترك مع السلطات المحليّة.

 

 

 

 


1. يوحنّا بولس الثاني، نور الشرق، 3 ايار 1995، رقم 9.

2. نشر النصّ السريانيّ في Wright W., Apocryphal Acts of the Apostles, volume 1, London 1871.

3. نشر النصّ السريانيّ: Kmosko M., Liber Graduum, Patrologia syriaca, Pars prima, Tomus 3, Paris 1926. ونقله المطران فرنسيس البيسري الى العربيّة، راجع كتاب المراقي، المكتبة البولسيّة، جونية 1989.

4. نشر مقالات افراهات بالسريانيّة: Graffin R., Aphraatis sapientis Persae, Demonstrationes, Patrologia syriaca, Pars prima.. وقام الاب بولس الفغالي بنقل النصوص الى العربيّة، أفراهات الحكيم، بيروت 1994.

5. راجع: S.BROCK, Le monachisme Syriaque, histoire et spiritualité, في أعمال المؤتمر السريانيّ الثانيّ، انطلياس 1998، ص 21.

6. نشره مع النصّ اليونانيّ: Pierre CAVINET et Alice Leroy-Molinglen, Théodoret de Cyr, Histoire des moines de Syrie, Sources chrétiennes, 234,257, Paris 1977.. وتوجد أيضًا ترجمة عربيّة لهذا الكتاب، حققها الارشمندريت ادريانوس شكّور، تاريخ أصفياء الله، جونيه 1987.

7. راجع: P.BEDJAN, Acta Martyrum et Sanctorum, vol VII.

8. راجع: J.AMAR, Byzantine ascetic monachism and Greek bias in the Vita tradition of Ephrem the Syrian, Orientalia Christiana Periodica 58 (1992), pp. 123-156.     

9. إلى جانب أهل العراء والعاموديّين والحبساء، عرفت أنطاكيّة الوقّافين والشجريّين والسهّارين والعشّابين والبكّائين الذين امتازوا بالزهد العنيف، كما عرفت كذلك الدّوارين أو الجوّالين والمصلّين الذين سبّبوا لها متاعب كثيرة. من أجل شرح واف عن كلّ من هذه الأنماط، يمكن مراجعة الأب سهيل قاشا، “تفجّر الحياة النسكيّة والرهبانيّة في الكنيسة”، في مجلّة المنارة، السنة 41، العددان 2 و3، ص 298-302.

10. انّها جماعة من النسّاك، يتبع لها المتوحّدون ويخضعون لرئيسها، وإليه يرجعون، فيلتقون نهاية الأسبوع لعيش الإفخارستيا معًا وتقاسم الخبز والخبرات قبل أن يعودوا الى مناسكهم.

11. يسهب اسحق الأنطاكيّ في وصف هذا التحوّل ويقول إن معظم النسّاك والرهبان بدأوا خلال النصف الثاني من القرن الخامس بهجر حياة الزهد الفرديّة القاسية في المغاور والكهوف للاستقرار نهائيًا في الأديرة الكبيرة. راجع: BEDJAN P., Homiliae S. Isaaci, Syri Antiocheni, Paris 1903. وراجع أيضًا: الأب شفيق ابو زيد، مقالة الحياة الرهبانيّة في سورية والعراق وفلسطين، في المسيحيّة عبر تاريخها في المشرق، مجلس كنائس الشرق الأوسط، بيروت 2001، ص 396.

12. يقول المطران الدبس: “إنّ رهبان دير القديس مارون لم يكونوا يقتصرون على النسك والتكامل بالفضيلة وتخليص نفوسهم فقط، بل كانوا يباشرون الرسالة والاهتمام بخلاص الآخرين أيضًا، فيطوفون المدن والقرى منادين بكلمة الله ومحرّضين الشعب على اقتفاء الفضائل والتحاشي عن الرذائل، ولا سيّما الكفر بالدين، ويناصبون أصحاب البدع والآراء الفاسدة، بخطبهم ومكاتباتهم وجدالهم. فكان رؤساؤهم كقادة جيش يدافعون عن الدين القويم، والرهبان جنوده الباسلين وكماته الظافرين. وكانت أديارهم كقلاع حصينة يلجأ إليها كلّ من ضايقه المارقون، ويؤّمها كلّ من عازه سلاح العلم الصحيح لمناوأة الجاحدين”. المطران يوسف الدبس، تاريخ سورية الدنيويّ والدينيّ، المجلّد الرابع، ص 454.

13. يقول سوزومين: “إنّهم دخلوا في عهد الامبراطور فالنس أشدّ المناطق وثنيّة، وسكنوا بالقرب من أفاميا وحمص وغيرها، وبشّروا بالمسيح وأعادوا له عددًا من السريان والفرس والعرب”. Sozomenus, Historia Ecclesiastica, in P.G., 67, v 1, 34, col. 1396.

14. راجع: علي الحسن بن الحسين بن علي المسعودي، كتاب “التنبيه والإشراف“، طبعة لايدن 1894، ص 153، ومقالات المطران توما الكفرطابي (القرن الحادي عشر) في المخطوط السريانيّ في مكتبة باريس العامّة، رقم 203، ص97-98.

15. راجع: الأب الياس خليفة، مجلة أوراق رهبانيّة، 47 (1995) ص 85-86.

16.  سنة 1969 أصبح اسم الرهبانيّة الحلبيّة الرهبانيّة المريميّة المارونيّة.

17. كنّيت الرهبانيّة اللبنانيّة المارونيّة بالبلديّة لأنّها تحوي رهبانًا من البلاد.

18. لمزيد من التفصيل حول الأديار المزدوجة، يمكن مراجعة:MAHFOUD G.J., L’organisation monastique dans l’Eglise Maronite, Beyrouth 1967, pp. 289-315.

19. المجمع اللبنانيّ، (ترجمة المطران يوسف نجم)، القسم الرابع، الباب الثالث، عدد 20، ص 507.

20. راجع: الأب ابراهيم حرفوش، راهبات دير مار يوحنّا حراش، في المرجع ذاته، ص 71.

21. سمّي ديرهنّ باسم دير البشارة واتّخذن قوانين راهبات الزيارة تخليدًا لاسم مؤسّسي الدير: بشارة جفّال الخازن وزوجته زيارة.

22.  العددان 56 و57.

23. راجع: الأب بولس صفير، راهبات سيّدة الحقلة في مجلّة المنارة، السنة 31، العددان الثاني والثالث، 1990، ص 58.

24. Most Holy Trinity Monastery Petersham, MA

25. نرفق في ختام النصّ، ملحقًا تفصيليًا بإعداد الرهبان والراهبات في كلّ مؤسّسة مطلع العام 2004.

26. دستور المحبّة الكاملة، عدد 7.

27. ارشاد رسوليّ، في الحياة المكرّسة، فقرة 3.

28. تاريخ أصفياء الله، المقدّمة، 5. وفي آخر فصل من كتابه المدرج تحت عنوان “في المحبّة الإلهيّة“، يكتب قائلاً: “وكما أنّ العشّاق الجسديين يستمدّون من رؤية موضوع حبّهم ما يسحرهم ويزكي فيهم شوكة الجسد، كذلك أولئك الذين أصابتهم سهام المحبّة الإلهيّة والذين يتصوّرون بهاءها الصافي، يجعلون لذعات هذه المحبّة أكثر حدّة ويتحاشون الإرتواء، لرغبتهم في المزيد من الاستمتاع بها. في النهاية يشبع الإنسان من الملاذ الحسّيّة بينما المحبّة الإلهيّة لا تخضع لشرائع الارتواء”.

29. بين المخطوطات العديدة لمؤلّف البطريرك الدويهي “تاريخ الأزمنة“، هناك مخطوط في أرشيف الكرسيّ البطريركيّ في بكركي رقم 46، ترقيم قديم، ورقم 137، ترقيم جديد، ومخطوط آخر في مكتبة الفاتيكان رقمه 215، كان البطريرك الدويهي قد أرسله الى روما سنة 1680 ليطبع هناك. فبقي دون طباعة حتى السنوات الأخيرة، حيث قام بهذه المهمّة الأباتي بطرس فهد سنة 1976.

30. النسّاك البطاركة هم: ميخائيل الرزّي (1567-1581) سركيس الرزّي (1581-1596) ويوسف الرزّي (1596-1608).

31. هم الأب أنطونيوس شينا الذي دخل محبسة مار بولا – دير مار انطونيوس قزحيا في 30 ايار 1982، والأب يوحنّا الخوند الذي دخل محبسة مار أنطونيوس دير سيّدة طاميش في 17 كانون الثاني 1998، والثالث هو الأب داريّو اسكوبار، كولومبي الأصل، جاء ليعيش الروحانيّة المارونيّة في النسك، متأثّرًا بحياة القديس شربل، فدخل محبسة سيّدة حوقا في 15 آب 2000.

32. إعتبر الرهبان أنّ الفقير الواقف على الباب هو الله بالذات، يطرق متخفيًا بلباس الفقراء. راجع عظات يعقوب السروجيّ P.Bedjan 11, p. 832.

33. الأب ايرونيموس دنديني، رحلة الى جبل لبنان سنة 1596، تعريب الخوري يوسف يزبك العمشيتي، بيت شباب 1933، ص 55.

34. فهد الأباتي بطرس، تاريخ الرهبانيّة اللبنانيّة بفرعيها، الجزء الثالث، جونيه 1965، ص 277.

35. عرف بالقانون الأسود.

36. راجع: COUSSA R., Epitome Praelectionem de iure ecclesiastico orientale, vol.I (1984) p. 47, note 118; CHEDID C. (Mariamite), L’origine delle Costituzioni dell’Ordine Libanese Maronita, Roma 1866.

37. عرفت بالقانون الأحمر…

38. أثبت الكرسيّ الرسوليّ القوانين نفسها للرهبان الملكيّين الكاثوليك عام 1743، وللرهبان الكلدان، وللرهبان الأرمن الكاثوليك عام 1825. راجع:

  MAHFOUD G.J., l’organisation… o.c., pp. 15 et 16 et la note (30).

39. جاء في ديباجة المطران يوسف سمعان السمعانيّ الى الرهبان الأنطونيين ما يلي :”لمّا رسم (المجمع اللبنانيّ) من جملة الفرائض السينودسيّة انّ على الرهبان مواصلة الاهتمام بتثبيت قوانينهم من الكرسيّ الرسوليّ والكنيسة المقدّسة الرومانيّة…”، راجع: البعبداتي، الأباتي عمانوئيل، تاريخ الرهبانيّة الانطونيّة المارونيّة، 1992 (2)، ص 66.

40. المجمع اللبنانيّ، القسم الرابع، الباب الثاني، عدد 6.

41. راجع: القسم الأوّل، الباب الثاني، عدد 9.

42. راجع: القسم الرابع، الباب السادس، عدد 1.

43. يوحنا بولس الثاني، نور الشرق، 2 ايار 1995، عدد 9.

44 Leroy j., Moines et monastères du Proche-Orient, Paris 1957, p. 129.

45. إنطلقت مجلة كوكب البريّة من دير مار أشعيا سنة 1905 وتواصلت مع إطلالة العام 1911 بحلّة جديدة من دير مار أنطونيوس بعبدا حيث ركّزت المطبعة الأنطونيّة. لمزيد من التفاصيل راجع: الأب مارون الحايك، دير مار أنطونيوس بعبدا، بيروت 1999، ص 41-43.

46. رجاء جديد للبنان، عدد 54.

47. رجاء جديد للبنان، عدد 52.

48.  راجع: الأباتي عمّانوئيل بعبداتي، تاريخ الرهبانيّة الأنطونيّة، بيروت 1999، ص 114.

49. مجموعة قوانين الكنائس الشرقيّة، ق 412 البند 1، ق 555 وق 564.

50. مجموعة قوانين الكنائس الشرقيّة، ق 413.

51. راجع مثلاً: ق 1036 البند 2، العدد 3- وق. 1063 البند 3، العددان 3 و4 .

52. راجع ق. 416 .

53. الحياة المكرّسة، فقرة 29.

54. المرجع ذاته.

55. من قوانين الرهبانيّة الأنطونيّة الحديثة، المادة 229 البند 2.

56 .أنشأ سينودس أساقفة الكنيسة المارونيّة هذه الدائرة وأقرّ قانونها الأساسيّ في 16 حزيران سنة 2000.

57. عناوين من وثيقة “الإنطلاق مجددًا من المسيح” وقد أصدرها “مجمع مؤسّسات الحياة المكّرسة ومنّظمات الحياة الرسوليّة” سنة 2002، في الذكرى السنويّة الخامسة لصدور الإرشاد الرسوليّ “الحياة المكرّسة“.

58. مسوّدة الحياة المكرّسة، عدد 90.

59. رجاء جديد للبنان، الرقم 53.