حضور الكنيسة في النطاق البطريركي

مقدّمة

  1. “رسّخ، يا ربّ، كنيستنا المارونيّة في الأمانة للإنجيل حتى تواصل الشهادة لإرث الآباء والأجداد القديسين، وتكون في هذا الشرق، وفي العالم، علامة لعيش حضارة المحبّة في التلاقي والحوار”.

بهذه الصلاة عبّر مجمعنا البطريركيّ المارونيّ عن إحدى أبقى دعوات الكنيسة المارونيّة. فالعناية الإلهيّة قد شاءت لهذه الكنيسة حضورًا أصيلاً في النطاق الأنطاكيّ، ثم شاءت مصيرها مندرجًا في العالم العربيّ، حتى تبقى وفيّة لحضارة المحبّة عبر تعزيزها التلاقي والحوار مع جميع أبناء هذه البقعة من العالم، ولاسيّما مع المسلمين. والكنيسة المارونيّة، في دعوتها هذه، هي على تواصل أمين مع تعليم ربها وإلهها يسوع المسيح ومع تراثها الزاخر الذي أثراه آباؤها وشهداؤها وقديسوها منذ مارون الناسك، شفيعها ومرشدها الأصل، الذي تزيّنت باسمه لأنه كان “زينة في خورس القديسين الإلهيين”[1].

  1. إنّ كنيستنا تعي وتعلن، مع أخواتها الكنائس الكاثوليكيّة الشرقيّة، “بأنّ المسيحيّين في الشرق هم جزء لا ينفصل عن الهويّة الحضاريّة للمسلمين، كما أنّ المسلمين في الشرق هم جزء لا ينفصل عن الهويّة الحضاريّة للمسيحيين. ومن هذا المنطلق، فنحن مسؤولون بعضنا عن بعض أمام الله والتاريخ”[2].

وتدعو كنيستنا، مع شقيقاتها وشريكاتها في مجلس كنائس الشرق الأوسط، “مواطنينا المسلمين، الذين يشدّنا إليهم الإنتماء الوطنيّ الواحد، والأرض الواحدة، والهمّ الواحد، والمصير الواحد، لنواصل العمل معًا في حوار حياة من أجل مجتمع يحترم التنوّع، ويحقق المساواة، ويحافظ على الحريّات، ويصون كرامة الإنسان وحقوقه”[3].

اللقاء الطيّب بالإسلام والمسلمين في العالم العربيّ هو حقًا من صلب رسالة كنيستنا، ومن أبرز علامات حضورها في الشرق العربيّ. وهي، إذ تمارسه بالتناغم والتكامل مع الكنائس الأنطاكيّة الشقيقة وسائر كنائس الشرق الأوسط، لا بمعزل عنها أو على حسابها، تعي مع سائر الكنائس الكاثوليكيّة في الشرق بأنه يشكّل “جانبًا مميزًا أساسيًّا لهويّة كنائسنا ضمن الكنيسة الجامعة”[4].

  1. صحيح أنّ رسالة الكنيسة المارونيّة تخطّت اليوم نطاقها البطريركيّ التاريخيّ. فالمؤمنون الموارنة باتوا منتشرين في أربعة أقطار المعمور ومتجذرين في بيئات اجتماعيّة مختلفة كلّ الإختلاف عن البيئة الشرقيّة العربيّة. لكنّ كنيستنا المارونيّة كانت وستبقى “حاضرة” بمعنى روحيّ خاص في الحيّز البطريركيّ الأنطاكيّ التاريخيّ، لاسيّما وأنّ وجودها هناك هو عريق في القِدَم على الصعيدين الدينيّ والثقافيّ. “ويعني الحضور”، في المنظور الإيمانيّ، “أن نكون في وسط المجتمع الذي نعيش فيه علامة لحضور الله في عالمنا (…) ويقف الحضور بين نقيضين: الإنعزال والذوبان. وكلاهما شرّ قاتل. فالإنعزال يلغي رسالتنا، والذوبان يقضي على هويتنا. أمّا الحضور الأصيل، فهو ضمان لهذه وتلك”[5].
  2. إن تعمّق الكنيسة المارونيّة في وعي دعوتها مع الإسلام في الشرق العربيّ لا ينفصل عن اهتمامها بالتطلع إلى حوار مثمر مع إخوتنا اليهود، الحاضرين معنا في المحيط الشرقيّ، وأيضًا مع كلّ ذي إرادة صالحة من خارج الإيمان التوحيديّ، لأنّ “الحوار مع الله يعني الحوار مع أيّ إنسان أو أيّة جماعة مهما كانت الصعوبات والعقبات”[6]. لذا فإنّنا نقول للإخوة اليهود “إنّ الكتب المقدّسة تجمع بيننا، وكذلك مشاركتكم في الحضارة العربيّة في العصور الغابرة. ولهذا فإنّنا[…]نرى أنّ لكم مسؤوليّة في إعادة السلام والعدل والاستقرار في مجتمعاتنا[…] إنّنا ندعوكم إلى الإنفتاح على الشرق وتغيير نظرتكم إليه، بحيث تتمكنون من إيجاد مكانكم فيه على أسس جديدة”[7].

أما لذويّ الإرادة الصالحة، فإنّنا “نمدّ أيدينا…في تعاون إنسانيّ صادق ينبذ الزيف والخداع، علمًا بأنّ إيماننا المسيحيّ يحملنا على ألا نرى في أيّ إنسان عدوًا، بل أخًا نسير معه في الحوار وتبادل الخبرات في سبيل الخير العام”[8].

دعوة الكنيسة المارونيّة في علاقتها بالإسلام في العالم العربيّ

  1. إنّ الحقبات التمهيديّة لنشوء كنيستنا في الحيّز الأنطاكيّ تعود الى ما قبل الإسلام، وبداياتها البطريركيّة إلى عصر يكاد يتزامن مع نشوء الإسلام. وأوّل من أخذ هذا التزامن المارونيّ-الإسلاميّ الطويل باعتبار كامل هو البطريرك المارونيّ مار اسطفانوس بطرس الدويهي في كتابه “تاريخ الأزمنة”. ففي معرض إبرازه للذاتيّة المارونيّة المتحركة بين قطبين، الأمانة لمارون والأمانة للسدّة البطرسيّة الرومانيّة، وجد الدويهي نفسه، في هذا الكتاب، معنيًّا بالتاريخ الإسلاميّ بشكل مباشر، ولكن دون أن ينتمي إليه. وقد كتب عن الإسلام والمسلمين بموضوعية تامة رغم عدم جهله الخصام الذي كان قائمًا آنذاك بين المسيحيّة والإسلام، أو التعاطف الطبيعيّ الذي كان يجمع بين الموارنة والغرب المسيحيّ في تلك الأزمنة التي لم تكن تميّز بين الدينيّ والزمنيّ.
  2. إنّ نظرة صافية إلى حاضر العلاقة المارونيّة-الإسلاميّة ومستقبلها تلزمنا القيام بقراءة متأنية وصريحة لخبرة الماضي المارونيّ-الإسلاميّ في الشرق الأنطاكيّ، الذي عرف “أيّام عز وأيّام بؤس[9]. والهدف الأوّل من هذه القراءة هو الوصول إلى “تطهير حقيقيّ للذاكرات والضمائر”[10] عبر ممارسة النقد الذاتيّ، والتماس المغفرة من الآخر عند حصول انتهاك لكرامة الأفراد والجماعات، وذلك بغية إقصاء كلّ حقد مترسّب من موروث الماضي إن في نفوس الأفراد أو في الوجدان الجماعيّ. ويقدّم لنا الدويهي نموذجًا يحتذى به في هذا المجال عبر قراءته الرصينة والموضوعيّة لجزء من التاريخ المارونيّ في علاقته بالتاريخ الإسلاميّ.
  3.  لن نستخرج، من قراءتنا لماضي علاقتنا المترجرجة مع المسلمين، سوى بعض ثوابت تعيننا على الإحاطة بذاكرتنا التاريخيّة في سلبياتها وإيجابياتها على رجاء تطهيرها. وفي هذه العمليّة الدقيقة واللازمة، نودّ على الدوام استدعاء عون الروح القدس حتى نكون أمناء للحقيقة من دون أن نقع فريسة التجنيّ على الآخرين أو الإغراق في الملاومة الذاتيّة. فالواقع هو أنّ تطهير الذاكرة هو بهدف تحريرها، لا تبكيتها، وهو الأساس المتين لإنطلاقة جديدة نحو بناء السلام الحقيقيّ، وطاعة متجددة لبهاء الحقيقة ولاحترام كرامة الآخرين وحقوقهم. ويشرح قداسة البابا يوحنّا بولس الثاني هذه النقطة قائلاً: “إنّ الكنيسة لا تخشى الحقيقة التي تنبثق من التاريخ، وهي مستعدّة للإقرار بالأخطاء حيثما يتمّ التعرّف عليها، لاسيّما إذا مسّت الاحترام الواجب للأفراد والجماعات (…) وتثق الكنيسة، عند التحقيق في أحداث الماضي، بإعادة إستحضار متأنية، ومستقيمة، وعلميّة، ومنزّهة عن الأفكار المسبقة الطائفيّة أو الأيديولوجيّة، إن لجهة الإتهامات المساقة ضدّها أو لجهة الإساءات التي كابدتها”[11].

أوّلاً: خبرة الماضي المارونيّ الإسلاميّ في ضوء ثوابت التاريخ

  1. مرّت العلاقة المارونيّة الإسلامية عبر التاريخ بفترات صدام وازنتها فترات انفراج. فانكفاء بعض الشعب المارونيّ عن بيوته وسهوله الخصبة في سورية الثانية إلى جبال لبنان الوعرة كان، في منحى كبير منه، هربًا من وضعيّة دونيّة في ظل الحكم الإسلاميّ الناشئ لا محل فيها لحريّة كاملة في عيش الإيمان المسيحيّ. صحيح أنّ نظام الذمّة الإسلاميّ كان تسامحيًّا نسبة إلى معايير عصره، إلاّ أنّ التاريخ أثبت أنّه أنتج مفاعيل موهنة، ومذّلة، ومفنية للمسيحيين على الصعيدين الدينيّ والاجتماعيّ في المدى الطويل.
  2. رغم مقاومة الموارنة للجيوش الأمويّة إبّان الحقبة المردائيّة قبل انكفائهم إلى جبال لبنان، كان العهد الأمويّ، إلى حدّ كبير، رفوقًا بالمسيحيّين. فمقابل نفي السلطات الأمويّة لبعض الأساقفة، كإيليا اليبرودي، وقطع لسان البطرك الملكانيّ اسطفانوس الثالث، تسرد لنا التواريخ بناء الخليفة معاوية لكنيسة الرها الكبرى على نفقته بعد أن دمّرها الزلزال، وترددًا للخلفاء الأمويّين على أديرة مارونيّة، وبروزًا لبعض الموارنة، كثيوفيلوس بن توما، في البلاطين الاموي والعباسيّ. ومقابل ثورة المنيطرة وتنكيل الحاكم العباسيّ صالح بن علي بالثوار، ومحاولة إجلائهم من جبل لبنان، يبرز موقف الإمام الأوزاعيّ، البعلبكيّ، مناهضًا للحاكم ومتمّيزًا بعدله وجرأته. وفي العصر الصليبيّ، حيث التعاطف واضح بين الموارنة والفرنجة، برزت في ما بين الموارنة وبعض المنقطعين من المسلمين موّدة لافتة وصفها الرحّالة ابن جبير بهذه الكلمات: “ومن العجب أنّ النصارى المجاورين لجبل لبنان، إذ رأوا بعض المنقطعين من المسلميّن، جلبوا لهم القوت وأحسنوا إليهم، ويقولون: هؤلاء ممن انقطع إلى الله عزّ وجلّ، فتجب مشاركتهم”[12].
  3. في مرحلة العصور المملوكيّة، غلبت على العلاقة المارونيّة-الإسلاميّة حالات القهر والاضطهاد، لاسيّما في الفترة الواقعة بين 1267 و1367، التي كانت قرن البلايا على الموارنة. ففي سنة 1283، دمرت إهدن وبقوفا وحدث الجبّة، وذبح الموارنة اللاجئون إلى الكنيسة في حصرون وكفرسارون، وحصلت مجزرتا عاصي الحدث وقلعة حوقا[13]. واضطر الموارنة إلى الهرب بأعداد كبيرة إلى جزيرتي قبرص ورودس بعد اندحار الفرنجة النهائيّ. ودمّرت منطقة كسروان عام 1305 بعد تهجير سكانها، وأحرق البطريرك المارونيّ جبرائيل حجولا حيًّا عند جامع طيلان في طرابلس سنة 1367. مقابل هذه الويلات، يورد البطريرك الدويهي أنّ السلطان المملوكيّ الظاهر برقوق وجد يومًا في بشري متدروشًا ومتخفيًا، فاستقبله رهبان دير قنوبين وأحسنوا وفادته. واذ اعجب بسيرة الرهبان الطيّبة، فقد منح الدير براءة على صفيحة من نحاس يعفيه بموجبها من دفع الأموال الأميريّة ويعطيه التقدّم على ما يحيط به من أديار.
  4. وبقيت العلاقة المارونيّة-الإسلاميّة متأرجحة في الحقبة العثمانيّة. وتعرّض الموارنة، في هذه الفترة الطويلة من تاريخهم، لشّتى الانتكاسات المريعة، كفتن 1840-1860، التي أدّت الى أبشع المجازر بحقّ المسيحيّين في لبنان وسورية. وقد أسهم الجور التركيّ أثناء الحرب العالميّة الأولى، مضافًا إلى المجاعة، في إفناء ثلث الموارنة تقريبًا. وتعرض المسيحيّون الآخرون، كالآشوريين والأرمن، لمجازر رهيبة على يد بعض المسلمين في نهايات القرن التاسع عشر ومطالع القرن العشرين. ولئن حدثت أيضًا مجازر أخرى لا تقل هولاً ذهب ضحيتها مسلمون على يد مسلمين، كالأكراد على يدّ الأتراك، فإنّ بشاعة المجازر بحقّ المسيحيّين هي التي حفرت هوّة عميقة بين الوجدانيين الجماعيين المسيحيّ والإسلامي. ثمّ جاءت الحرب اللبنانيّة الأخيرة في الفترة الحديثة (1975-1990)، مع كلّ ويلاتها ومجازرها المنكرة، لتضع على المحك مصير التجربة الوفاقيّة اللبنانيّة، التي يرى فيها كثيرون التلاقي الأنجح بين المسيحيّة والإسلام في الشرق العربيّ، وربما أيضًا على مستوى العالم الأرحب.
  5. وفي هذا الصدد، فإنّ الكنيسة المارونيّة كانت قد اعترفت، على لسان راعيها الأوّل، غبطة أبينا البطريرك مار نصر الله بطرس صفير، بأنّ بعضًا من أبنائها، خلال الحرب اللبنانيّة الأخيرة، قد أساؤوا إلى إخوة لهم مسلمين تحت وطأة الخوف، أو الحقد، أو التعرض لإساءات مماثلة من الشريك المسلم. فقد قال غبطته عام 1992: “وإذا كانت قد مرّت على كنائسنا فترات مرّت على وطننا بكامله، حصلت فيها أزمات وصدامات ولم نحسن نحن وأبناؤنا فيها تأدية شهادة المحبّة على أبهى وجه، واشتدّ الضيق فيها على جميع الناس فأخرجهم عن الطريق التي رسمتها لهم تعاليمهم الدينيّة، وإذا كان قد وقع في لبنان اقتتال بين الأخوة في هذا الجانب أو ذاك، فيجب أن يكون ذلك مدعاة إلى العودة إلى الله وإلى الذات وإلى القريب بتوبة صادقة وكفّارة ناجحة لتصحيح المسيرة وتقويم الإعوجاج”. وتابع غبطته يناشد الجميع، مسيحيين ومسلمين، “العمل على تصفية النيّات، وغسل القلوب، وإجراء مصالحة شاملة، وعقد الخناصر على إعادة البناء بشرًا وحجرًا”[14].
  6. وسيكون من دواعي رضى كنيستنا، تعزيزًا للوئام المسيحيّ الإسلاميّ، أن نسمع أيضًا، من جهة المسلمين، اعترافًا صادقًا بالأخطاء الماضية التي ارتكبت بحقّ إخوتهم المسيحيّين في الشرق العربيّ عبر التاريخ، فيكتمل تطهير الذاكرة عند الجميع، ولا تبقى اعترافات كنيستنا من جانب واحد، ولا يساء فهمها بحيث يتعاظم الإجحاف في حقّ أبنائها. ورجاؤنا هو أن يعي المسلمون أنّ الموارنة بخاصة، والمسيحيّين بعامّة، مرهقون بمآسي الاضطهاد التي كابدوها، حتى ولو لم يكفّوا عن التحلّي بالجرأة الرسوليّة الانفتاحيّة رغم كلّ ما حلّ بهم.
  7. وبالعودة إلى المراجعة التاريخيّة، نلاحظ أنّ الحقبتين العثمانيّة والحديثة في الشرق قد اتسمتا أيضًا بوجه مشرق في مسار كنيستنا. ففي زمن بني عثمان بدأت طلائع نهضة مارونيّة ثقافيّة كبيرة بفضل انفتاح كنيستنا على النهضة الإيطاليّة عبر المدرسة المارونيّة في روما، التي أسّسها البابا غريغوريوس الثالث عشر عام 1584. وحيث إنّ الكنيسة المارونيّة كانت قد قطعت شوطًا بعيدًا في التعرّب التدريجيّ الطوعيّ[15]، فقد غدت المدرسة المارونيّة في روما منطلق النهضة العربيّة الأولى على يدّ تلامذة هذه المدرسة. وتألّق هؤلاء في شتّى العلوم، حتى قيل في الغرب: “عالم كماروني”. وساهم تلامذة المدرسة المارونيّة في تعزيز علم الإستشراق في أوروبا، وفي وضع الكتاب المقدّس المتعدّد اللغات، ومنها السريانيّة والعربيّة، من 1628 إلى 1645 (الصهيونيّ، شلق، الحاقلانيّ). وادخلوا الطباعة العربيّة والسريانيّة إلى مطبعة آل مديتشي في توسكانا (يعقوب بن هلال، 1590 – 1594)، ودرّسوا العربيّة في كبريات الجامعات الأوروبيّة، وضبطوا المخطوطات الشرقيّة في روما ومدريد وفهرسوها (حوا، السمعانيّ، الغزيريّ)، ثم ترجموا هذه المخطوطات إلى اللاتينيّة (السمعانيّ في مصنفه الشهير “المكتبة الشرقيّة”)[16].
  8. وتبعت هذه النهضة العربيّة في أوروبا على يدّ الموارنة نهضة مماثلة في جبل لبنان المارونيّ. ففي سنة 1610، استقدمت أوّل مطبعة في الشرق إلى دير مار أنطونيوس – قزحيّا المارونيّ، وطبع فيها كتاب المزامير بالسريانيّة وكذلك باللغة العربيّة، ولكن بالحرف السريانيّ، لأنّ قلة من الموارنة آنذاك كانوا يقرأون الحرف العربيّ[17]. ولم تنتشر صناعة الكتاب العربيّ، لغة وحرفًا، إلاّ ابتداء من العام 1734، مع قدوم أوّل مطبعة بالحرف العربيّ إلى دير مار يوحنّا الصابغ في الخنشارة بمسعى مشترك من الأب اليسوعي بطرس فروماج والشمّاس الملكانيّ الكاثوليكيّ عبدالله الزاخر. وطالب المجمع اللبنانيّ، المنعقد عام 1736، بتعميم التعليم الشعبيّ المجانيّ وتعليم البنات، وهي بادرة سبّاقة حتى بالنسبة إلى أوروبا نفسها. وأسّس أبناؤنا العائدون من روما، لهذه الغاية، أولى المدارس على النمط الغربيّ، حيث يتم تعليم التاريخ والجغرافيا والحساب والطبيعيات والغراماطيق والمنطق والفلسفة والبلاغة واللغات القديمة والحديثة إلى جانب التلقين الدينيّ. كما أسّسوا أوّل معهد للتعليم العالي في مدرسة عين ورقة (1789)، حيث درّست لغات أربع هي العربيّة والسريانيّة واللاتينيّة والإيطاليّة، وأضيفت إليها لاحقًا لغة خامسة هي الفرنسيّة.
    1.  وفوق ذلك كلّه، قام الموارنة بترجمة جميع المصنفات اللاهوتيّة والفلسفيّة والدينيّة المهمّة من اللاتينيّة إلى العربيّة. وهكذا ترجم بطرس التولاويّ جلّ الفلسفة التومائيّة، أيّ فلسفة أرسطو كما راجعها الأكوينيّ. ووضع المارونيّ الحلبيّ أبو المواهب يعقوب بن نعمة الله بن ابي الغيث بطرس الدبسي ترجمة عربيّة بليغة للإنجيل تحت عنوان “الإنجيل الشريف الطاهر والمصباح المنير الزاهر”، وكذلك ترجمة لكتاب “الإقتداء بالمسيح” للراهب الهولندي توما الكمبيسي. ووضع يوسف الباني ترجمة كاملة لتفسير اليسوعيّ الهولنديّ كورنيليوس آلا بيده، أو كورنيليوس الحجريّ، للكتاب المقدّس، وهو من خمسة آلاف صفحة، إضافة الى تراجم عديدة أخرى منها كتاب “طريق الكمال” للقديسة تيريزا الأفيليّة. لكنّ الرائد المارونيّ الأهمّ في النهضة العربيّة يبقى أسقف حلب جرمانوس فرحات (1670-1732). فهو الذي أدخل اللغة العربيّة إلى الوجدان الشعبيّ المارونيّ عندما وضع أوّل كتاب قواعد في اللغة العربيّة، “بحث المطالب”، مستندًا بالكليّة في أمثلته إلى الإنجيل المقدّس. وألّف فرحات كتابًا في علم الأسلوب الكتابيّ العربيّ، ودواوين شعر دينيّة الوحي، وكتابًا دفاعيًّا عن المسيحيّة، فكان الساعي الأكبر إلى مؤالفة الإيمان المسيحيّ بالثقافة العربيّة. وكانت له، أخيرًا، اليدّ الطولى في تعريب أجزاء كبيرة من الليتورجيا المارونيّة عن السريانيّة.
    2. مهّدت هذه النهضة المارونيّة الواسعة الطريق أمام عصر النهضة المعروف في العالم العربيّ، وهو الذي ابتدأ مع حملة بونابرت إلى مصر عام 1798. وساهم الموارنة، والمسيحيّون عمومًا، مساهمة رائدة في هذا الشق الثاني من النهضة، فأسسوا في مصر الصحافة العربيّة، والمسرح العربيّ، وأدب الرواية التاريخيّة، والشعر الحرّ، والسينما. كما أطلقوا الصناعات والبنوك، فكان لهم دور رائد في تعزيز الاقتصاد المصري.
    3. ساهم الموارنة إذًا مساهمة حاسمة في النهضة الثقافيّة العربيّة وفي ربط العالم العربي بالحداثة، فتوثّقت العرى بين الكنيسة المارونيّة والحضارة العربيّة. ثم حصلت، على أرض لبنان تحديدًا، سلسلة من النهضات السياسيّة والاجتماعيّة اللافتة التي كان لها أبعد الأثر الإيجابيّ على العلاقة المسيحيّة الإسلاميّة في المطلق. فبعد أن تنظّم الكيان الكنسيّ المارونيّ على أسس ثابتة تبلورت في المجمع اللبنانيّ (1736)، تكوّن للموارنة في لبنان، مع الإمارة المعنيّة، كيان سياسيّ شراكيّ جيّد مع الدروز بالتوازي مع كيانهم الكنسيّ. وحصلت منذ عهد الامارة الشهابيّة مفارقة نادرة في تاريخ العلاقات المسيحيّة الإسلاميّة تمثّلت في التحوّل السلميّ للكثير من العائلات السنيّة والشيعيّة والدرزيّة إلى المسيحيّة. ثم نشأ من جرّاء ذلك، في عهد المتصرفيّة، ولاسيّما مع قيام دولة لبنان الكبير، مجتمع مدني مؤسّس على الحريّات العامّة، متعدد الفئات الدينيّة، فنمت الكنيسة المارونيّة، وسائر الكنائس الأخرى في لبنان، ضمن إستقلاليّة سلطة الدولة عن الشرعين الإسلاميّ والمسيحيّ، وهو إنجاز تاريخيّ في العالم العربي. ولعب البطريرك المارونيّ مار الياس بطرس الحويّك دورًا تاريخيًا في قيام النموذج الشراكيّ التوافقيّ الحرّ بين المسيحيّين والمسلمين ضمن دولة لبنان الكبير[18]. وما زالت كلمته الشهيرة التالية حيّة في الأذهان: “لقد اشتغلت دائمًا للسلام بقولي وعملي. ومع أني بطرك الموارنة، فقد انتدبني أبناء لبنان كلّهم لأطلب لهم إستقلال بلادهم. إذًا أنا لكلّ واحد منهم لا للموارنة فقط”[19].
    4. توّجت هذه السلسلة من النهضات الثقافيّة والسياسيّة والاجتماعيّة بقيام دولة لبنان المستقل. وقامت هذه الدولة على ميثاق عيش مشترك بين مسيحييها ومسلميها دعي “الميثاق الوطنيّ”. وكان عنوان هذا الميثاق الحريّة الكاملة للمواطنين الأفراد والشراكة التعدديّة التضامنيّة بين عائلات لبنان الدينيّة. وهكذا أضحى لبنان، بنظامه التوافقي الحرّ، الأبن البكر للتلاقي المنشود بين المسيحيّة والإسلام في الشرق، بل وفي العالم. وهذا ما دفع قداسة البابا يوحنّا بولس الثاني إلى المجاهرة بهذه الشهادة الرائعة في قيمة لبنان الفريدة: “إن لبنان هو أكثر من وطن: إنّه رسالة حريّة ونموذج تعدديّة للشرق كما للغرب”[20].
    5. مع قيام الكيان اللبنانيّ الحرّ التعدديّ، دخل الموارنة في عهد جديد من تاريخ المسيحيّين والمسلمين، عهدٍ “تجاوز علاقة تصادميّة بين الإسلام والمسيحيّة عمرها فوق الألف سنة”[21]، عهدٍ هم اختاروه بتصميمهم ومسعاهم والتزموا به من أجل بناء نموذج لوطنٍ دعوته الحريّة في الحقيقة.
    6. إنّ النموذج الشراكيّ المسيحيّ – الإسلاميّ في لبنان هو تحوّل تاريخيّ للعلاقة المسيحيّة الإسلاميّة في المطلق. فقد نقلها من التوتّر وعدم التكافؤ إلى التوافق والمساواة. وكان لكنيستنا المارونيّة دور حاسم في إرساء هذا النموذج. وسيبقى دورها مصيريًّا في صيانته من العثرات.
    7. النموذج اللبنانيّ قائم على شراكتين بين مسيحيّيه ومسلميه: شراكة الثقافة وشراكة المصير. الأولى عمادها الالتزام بمركزيّة اللغة العربيّة، والثانية قوامها الالتزام بنهائيّة الوطن اللبنانيّ.

وتعني الشراكة الأولى، إذا ما تخطينا النظر إليها حصرًا في إطارها الوطنيّ اللبنانيّ لنلج إلى مقاصدها النهائيّة، أنّ التزام المسيحيّين مع المسلمين باللغة العربيّة، أبعد من كونه دفاعًا عنها ضدّ شتّى الإزدواجيّات إزاء اللهجات المحليّة، إنّما هو التزام بتحديثها الدائم استنادًا إلى جذورها الحضاريّة بين السريانيّة واليونانيّة، وإلى تفاعلها مع اللغات الثقافيّة الحيّة المولدة للحداثة. بكلام آخر، تفيد هذه الشراكة في الحقيقة، بالنسبة إلى الموارنة، إلتزامهم الشامل بتعزيز الثقافة العربيّة بين الحداثة والأصالة.

أمّا شراكة المصير، أيضًا بالنظر إلى مراميها النهائيّة، فمؤدّاها أنّ إلتزام المسيحيّين والمسلمين بنهائيّة الحيّز الوطنيّ اللبنانيّ، أبعد من كونه رفضًا قاطعًا للقائلين بالوطن القوميّ المسيحيّ أو بالدولة الإسلاميّة، إنّما هو، في حقيقته، التزام بتأسيس الوطن اللبنانيّ على مفاهيم الكرامة الإنسانيّة، وحقوق الإنسان الشخص، وحقوق الجماعات، كما فهمتها الأسرة البشريّة بوضوح منذ الإعلان العميم لحقوق الإنسان، الصادر عام 1948، وأقرتها في الإتفاقيّات الدوليّة الملزمة المنبثقة منه. بكلام آخر، تفيد هذه الشراكة في الحقيقة، بالنسبة إلى المسلمين، رفضهم النهائيّ لمقولة الأقليّة وللأحكام التسامحيّة في الذمّة.

  1. إذا تابعنا قراءة ثوابت التاريخ الماضي في دول عربيّة غير لبنان، نجد أنّ العلاقة المسيحيّة الإسلاميّة خضعت لتطورات متفاوتة تختلف عن تطورها في لبنان. والتفاوت بين بلدان الشرق العربيّ إزاء تعزيز التعايش المسيحيّ الإسلاميّ معروف عبر التاريخ، ومن أوضح سماته أن أوضاع الأقليات المسيحيّة في هذه البلدان ذات الأكثريّة الإسلاميّة تقلبت بين تمتعهم بحقوق العبادة، ولكن دون مساواتهم في سائر الحقوق، مرورًا بحرمانهم من إقامة أمكنة عبادة لهم يؤدّون فيها واجباتهم الدينيّة للباري تعالى، وصولاً إلى ترحيلهم قسرًا من ديارهم. إنّ الصراحة تقضي بأن نعترف بوجود وقائع كهذه حتى اليوم، كما يشير قداسة البابا يوحنّا بولس الثاني بنفسه إلى ذلك قائلاً: “كم من نداء ورد إلى الكرسيّ الرسوليّ مندّدًا بأوضاع يتعرّض فيها المسيحيّون على الأخص لأوجه من التمييز الصارخ وغير المبرّر، أكان ذلك في الشرق الأوسط أو في أفريقيا. فثّمة بلدان، مثلاً، ديانتها الغالبة هي الإسلام ولا يتاح للمسيحيين فيها، حتى اليوم، ولو بمكان واحد للعبادة. وفي حالات أخرى، لا يستطيعون المشاركة في الحياة السياسية للبلد كمواطنين كاملي المواطنيّة. وفي حالات أخرى أيضًا، ينصحونهم، بكل بساطة، بالرحيل. لذا فإنني أناشد جميع المسؤولين في البلاد التي خاضت تجربة الحوار المجدية بين الأديان أن يتصدوا لهذه المسألة بجديّة وواقعيّة. فالأمر يتعلق باحترام ضمير الشخص الإنسانيّ، والسلم المدنيّ، ومصداقية المعاهدات الدوليّة”[22].
  2. بناء على ما تقدّم، يرى المجمع البطريركيّ المارونيّ أنّ ثمّة حاجة ملحّة الى إطلاق حوار مسيحيّ إسلاميّ صريح على مستوى المنطقة العربيّة اليوم من أجل معرفة أسباب التفاوت بين بلدانها في رعاية التعايش المسيحيّ الإسلاميّ والعمل على تعزيز طيّب هذا التعايش.
  3. مقابل هذه الجوانب المقلقة، يجدر بنا ألا ننسى المعالم المشرقة والمشّجعة في تاريخ العلاقات بين الموارنة والمسلمين خارج لبنان. وأحد هذه المعالم هو زيارة البطريرك المارونيّ مار بولس بطرس مسعد الشهيرة للسلطان العثمانيّ عبد العزيز في الأستانة عام 1869. وقد استفاد غبطته من هذا اللقاء ليطلب إعفاء المسلمين اللبنانيّين من الخدمة العسكريّة في الجيش العثمانيّ أسوة بمواطنيهم المسيحيّين، فتأثر السلطان بحكمة البطريرك ولباقته، وأجابه إلى طلبه[23].
  4. وثمّة علاقة وطيدة وقديمة العهد بين البطريركيّة المارونيّة والسلالة الهاشميّة في المملكة الأردنيّة. وكانت لهذه الأخيرة بادرة انفتاح طيّبة تجاه الأولى عندما قدمت للنيابة البطريركيّة قطعة أرض في عمّان، فبنيت عليها كنيسة مار شربل المارونيّة وإلى جانبها بيت للرعيّة ومدرسة. ومن الثابت أيضًا أنّ العديد من الدول العربيّة الإسلاميّة يهتم منذ عهد بعيد بأمر الموارنة، ويستضيفهم للعمل في ربوعه بترحاب وتفضيل كبيرين، لاسيّما في بلدان شبه الجزيرة العربية، حتى أن ثمة من تمنّى في السابق أن تعيّن البطريركيّة المارونيّة مبعوثًا رسميًا دائمًا من قِبَلها لدى الدول العربيّة التي لا أبرشيات مارونيّة فيها. وقد تحقّق شيء من هذه الأمنية منذ فترة وجيزة مع تعيين وكيل بطريركيّ للموارنة في الكويت والخليج العربيّ. أخيرًا يجب ألا ننسى الحقّ الذي يتمتّع به مسيحيو سورية والعراق في تشييد أماكن عبادة خاصّة بهم دون قيود. كذلك، فإنّ الدولة السورية تعترف لرؤساء الطوائف المسيحيّة في أراضيها بجملة من الحقوق الموروثة عن الحقبة العثمانيّة، وتعفي أماكن العبادة المسيحيّة من الضرائب.
  5. إنّ مراجعة السلبيّات والإيجابيّات في عمق الذاكرة التاريخيّة لعلاقات المسيحيّين والمسلمين في الشرق العربي تزيد الكنيسة المارونيّة إيمانًا بأنّ طريق الإخاء بين المسيحيّة والإسلام مفتوح أمام أبنائهما، وسيكون على مدّ آمالهما وقدّ عزائمهما. وتاريخ منطقتنا خير شاهد ومعلّم على أنّ المفاهمة بين الدينين الكبيرين قابلة للنجاح في نطاقنا الأنطاكيّ العربيّ كلّما خلصت النوايا وانعقدت الإرادات على الانفتاح والتعاون.

ثانيًا: حاضر العلاقات المسيحيّة الإسلاميّة ضمن النطاق الأنطاكيّ في المنظور المارونيّ من حيث الحقائق والمتطلبات والمعوّقات

  1. نعيش اليوم مرحلة تاريخيّة جديدة عنوانها الانفتاح المطّرد للشعوب والأوطان والثقافات في ما بينها، وذلك بفضل وسائل الاتصالات الحديثة التي شبكت البشر بعضًا ببعض، واختصرت المسافات الفاصلة بينهم، وأتاحت تبادلاً حرًا للسلع والأفكار والأشخاص على مدّ الكوكب الأرضيّ. كما إننا نعيش، على المستوى الكنسيّ، زمن نعمة متجدّدة منذ المجمع المسكونيّ الفاتيكانيّ الثاني (1962- 1965)، وهو أوّل مجمع كنسيّ على الإطلاق ينفتح على المسلمين ويتناولهم في نصوصه، خاصًا إيّاهم بعبارات التقدير.

1. الحقائق الجديدة في العلاقات المسيحيّة الإسلاميّة المعاصرة ضمن النطاق الأنطاكيّ

  1. مع المجمع الفاتيكانيّ الثاني، نشأت في الكنيسة الجامعة نظرة رسميّة إيجابيّة إلى الإسلام والمسلمين، وبدأت الفكفكة التدريجيّة لصورة الاسلام السلبيّة كما تراكمت عبر العصور. وصدر عن المجمع إعلان Nostra Aetate (في عصرنا) التاريخيّ، الذي يرسم جوهر علاقة الكنيسة بالأديان غير المسيحيّة. يقول المقطع الثالث من هذه الوثيقة:

“تنظر الكنيسة […] بتقدير إلى المسلمين الذين يعبدون الله الواحد، الحيّ القيّوم، الرحمن القدير، خالق السماء والأرض ومكلّم البشر، والذين يجتهدون من صميم روحهم في الخضوع لأحكام الله… وهم، وإن لم يعترفوا بيسوع إلهًا، إلاّ أنّهم يوقرّونه نبيًّا، ويكرّمون أمّه العذراء مريم، بل ويبتهلون إليها أحيانًا بورع. فضلاً عن ذلك، ينتظرون يوم الدين… من أجل هذا يقيمون وزنًا للحياة الأخلاقيّة، ويتعبدون لله، لاسيّما بالصلاة والزكاة والصوم.

 واذا كانت قد نشأت على مرّ العصور منازعات وعداوات كثيرة بين المسيحيّين والمسلمين، فالمجمع المقدّس يحضّ الجميع على أن ينسوا الماضي، وينصرفوا بإخلاص إلى التفاهم المتبادل، ويصونوا ويعززوا معًا العدالة الاجتماعيّة، والخيرات الأخلاقيّة، والسلام والحريّة، لفائدة جميع الناس”[24].

  1. إلى ذلك، فإن الدستور العقائديّ المجمعيّ “نور الأمم” وضع المسلمين في مقام الصدارة بين هؤلاء الذين يعترفون بالخالق ويعبدون الإله الواحد عندما قال، في المقطع السادس عشر: “إن تدبير الخلاص يشمل أيضًا أولئك الذين يعترفون بالخالق، وأوّلهم المسلمون”[25]. وهكذا أحلّت الكنيسة الإسلام في مكانة متقدمة بين الأديان التوحيديّة غير البيبليّة، وأقرت، من جهة أخرى، بخلاص الإنسان المسلم بيسوع المسيح في خارج الانتماء المباشر إلى الكنيسة الكاثوليكيّة.
  2. والجدير بالذكر هو “أنّ السبب الأساسي لالتزام الكنيسة بالحوار [مع الأديان الأخرى، ومن بينها الإسلام] ليس انثروبولوجيًا فحسب، بل هو لاهوتي أيضًا”، كما تقول وثيقة هامّة صدرت عن المجلس الحبري للحوار بين الأديان ومجمع تبشير الشعوب عام 1991 تحت عنوان “حوار وبشارة”.”فالله”، كما تضيف هذه الوثيقة، “قد أنعم وما فتئ ينعم على البشريّة بالخلاص، وذلك في حوار دائم دوام الدهور. لذا فإنّ الكنيسة ملزمة، في أمانة للمبادرة الإلهيّة، بالدخول في حوار خلاصي مع الجميع”[26].
  3. تعلّق الكنيسة إذًا أهمية كبيرة على الحوار مع الديانات الأخرى، وتبذل في سبيله نشاطًا مكثّفًا من خلال المجلس الحبري للحوار مع الأديان. وقد أنشأ الكرسيّ الرسوليّ، عام 1974، لجنة رسميّة تابعة للمجلس الحبري للحوار مهمتها حصرًا تعزيز العلاقات الدينيّة مع المسلمين. وتعمل هذه اللجنة على ترسيخ التفاهم بين الديانتين في المسائل التي تحظى باهتمامهما المشترك، كالسلام والعدالة والحريّة وتوطيد حقوق الإنسان. وكنيستنا المارونيّة ممثلة في المجلس كما في اللجنة، وترفدهما بشهادتها الناصعة وبخبرتها التاريخيّة الطويلة في نسج الأواصر الطيبة مع المسلمين.
  4. أمّا في الشرق العربي حصرًا، فقد حرص البابا يوحنا بولس الثاني على القيام بسلسلة من المبادرات الخاصة تجاه المسلمين. فقام بزيارة لدولة المغرب، موجّهًا إلى ثمانين ألفًا من الشابات والشبان المسلمين المغاربة، عام 1985، خطابًا تاريخيًّا ذهب رأسًا إلى القلوب. ثم زار مقام الأزهر في القاهرة يوم الرابع والعشرين من شباط 2000، ولقي من الحفاوة في استقباله ما جعل الطرفين يعتمدان هذا التاريخ موعدًا سنويًا للقاء هيئتي الحوار التابعة لكلّ منهما. ثم كانت زيارته التاريخيّة للمسجد الأمويّ الكبير في دمشق يوم السادس من أيار 2001، وهو أوّل مسجد يزوره حبر أعظم على الإطلاق. وكانت قد سبقت هاتين المبادرتين دعوة قداسته ممثلين عن الطوائف الإسلاميّة الأساسيّة الثلاث في لبنان إلى حضور الجمعيّة الخاصّة من أجل لبنان لسينودس الأساقفة الكاثوليك عام 1995 بصفة مراقبين أخويين.
    1. وفي ختام هذه الجمعيّة الخاصّة، أصدر الحبر الأعظم الراحل إرشاده الرسوليّ “رجاء جديد للبنان” في العاشر من أيار 1997، وفيه دعوة حارة إلى الحوار المسيحيّ الإسلاميّ، لا في لبنان فحسب، بل في الشرق العربيّ أيضًا، وهذا ملزم بالطبع لكنيستنا. يقول قداسته في هذا الصدد: “إنّ الكنيسة الكاثوليكيّة، إذ هي منفتحة على الحوار والتعاون مع المسلمين في لبنان، تريد أيضًا أن تكون منفتحة على الحوار والتعاون مع مسلمي سائر البلدان العربيّة”. بناء على ذلك، يشدّد قداسته، بالنسبة إلى مسيحييّ لبنان، “على ضرورة المحافظة على علاقتهم التضامنيّة مع العالم العربيّ وتوثيقها… [وعلى] أن يقيموا، بالتفاهم مع سائر مسيحييّ البلدان العربيّة، حوارًا أصيلاً وعميقًا مع المؤمنين المسلمين”، آملاً أن “يستطيع الحوار والتعاون بين المسيحيّين والمسلمين في لبنان أن يساعد على أن تتحقق الخطوة ذاتها في بلدان [عربيّة] أخرى”[27].
    2. واضح مما تقدّم أن الأب الأقدس الراحل كان يشدّد كثيرًا على الصيغة الوفاقيّة اللبنانيّة بين المسيحيّين والمسلمين كنموذج للعلاقة الصحيحة المرتجاة بين المسيحيّين والمسلمين في كامل البيت الأنطاكيّ. وقد كرّر هذا الموقف بوضوح أكبر في عظته للشعب اللبنانيّ أثناء احتفاله بالقداس الختاميّ لأعمال السينودس من أجل لبنان، حيث قال: “نريد أن ننطق للعالم بأهميّة لبنان وبرسالته التاريخيّة التي أدّاها عبر العصور. لقد أظهر، بصفته بلد الطوائف الدينيّة المتعددة، أنّ هذه الطوائف المختلفة يمكنها أن تعيش معًا في سلام وإخاء وتعاون. أظهر أنّه من الممكن احترام حقّ كلّ إنسان في الحريّة الدينيّة، وأنّ الجميع متحدون في محبتهم لهذا الوطن الذي نضج عبر العصور، محافظين على إرث آبائهم الروحي، ولاسيّما الراهب القديس مارون”[28].
    3. ولقد سبق لغبطة أبينا البطريرك مار نصر الله بطرس صفير أن شرح باستفاضة فحوى الاستشهاد البابويّ هذا حول رسالة لبنان الفريدة. “إن ما يتميّز به لبنان”، يقول غبطته، “هو أنّ أتباع هاتين الديانتين ينعمون بذات الحقوق ويؤدون ذات الواجبات”. فمن جهة الحقوق الدينيّة، “معلوم أنّ الحريّة الدينيّة مصانة في لبنان، وكلّ من الطوائف السبع عشرة يعبد الله على ما يوحيه إليه ضميره من طريقة[…] وهناك من قد لا يصلي، ما دامت المسألة ضميريّة ولا إكراه في الدين”[29]. ومن جهة الحقوق المدنيّة والسياسيّة، يحوز كلّ مواطن هذه الحقوق دستوريًّا دون أيّ انتقاص، وتقوم شراكة كاملة في القرار السياسيّ بين الجماعتين المسيحيّة والإسلامية. ولا مساومة ترضاها كنيستنا في شأن تلك المساواة في الحقوق، وهذه الندّيّة في صنع القرار، كما ينبّه غبطة أبينا البطريرك في هذا الصدد بقوله: “إذا كان قد قام في زعم بعضهم أنه يكفي الأقليّة أن يؤمّن لها عمل وطعام وشراب ونوم وراحة ولهو، على أن يتولّى عنها الشأن السياسي والقرار فيه سواها، فهذا انتقاص فاضح لحقوق الإنسان وكرامته، لا يرضاه إلاّ من تنازل عن حقه في إنسانيته”[30]. أخيرًا، ومن جهة حوار الحياة، يقوم النموذج اللبنانيّ، كما يقول غبطته، على “تفاعل عمليّ يوميّ قائم في مختلف الحقول والميادين “[31]. وهكذا قام ما عرف بميثاق العيش المشترك، الذي “لا يقوم على تجاور وتعايش وحسب، بل على […] حضارة لبنانيّة مميّزة هي مزيج من حضارتين، المسيحيّة والإسلاميّة، مع الإحتفاظ لكلّ منهما بما لها من خصائص ومميّزات”. وعماد هذا العيش الميثاقي المشترك، وهذه الحضارة اللبنانيّة المثناة الطبيعتين، هو الحريّة الكاملة للجميع، “فلا يغلب فريق على فريق ويحوّل المجتمع اللبنانيّ إلى حاكم ومحكوم لكيلا نقول إلى قاهر ومقهور”. والحريّة هي مبرّر وجود ميثاق العيش المشترك، ومن دون هذه يفرّغ هذا من المعنى. ويعلن غبطة البطريرك بصوت مدوّ، في أبلغ دفاع عن الحريّة كقيمة عليا يجلّها شعبنا وتتشّبث بها كنيستنا، ما هو بمثابة الخط الأحمر الذي يفصل بين ديمومة العيش الميثاقيّ المشترك وتداعيه، فيقول: “إذا وضع اللبنانيّون أمام الخيار الصعب بين العيش المشترك والحريّة، فإنّ التاريخ يدل على أنّ اللبنانيّين، وفي طليعتهم المسيحيّون، لم يترددوا يومًا أمام هذا الخيار، وهو عندهم من الأولويات والثوابت[…]، ولا اعتصموا بهذه الجبال طوال قرون إلاّ ليحافظوا على أغلى الأغليين في نظرهم، وهما إيمان بالله وحريّة مسؤولة ينشدونهما، إذا انتفيا في لبنان، على كلّ أرض وتحت كلّ سماء”[32].
    4. ومن الواجب أن نلاحظ بعين التفاؤل انفتاح الإسلام المتزايد على مفهوم الحوار الندّيّ مع المسيحيّة في الشرق، وتنامي الإقرار المشترك بنموذجيّة المثال الشراكيّ بين المسيحيّة والإسلام في لبنان وبقابليّة نجاحه في مجتمعات أخرى عربيّة بل وغير عربيّة. وقد اختصر أحد كبار الأئمة المسلمين اللبنانيّين الراحلين هذا الموقف الطليعيّ بقوله: “أنا أرى أنّ من مسؤوليّة العرب والمسلمين أن يشجعوا كلّ الوسائل التي تجعل من المسيحيّة في الشرق تستعيد كامل حضورها وفاعليتها ودورها في صنع القرارات، وفي تسيير حركة التاريخ، وأن تكون هناك شراكة كاملة في هذا الشأن بين المسيحيّين والمسلمين في كل أوطانهم وفي كل مجتمعاتهم”[33]. وبدوره أكّد أحد كبار الرؤساء الحاليين لدولة إسلاميّة عريقة، في خطاب تاريخيّ ألقاه أثناء زيارته لبنان، في 13 أيار 2003: “قد فكّرت في حوار الحضارات والثقافات ولا أزال، فوجدت في لبنان مِصداقًا بارزًا لذلك… ولا أزال! وقد اعتبرت الحريّة والتسامح مصدرًا لحياة كلّ شعب، فوجدت في لبنان تجسيدًا بارزًا لهذا الواقع […] إنّ هذا البلد يشكّل للحوار مركزًا أساسيًّا يدوّي صوته في المنطقة.[…] وإنني لأناشد لبنان… بأن يعكف مرّة أخرى على إشاعة خطاب السلام والتفاهم والحقّ والعدالة في كافة أرجاء المنطقة كما في العالم، وخلق الأجواء المؤاتية للحوار الدينيّ والسياسيّ والثقافيّ والاقتصاديّ على صعيد المنطقة. فإننا نعتبر حالة التعايش والتضامن في لبنان نموذجًا متميّزًا للشرق الأوسط كلّه”[34].
    5. من البديهي أن تجد هذه النداءات الإسلاميّة الكريمة والناطقة بنبل أصحابها وحكمتهم آذانا مصغية لدى كنيستنا المارونيّة وجميع الكنائس الأنطاكيّة الشقيقة. وتجد الكنيسة المارونيّة نفسها معنيّة بها على نحوٍ مباشر، وعليها واجب مقدّس في هذا المجال، لاسيّما بالنظر إلى الموقع المسؤول الذي أراده الله للبطريركيّة المارونيّة بصفتها صوت المسيحيّين الأقوى في لبنان، بل صوت الوطن اللبنانيّ كلّه أحيانًا، وبصفتها المقام المعتبر في نظر الجميع للمسيحيّة الحرّة في الشرق. وقد أخذ البطاركة الموارنة على عاتقهم هذا الواجب في الأمس واليوم. فبطريرك “العروبة البيضاء”، مار بولس بطرس المعوشي، يتناول “رسالة لبنان في العالم العربيّ” كعنوان لإحدى رسائله الرعائيّة، وفيها يقول:

“إنّ لبنان ليشعر اليوم بتضامنه الوثيق مع الدول العربيّة لا من حيث الثقافة المشتركة فقط، بل أيضًا وقبل كلّ شيء من حيث المصير المشترك. فهو يعتبر ذاته أداة وصل بين الشرق والغرب، يعمل لنشر راية التفاهم والأخوّة[…] ويطمح بتحويل هذه الرغبة إلى وقائع ناطقة ضمن حدود أراضيه، كما يطمح بالمساهمة بكلّ ما أوتي من قوى لتحقيق الرغبة نفسها في العالم العربيّ”[35].

ويضيف غبطة أبينا البطريرك مار نصر الله بطرس صفير في السياق عينه، شاهدًا لدور كنائسنا في الشرق بقوله: “إذا كان هناك من يطمعون بالراحة في التقوقع على الذات والاكتفاء برقعة من الأرض ولو ضيّقة يعيشون فيها في مأمن من أيّ إزعاج، فلن يلقوا هذه الراحة، وإذا كانت العناية قد وضعتنا حيث نحن منذ مئات السنوات، فلدور أرادته لنا وهو تأدية الشهادة المسيحيّة تعزيزًا لعيش مشترك.[…] وحسبنا فخرًا أن تثمر شهادتنا لنا ولسوانا مزيدًا من الحريّة المسؤولة والعدالة والمحبّة والتمسّك بالقيم الروحيّة واحترام حقوق الإنسان والإستهداء بنور الحقيقة والشعور بالكرامة، كرامة أبناء الله”[36].

  1. خلاصة القول هي أنّ كنيستنا المارونيّة، بوصفها جزءًا لا ينجزئ من البطريركيّة الأنطاكيّة الرسوليّة، تهتدي بتعاليم الكنيسة الجامعة منذ المجمع المسكونيّ الفاتيكانيّ الثاني، وبإرشادات بطاركتها القديسين، لاسيّما منذ ملفانها الدويهي، لترسّخ في أذهان المؤمنين والمؤمنات فيها أنّ لهم دورًا كبيرًا في الشرق، محيطهم الطبيعيّ، وموطنهم الأصيل، من أجل طيب عيش مشترك مع إخوتهم وأخواتهم من أهل الإسلام، ومن أجل تعزيز الحضور المسيحيّ في الشرق العربيّ بالتوازي مع هذه الدعوة. وعماد ذاك العيش المشترك المرتجى هو عيش الحرّيات كاملة ضمن تعددية الطوائف والأديان والثقافات على نحو ما تمّ في لبنان عبر حقبات تاريخيّة طويلة. لقد بات هذا العيش، بحسب قول قداسة البابا يوحنّا بولس الثاني، مصدر إلهام للشرق كما للغرب، وهذا يعني أيضًا أنّه سيبقى مصدر إلهام للبنان ذاته عندما يتنكّر هذا اللبنان لأمانة عيش الحرّية ضمن التعددّية عيشًا سليمًا.

2. المتطلبات الجديدة في العلاقات المسيحيّة الإسلاميّة المعاصرة ضمن النطاق الأنطاكيّ

  1. إنّ بناء العلاقات المسيحيّة الاسلاميّة في الشرق الانطاكيّ على قاعدة الحوار الأخويّ وطيب التعايش يلبي أيضًا جملة من المتطلبات الملحة التي تستصرخنا مجتمعاتنا العربيّة أن نتصدى لها. ولا عجب. فثمّة “مخاض حضاريّ عميق”[37] يعانيه الشرق العربيّ اليوم، لكونه جزءًا من العالم الثالث، ومن الواجب تقصّي أبعاده بصراحة ورويّة من أجل تحديد عناصره المتشابكة، وعزل مكامن التعثّر فيه، والعمل على تخطيها بحكمة ودراية وصبر.

وقد رصد آباؤنا بطاركة الشرق الكاثوليك بعضًا من أوجه هذا المخاض في رسالتيهم الراعويتين الثانية والثالثة (فصح 1992 وميلاد 1994). ونود، مستنيرين بهذا الرصد، أن نعود إلى هذا المبحث بشيء من التفصيل والتأوين في ضوء التردّي المتزايد لحالة الإنسان في منطقتنا العربيّة، لاسيّما بالنظر إلى كرامته وحقوقه الشخصيّة.

  1. الظاهرة الأولى التي تستلفت الانتباه هي اليقظة الدينيّة البارزة في شرقنا العربي بالتزامن مع مثيلاتها في العديد من البيئات البشريّة المعاصرة. ولئن جاز التفاؤل بكل ما تحمله هذه اليقظة من طاقات مباركة لتجديد العافية الروحيّة في عالم اليوم، فلا ينبغي التغاضي عن مظاهر التشدّد والتعصب والعدوانيّة المقلقة التي تطبع الكثير من ممارساتها، لاسيّما في المنطقة العربيّة. وإذا كانت العودة إلى الأصول مطلوبة في كلّ دين من أجل إنعاش التمنهل الروحيّ، فيجب ألا تفضي هذه العودة إلى التزّمت والجمود، فينقلب ما يُعتقد أنّه تديّن إلى تعصّب يشوّه الدين والإنسان معًا. وقد تنامى هذا المنحى السلبي مع الأسف إلى حدّ أنّ كلمة أصوليّة، في المتداول المعاصر، لم تعد تفيد سوى هذا التوجه الضيق، خلافًا لما قد يودّ الكثيرون من المؤمنين الأتقياء أن يفهموه منها.
  2. من مفاعيل الأصوليّة التي تسم نفسها بالإسلاميّة في الشرق العربي إزدياد في رفض التنوّع، الدينيّ منه، أو المذهبيّ، أو الإثنيّ، أو اللغويّ. ولا يخفى على أحد ما يحمله هذا التيّار من أخطار على مصير الجماعات المسيحيّة وغيرها في الشرق العربيّ، ومن تراجع في الانفتاح والتآخي بين البشر المختلفين في الدين أو الاثنية أو اللغة، ومن تزايد لعزلتهم وتقوقعهم على ذواتهم، ومن نزوع إلى إنتاج أصوليّات جديدة موازية للأولى في التحجّر والانغلاق والاعتدائيّة.

ومن واجب كنيستنا أن تذكّر الجميع بأنّها ترفض أيّ خلط بين الايمان والتعصّب الدينيّ. “إنّ الفرق شاسع بين المؤمن والمتعصّب: فالمؤمن يستخدمه الله، أمّا المتعصّب فإنه يستخدم الله؛ والمؤمن يعبد الله، أما المتعصب فيعبد نفسه متوهمًا أنه يعبد الله؛ والمؤمن يسمع كلام الله، أما المتعصب فيشوّهه؛ والمؤمن يرتفع إلى مستوى الله ومحبّته، أمّا المتعصّب فينزل الله إلى مستواه؛ والمؤمن يتّقي الله، أمّا المتعصّب فيهدّد الآخرين باستمرار؛ والمؤمن يكرِم الله، أمّا المتعصّب فيحّط من قدره وسموه؛ والمؤمن يعمل مشيئة الله، أمّا المتعصّب فيضع مشيئته هو مكان مشيئة الله[…] إنّ التعصّب شكل من أشكال إنكار الله والإنسان معًا”[38].

  1. إلى جانب المدّ الأصوليّ، وهو ظاهرة معاصرة نسبيًّا، هناك مآزق عربيّة قديمة العهد على الصعيد الحضاريّ، أوّلها وأهمّها هو غياب الحريّات السياسيّة للمسيحيين في أغلبية المجتمعات العربيّة، وحتى للمسلمين أنفسهم في البعض منها. كما أنّ هناك انتهاكًا واسعًا لحقوق الإنسان الأخرى، المدنيّة منها والاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة، ناهيك بالدينيّة، لاسيّما حقوق المرأة وحقوق الأقليّات. أضف إلى ذلك القضايا السياسيّة المصيريّة المزمنة، كالقضية الفلسطينيّة، والمأساة العراقيّة، والمسألة اللبنانيّة، وغيرها من الملفات المعلّقة التي تؤثّر تأثيرًا عميقًا على التاريخ الحديث في المنطقة وتهزّ الإنسان العربيّ في ضميره وكيانه.

إزاء هذه الأخطار، تودّ الكنيسة المارونيّة أن تذكّر، مع قداسة البابا يوحنّا بولس الثاني، بأن “الانسان يتخطى مطلق نظام اجتماعيّ، وهو القيمة الأساسيّة”[39]، ومع بطاركة الشرق الكاثوليك، “بأنّ مقياس النظم السياسيّة والاجتماعيّة هو الإنسان[…] ونعني به الإنسان كاملاً، فردًا وجماعة”، وأنّ “حقوق الإنسان مقدّسة بقدسيّة الله الذي خلقه وأراده محطّ حقوق وواجبات “[40].

  1. بناء عليه، وحيث إنّ حقوق الأفراد وحقوق الجماعات هي الطرف الآخر لحقوق الله، فإنّ الكنيسة تعدّ نفسها مؤتمنة عليها، ومن واجبها الدفاع عنها وإدانة منتهكيها، كائنًا من كانوا. وللسبب عينه، تعتقد الكنيسة المارونيّة بأنّ من واجبها، مع شقيقاتها الكنائس الأنطاكيّة، أن تظل في حوار دائم مع أهل الدين الإسلاميّ في الشرق العربيّ من أجل عقد خناصر الدينين على الدفاع عن هذه الحقوق معًا، وتذكير حكّام الدول بأنّ إحقاق السلام في الواقع السياسيّ للأوطان يفترض احترام حقوق الأشخاص، كلّ الأشخاص، وحقوق الجماعات، كلّ الجماعات، وأن السلام لا يستقيم إلاّ بتعزيز الإثنين معًا.
  2. إنّ تفاهمًا كهذا بين الدينين حول نصرة حقوق الإنسان، والسلام، والعدالة الاجتماعيّة، معروف في أدبيات الكنيسة تحت اسم “حوار الأعمال”[41]، وهو مجال تعاون بين الأديان “من أجل إنماء الإنسان المتكامل وتحرّره غير المنقوص”[42]. ويمثّل حوار الأعمال، إلى جانب “حوار الحياة”[43]، و”حوار المبادلات اللاهوتية”[44]، و”حوار الإختبار الروحيّ”[45]، شكلاً أساسيًا من أشكال الحوار الأربعة[46]. وثمة أمثلة عديدة على مبادرات مشتركة وحّدت الدينين في التصدي لمشاكل مجتمعيّة أو سياسيّة جسيمة، كدفاعهما المشترك عن القيم العائليّة في مؤتمر الأمم المتحدة للسكّان والتنمية الذي التأم في القاهرة عام 1994، والبيانات المشتركة الصادرة عن الأزهر والفاتيكان لإدانة الإرهاب عقب أحداث 11 أيلول 2001.
  3.  وتعوّل كنيستنا المارونيّة كثيرًا على تعزيز جميع مستويات الحوار الممكنة مع المسلمين، هي التي عاشتها معهم بشكلٍ أو بآخر منذ بدايات الإسلام، فاكتسبت من جراء ذلك خبرة فريدة في تأدية الشهادة المسيحيّة بين الأخوة المسلمين، ومعهم وبعونهم صارت الحضارة العربيّة “حضارة الوجه”[47]، بحسب التعبير الرائع للسادة بطاركة الشرق الكاثوليك، أيّ حضارة “التلاقي الودّي والتحاور الحقيقيّ والتخاطب المباشر”، التي يتطلع إليها المؤمنون من الديانتين في حضارات أخرى.

ولم تتلكّأ الكنيسة المارونيّة، مع شقيقاتها الكنائس الأنطاكيّة، الكاثوليكيّة منها وغير الكاثوليكيّة، في أداء ما يتوجّب عليها لتعزيز حضارة الوجه مع المسلمين على جميع الصعد، رغم المواضيع الشائكة التي ينبغي التصدّي لها من أجل مواجهة المتطلبات التي أفرزها المخاض الحضاريّ العميق الذي يثقل مجتمعاتنا العربيّة. ومن بين هذه المواضيع رفضنا النهائيّ لمفهوم الأقليّة ووضع الذّمة، والمجاهدة مع خيّري المسلمين في سبيل وعي التمييز، على غير تعارض، بين الروحيّ والزمنيّ، بين المقدّس وغير المقدّس، بين الدينيّ والسياسيّ، وفي الوقت عينه، وبعد الفراغ من هذا التمييز، وعي ضرورة إرساء القيم النهائيّة للمجتمع على قاعدة الوصل بين الروحيّ والزمنيّ. وهذا يعني أن نعمل معًا على استجلاء مفاهيم الكرامة الإنسانيّة والحرّية والمساواة في ضوء الحقيقة التي توحي بها تعاليم الديانتين، لا الإيديولوجيّات المناهضة لهما، على أن نضع هذه المفاهيم موضع التطبيق لا بالاستناد إلى أحكام الشرع السالف، مسيحيًّا كان أو إسلاميًّا، بل بما يتفق مع النواميس الدوليّة المعاصرة كما تصورتها الأسرة البشريّة جمعاء في القرن العشرين وأقرتها منظمة الأمم المتحدة منذ “الإعلان العميم لحقوق الإنسان” الصادر في 10 كانون الأول 1948.

3. المعوّقات المتبقية في العلاقات المسيحيّة الإسلاميّة المعاصرة ضمن النطاق الأنطاكيّ

  1. وتقودنا هذه المقاربة بالذات إلى استبصار المعوّقات الراهنة في العلاقات المسيحيّة الإسلاميّة في الشرق العربيّ، وهي معوّقات ينبغي التصدي لها بفطنة ورويّة ورحابة صدر، دون التغاضي عن مفاعيلها السيئة في حال استمرارها.
  2. وليس المقصود بالمعوّقات الإختلافات العقائديّة بين الدينين في أمور التثليث، وألوهيّة المسيح، وموته على الصليب، وقيامته من بين الأموات لافتداء خلاصنا، إضافة إلى اختلاف النظرة في علاقة الله بالبشر. فهذه كلها موجودة، ولا أحد يتعامى عنها. “إنّ القرآن”، يقول قداسة البابا يوحنّا بولس الثاني، “يسمي الله بأجمل ما عرفه اللسان البشريّ من الأسماء [الحسنى]. لكنه إله يبقى، في النهاية، في غربة عن العالم، إله يُجلّ جلاله، لكنّه ليس العمّانوئيل، الإله-معنا. الإسلام ليس دين فداء. لا فسحة فيه للصليب والقيامة. يؤتى على ذكر المسيح، ولكن بصفته نبيًّا يمهّد لمجيء خاتم جميع الأنبياء، محمد. ويرد أيضًا ذكر مريم، الأم البتول. لكن مأساة الفداء [الإلهيّ] غائبة كليًّا. لذا فثمة بعاد كبير بين المسيحيّة والإسلام لا في لاهوتيهما فحسب، بل في أنثروبولوجيتيهما”[48]. إلاّ أنّ هذه الاختلافات العقائديّة، وإن تكن عقبة كأداء أمام التلاقي الكامل، لا تعدّ معوّقات للحوار بين الدينين في نظر الكنيسة، بل مادة للتبادل اللاهوتيّ الصادق بينهما، ولتصفية إيماننا نحن المسيحيّين في لهيب هذه المساءلة الإسلاميّة لجوهر ديانتنا، فيولى سرّ التجسّد، وعظمة الحب الإلهي للبشر، حق قدرهما من الإكرام والشهادة في حياتنا، ويرسّخ إيماننا بالله الذي أصار ذاته بشرًا، مخليًا ذاته، ومتخذًا صورة العبد، وذائقًا الموت مرفوعًا على عود الصليب، ليطأ الموت بالموت، ويخلّصنا جميعًا إلى الحياة الأبديّة.
  3. المعوّقات الحقيقيّة هي التي تولّدها الأوهام والأحكام المسبقة في حقّ الدين الآخر، والصورة المشوّهة التي تعلق عنه في الأذهان بسبب رواسب الماضي السلبيّة، أو بسبب تربية دينيّة مبتورة تسجن صورة الدين الآخر في تصانيف اختزاليّة تتحجّر لتصبح اقتناعات خبيثة تتشاطرها الجماعة دون تدقيق. وهكذا تتغذى الأحقاد الجماعيّة، فتصبح شكلاً غير مقبول من أشكال التمييز، إن على الصعيد الإثنيّ أو على الصعيد الدينيّ. لذا فإنّ أحد أكبر التحديات المطروحة اليوم على الوئام المسيحيّ الإسلاميّ، في شرقنا العربيّ كما في العالم أجمع، هو تناول هذه التصانيف الإختزاليّة للإسلام والمسيحيّة في بنيتها ومداها بالدرس الموضوعيّ الصادق، أنشأت هذه الأفكار من قلب الديانتين أم من خارجهما، من أجل التصدي لها تصديًّا فعالاً. وقد أوضح قداسة البابا يوحنّا بولس الثاني في مناسبات كثيرة جدًا أنّ الإيمان الدينيّ الحقيقيّ يتعارض مع المواقف والممارسات العنصريّة، التي يندرج التصنيف الإختزاليّ بالتأكيد في إطارها.
  4. من الحكمة أن نعترف بأنّ التصنيف الإختزاليّ للإسلام على يدّ المسيحيّة، والعكس بالعكس، قديم جدًا. وبمعنى من المعاني، فإنّ “النصرانيّة”، هذه الفرقة المسيحيّة المبتدعة التي ازدهرت في الجزيرة العربيّة فجر الإسلام والتي أتى كتاب الإسلام على وصفها لمامًا، قد توصلت إلى أن تصبح تدريجيًا، في عقل المسلم المؤمن، تصنيفًا اختزاليًّا لما تفهمه الديانة المسيحيّة عن ذاتها بذاتها. ونحمد الله على أن هذه النظرة الإختزاليّة قد بدأت بالإنحسار لصالح نظرة إسلاميّة أكثر موضوعيّة عن المسيحيّة في حقيقتها، وذلك بفضل الحوار المثمر الذي ازدهر مؤخرًا بين الديانتين التوحيديتين، فتخطى أكثر من أربعة عشر قرنًا من التحاذر والتجاهل والخصام. وبتنا نجد أعدادًا متزايدة من المسلمين، رجال دين ومثقفين، يقبلون على دراسة موضوعيّة للمسيحيّة من مصادرها الكتابيّة واللاهوتيّة والروحانيّة الأصليّة. وهذا، إضافة إلى تصاعد إهتمام المسيحيّين بدراسة الدّين الإسلاميّ دراسة موضوعيّة والوقوف على ثرائه الروحيّ، هو دليل عافية أكيدة في مجرى العلاقات المسيحيّة الإسلاميّة.
  5. ويحسن بنا أن نتذكّر الإسهام المميّز لبعض المفكّرين والمثقّفين الموارنة، قديمًا وحديثًا، في دراسة مبادئ الإسلام وروحه بموضوعيّة وعمق وصفاء ووضع المؤلفات القيّمة في هذا الباب. ولئن غلب على المقاربات المارونيّة القديمة، من يوحنّا الحصرونيّ إلى بطرس إبن مخلوف فجرمانوس فرحات فإسطفان ورد فأنطون شهوان، المنحى الجدليّ الدفاعيّ على جاري الأنواع الأدبيّة في ذاك الزمان[49]، فإنّ أعمال المفكّرين الموارنة المعاصرين قد اتّسمت بالطابع العلميّ، والشموليّ، والمنفتح بازدياد على الخصوصيّات اللاهوتيّة والروحانيّة والصوفيّة في الإسلام وعلى نقاط تقاربه مع المسيحيّة[50].
    1.  استنادًا الى هذا التراث الإيجابي، فإنّ الإنصاف يقتضي منّا أن نحذّر من مغبة إنزلاق المسيحيّين في إطلاق التعميمات المتسرعة على الإسلام المعاصر بسبب تصاعد الأصوليّة الإسلاميّة بين ظهرانيه، هذه الأصوليّة التي لا تواجه المسيحيّة المعاصرة مثيلاً لها بالحدة نفسها، لاسيّما في شرقنا العربيّ. وأخطر هذه التعميمات هو الوقوع في المعادلة التمييزيّة الخطيرة التي ظهرت بقوّة بعد عملية 11 أيلول 2001 الإرهابيّة، ومفادها أنّ الإسلام يساوي الأصوليّة التي تساوي التطرف الذي يساوي العنف. كذلك، ينبغي التحذّر من فخ تقليص المسلمين في فصيلة واحدة متعصبة في إيمانها، بغضّ النظر عن تنوعهم الفكريّ والثقافيّ الكبير وتعدد مشاربهم الجغرافيّة، أو من الوقوع في الصورة الإختزاليّة القصوى، صورة صراع الحضارات. ولقد تصدت كنيستنا بحزم لأيّة ميول منحرفة تغتذي من التصانيف الإختزاليّة التي تمسّ الإسلام والمسلمين.
    2. وثمّة معوّقات أخرى تساهم في عرقلة نموّ العلاقات المسيحيّة الإسلاميّة في الشرق العربيّ وتتحمّل بعض السلطات العربيّة مسؤوليّة كاملة عنها. ومن أخطر هذه المعوّقات حرمان المسيحيّين من ممارسة شعائرهم الدينيّة بحريّة في أماكن عبادة خاصة بهم، أو من توفير التربية الدينيّة المناسبة لناشئتهم في مراكز تربويّة تابعة لهم، أو من فقدانهم المساواة المواطنيّة في ديارهم بسبب أوضاعهم كأقليّة. وهذه موانع أساسيّة لا يتعرض لها المسلمون في بلدان أخرى غير عربيّة. ويقول قداسة البابا يوحنّا بولس الثاني في هذا الصدد: “أمّا في مجال الحريّة الدينيّة، فيجب أن تقوم هناك أيضًا معاملة بالمثل، أيّ تكافؤ في التعامل[…] لذا يمكن فهم استغراب المسيحيّين وشعورهم بخيبة الأمل عندما يستقبلون، في أوروبا مثلاً، مؤمنين من ديانات أخرى ويتيحون لهم ممارسة شعائرهم في حين يُمنعون هم من ممارسة أيّ من الشعائر المسيحيّة في البلدان التي يشكل هؤلاء المؤمنون أغلبيّة سكّانها ويقوم فيها إيمانهم مقام دين الدولة”[51]. وفي موضع آخر، يسمي قداسته الأشياء بأسمائها إذ يعلن: “وفي مناطق أخرى، حيث الإسلام في موقع الأكثرية، علينا دائمًا إبداء الأسف لأشكال التمييز الخطيرة التي يذهب ضحيتها المؤمنون من الديانات الأخرى. بل إنّ هناك بلدا ًيمنع الشعائر المسيحيّة منعًا باتًا ويعدّ امتلاك الكتاب المقدّس جريمة تخضع لمعاقبة القانون”[52]. ويؤكّد قداسته معارضته للسياسات الدينيّة القمعيّة عندما يقول: “الأمر [أيّ التفاهم المسيحيّ الإسلاميّ] لا يخلو أيضًا من صعوبات على المستوى العمليّ. ففي البلدان التي تتسلم التيارات الأصوليّة زمام سلطاتها، تفسّر حقوق الإنسان ومبدأ الحريّة الدينيّة، مع الأسف، من جانب واحد تمامًا، فتصبح الحريّة الدينيّة حريّة فرض “الدين الحقّ” على جميع المواطنين. إن وضع المسيحيّين في هذه البلدان هو أحيانًا مأساويّ للغاية. رغم ذلك، فإنّ استعداد الكنيسة للحوار والتعاون يبقى ثابتًا لا يتزحزح”[53].
      1. قد يكون في أساس هذا الإجحاف الصارخ بحق المسيحيّين اختلاف النظرة إلى الحقّ في الحريّة الدينيّة بين الإسلام والمسيحيّة. ففي المسيحيّة أنّ التمتّع بالحريّة الدينيّة هو حقّ طبيعيّ وأساسيّ لجميع الناس، كما يعلّم البيان المجمعي في الحريّة الدينيّة Dignitatis Humanae (الكرامة الإنسانيّة). ومفاد هذا الحق هو أن يكون جميع الناس “محصّنين من القسر على يد الأفراد أو الهيئات الاجتماعيّة أو أيّة سلطة بشريّة، بحيث إنه، في أمور الدّين، لا يجوز إكراه أحد على العمل بما يخالف معتقداته، في نطاقه الخاص أو في النطاق العام، وحده أو في رابطة مع الآخرين، ضمن حدود مشروعة”[54]. وهذا الحق يبقى، في نظر الكنيسة، قائمًا حتى لهؤلاء الذين لا يؤدون واجبهم في طلب الحقيقة واعتناقها، لأنه “مؤسّس لا على سجيّة الشخص الذاتيّة، بل على طبيعته عينها”[55]. وإن “مصونيّة [هذا الحقّ]”، يقول البابا يوحنّا بولس الثاني، “لهي إلى حدّ ينبغي معه أن يُقرّ للأفراد حتى بالحقّ في تغيير دينهم، إذا دعاهم ضميرهم إلى ذلك”[56].
      2. أمّا في الإسلام، فإنّ حدّ الردّة يصيب كل مسلم يغيّر دينه ويعتنق دينًا آخر. وهذا يعني، على الصعيد القانونيّ، حلّ زواج المرتد من امرأته المسلمة بطريقة قسريّة، وحرمانه من حقوق الوراثة بسبب مانع اختلاف الدين، أو ربّما تعريض حياته لخطر الموت[57].

صحيح أنّ الكنيسة الكاثوليكيّة لا تقبل بسهولة أن يفصم أحد أعضائها عرى الشركة معها، فيترك إيمانه المسيحيّ ليتبنى دينًا آخر، لذا فهي تقصي هذا العضو من الشركة الكنسية رسميًّا. إلاّ أنّ هذا الإقصاء لا ينطوي على أيّة تبعة مدنيّة، إن في الزواج أو في الميراث أو في الحقّ في الحياة، لأنّ الحقّ في الحريّة الدينيّة هو، في تعليم الكنيسة منذ المجمع الفاتيكانيّ الثاني، محفوظ للجميع دون أيّ تمييز دينيّ أو إثنيّ أو لغويّ. إنّه حقّ من حقوق الإنسان العميمة، وقد أقرّه إعلان 1948 في مادته الثامنة عشرة.

  1. وحول هذه النقطة يعترض بعض المسلمين برفضهم مبدأ عميميّة هذا الحقّ، في حين يقبله البعض الآخر. ومسألة عميميّة حقوق الإنسان في المطلق، أيّ صلاحيتها لعموم الناس في كلّ زمان ومكان مهما اختلفت ثقافاتهم، هي مدار جدال واسع بين المسيحيّين وجلّ المسلمين في الفترة الأخيرة. وقد أثبتت خبرة الحوار المكثّف بين الطرفين أنّه من الممكن التوصل إلى تقارب حقيقيّ حول هذه النقطة إذا فهمت هذه العميميّة بأنّها لا تناقض خصوصيّة الثقافات، بل حصرًا النظرة النسبيّة إلى كرامة الإنسان وحقوقه. وقداسة البابا يوحنّا بولس الثاني شديد الوضوح حول هذه النقطة. فهو يقول “إنّ تأكيد عميميّة الحقوق ولا قابليّة تجزئتها لا يلغي الإختلافات الثقافيّة والسياسيّة المشروعة على مستوى ممارسة الحقوق الشخصيّة، بشرط احترام المستويات التي أرساها الإعلان العميم [لحقوق الإنسان] للبشريّة جمعاء، وذلك في جميع الحالات”[58].
  2. ومن المعوّقات الأخرى التي تثير التحفظات في وجه التقارب الإسلاميّ المسيحيّ مسألة الزيجات المختلطة، والنظرة المختلفة لدى الدينين إلى حقوق طرفي الزواج عند قيامه، وأثناءه، وعند انحلاله. ومعروف أنّ الإسلام لا يسمح لمسلمة بالزواج من مسيحيّ، وإن كان يسمح لمسلم بالزواج من مسيحيّة. وحتى في الحالة الأخيرة، فإنّ الزوجة تجد نفسها مقصاة حكمًا من ميراث زوجها بسبب اختلاف الدّين، كما أنّ الأم تجد صعوبة فائقة، بل مستعصية، في الحصول على حقّ حضانة أولادها عند انحلال الزواج. ونحن لا نجد في المسيحيّة تحريمات شرعيّة مماثلة لما تقدم.
  3. وتجدر الإشارة إلى تنامي الأصوليّة في الخطاب الدينيّ الإسلامي بين الفينة والأخرى، حيث يصبح تهجميًا ومشوهًا للدين المسيحيّ، وهذا ما يحمل المؤمنين على التنافر وتبادل العداء، وربما أدّى إلى ردود فعل مسيحيّة مماثلة، وإن متفرقة، ليست من دين المحبّة بشيء. “ولهذا”، يقول آباؤنا بطاركة الشرق الكاثوليك، “لا بد من تطوير الخطاب الدينيّ لدى الجانبين بمنأى عن روح الجدل العقيم… وعليه فإنّنا ندعو المفكرين واللاهوتيين المسيحيّين في عالمنا العربيّ إلى تطوير رؤية جديدة تنصف الإسلام من غير مجاملات. كما نهيب بالمؤسسات العلميّة المسيحيّة أن تدخل الإسلاميات في سياق برامجها الأكاديميّة بالتعاون مع أساتذة مختصين. وهو الجهد عينه الذي ندعو إليه العلماء المسلمين والمؤسّسات العلميّة الإسلاميّة، لتفهّم الدين المسيحيّ. فإذا ما أتيح للمسيحيين أن يسمعوا ما يقوله المسلمون عن أنفسهم، وللمسلمين أن يسمعوا ما يقوله المسيحيّون عن أنفسهم، حينئذ تحصل المعرفة الحقيقيّة والموضوعيّة المتبادلة. وهذه هي المعرفة التي من شأنها أن تهدم الجدران التي تعزلنا بعضنا عن بعض وأن تخلق الأجواء الملائمة للتواصل والتعاون”[59].
  4. أخيرًا، ثمّة معوّق مستجد يستحق أن نتوقّف عنده ونتأمل في أبعاده لتفادي تبعاته المدّمرة: إنه تنامي العنف باسم الدين، في الشرق العربيّ وفي العالم أجمع. وهذه مسألة متفجرة للغاية، وقد تقوّض أركان السلام العالمي برمتها. لذلك كان قداسة البابا الراحل يوحنّا بولس الثاني سبّاقًا في دعوة رؤساء جميع الأديان العالميّة وممثليها، ومن ضمنهم ثلاثون مسلمًا، إلى التلاقي في أسيزي يوم الرابع والعشرين من كانون الثاني 2002، وذلك في إطار “يوم الصلاة من أجل السلام”، من أجل التصدي على نحو راديكالي للمسألة المتفجّرة المتعلقة بتنامي العنف والحقد على الكرة الأرضيّة باسم الدين. وفي هذه المناسبة، أصدر المدعوون وثيقة تاريخيّة دعيت مبادئ أسيزي العشرة حول السلام، وتعهدوا الالتزام بها. ويجدر بنا أن نستلهم هذه المبادئ الأسيزيّة الطليعيّة، المطروحة على الأديان كافة، لاسيّما علينا، نحن المسلمين والمسيحيّين. فهي شرعة عظمى للأديان نحو بناء السلام الحقيقيّ، ومصدر إلهام رائع لكل مسؤول ديني ولكل من يعتنق دينه بأمانة. وقد أمل قداسة البابا يوحنّا بولس الثاني، في رسالة إلى حكام العالم أجمع ذيّلها بالنص الكامل لمبادئ أسيزي العشرة، في أن “يقود روح أسيزي وعهده جميع البشر ذوي الإرادة الصالحة إلى نشدان الحقيقة، والعدالة، والحريّة، والمحبّة، فينعم كلّ إنسان بحقوقه الموقفة له وكلّ شعب بالسلام”[60].

ثالثًا: مستقبل العلاقات المسيحيّة الإسلاميّة في البيت الأنطاكيّ

  1. يبان لكنيستنا، استنادًا إلى حاضر العلاقات المسيحيّة الإسلاميّة في النطاق البطريركيّ الأنطاكيّ، أنّ الحوار الإسلاميّ المسيحيّ، إذا ما قام على الصدق والصراحة المقرونين بالمحبّة، والتفّهم، والاحترام المتبادل، وافتراض حسن النيّة عند الآخر، هو خير ما يشيّد حضارة المحبّة، التي نودّها حضارة المستقبل في واقعنا العربيّ المشلّع. و”الحوار”، كما يذكر بطاركة الشرق الكاثوليك، هو “موقف روحيّ قبل كلّ شيء”[61]، ونحن “لا نقدر بتاتًا أن نقبل الآخرين الذين يضعهم الله في طريقنا ما لم نقبل الله أوّلاً في حياتنا…[وهكذا فإنّ] عيشنا المشترك هو من صميم وقوفنا أمام الله”[62].

من صلب دعوة الكنيسة السريانيّة المارونيّة، المتجذرة في المدى الأنطاكيّ، أن تمارس لقاءها مع مسلمي العالم العربيّ في حضرة الله، وأن تمارسه بمعيّة الكنائس الأنطاكيّة الشقيقة، وأن تطوّره وتعزّزه خدمة للإنسان، كلّ إنسان، أيًّا كان دينه ومشربه وانتماؤه، لأنّ الإنسان هو “طريق الكنيسة”[63]. وهي تطمح، عبر الحوار الصادق، والفطن، والودود، إلى إرساء ثقافة جديدة في نفوس طرفيه، ثقافة ركناها الحريّة والمحبّة. لذا فهي تسعى إلى تلقين أبنائها وبناتها ثقافة الحوار والتربية عليه، وإلى ممارسته بانتظام في أشكاله كافة، وذلك في أمانة مطلقة للتقاليد المارونيّة ولتعاليم الكنيسة الكاثوليكيّة منذ المجمع الفاتيكانيّ الثاني.

  1. والحوار مع الإسلام والمسلمين هو زمن خُيور روحيّة جديدة لإثراء إيماننا المسيحيّ، لأنّ “الحوار”، كما يعلّم قداسة البابا يوحنّا بولس الثاني، “ليس نتيجة لاستراتيجيّة أو مصلحة، بل هو نشاط له حوافزه، ومتطلباته، وكرامته الخاصّة”. ويشرح قداسته هذه النقطة قائلاً: “إنّ الديانات الأخرى تمثّل تحديًا إيجابيًا لكنيسة اليوم. فهي تحضّها على اكتشاف آيات حضور المسيح وعمل الروح القدس والإقرار بهما، وتحثّها أيضًا على تعميق هويتها وعلى الشهادة لشموليّة ما اؤتمنت عليه من وحي لخير الجميع”. لذلك فإنّ “الحوار يتوق إلى التطهّر والتوبة الداخليّة اللذين يؤتيان ثمارًا روحيّة إذا ما تحققا في الطواعيّة للروح القدس”[64].
  2. لقد عاشت كنيستنا المارونيّة هذا الحوار السامي على مرّ السنين، وأطلقت من لبنان، مع أخواتها الكنائس الأنطاكيّة الشقيقة، أوّل صرخة لتلاقي المسيحيّة والإسلام، ولعناقهما في المدى الزمنيّ. ورجاؤها الوطيد هو أن تنجح في مدّ هذا الإنجاز إلى كامل الشرق الأنطاكيّ، الذي هو اليوم عالم عربيّ ينتفض باحثًا عن ينابيع الحق للخروج من مآزقه. ففي هذا الشرق كان المسيحيّون إزاء المسلمين منذ أن كان الإسلام. كانوا حاضرين في كتاب الإسلام، وفي أحاديثه النبويّة، وفي شطحاته الصوفيّة، وفي جدل حكّامه وفلاسفته وعلمائه. كانوا حاضرين عند المجيء الأوّل للمسلمين، وفي بلاط الخلافتين الأمويّة والعباسيّة، وفي النهضة العربيّة الحديثة التي أطلقوها، وفي النزعة التحرريّة التي دعوا إليها مع إخوانهم المسلمين للوقوف في وجه كلّ مستعمر. لذا فإنّ حضورهم النوعيّ سيستمر رسوخًا وتألقًا في الديار العربيّة، وسيبقون على أمانتهم لأرومتهم الشرقيّة، رغم انتشار أبنائهم المتزايد في أربعة اقطار الأرض.
  3. على الصعيد الرعائيّ، توّد الكنيسة المارونيّة أن تضع موضع التطبيق، في إطار تثقيف كهنتها وإكليريكيّيها، نداء المجمع الفاتيكانيّ الثاني القائل: “فلتقدّم لهم المعارف عن الأديان الأخرى في كلّ منطقة تشهد لها انتشارًا واسعًا، فيكون لهم وقوف أفضل على ما تحتويه، بتدبير إلهيّ، من خير وحقّ، وتكون لهم طاقة الرّد على ما عندها من أخطاء، والقدرة على نقل نور الحقيقة الكامل إلى الذين لم يصل إليهم”[65]. وفي السياق عينه، توّد كنيستنا أن تطوّر رعائية متكاملة خاصّة بالإسلام والمسلمين، فتقدّم للطالب المسيحيّ شرحًا موضوعيًّا عن الإسلام وأركانه، وللطالب المسلم شرحًا موضوعيًّا عن المسيحيّة ومبادئها، وذلك في دليل واضح ومتقن تشرف على إعداده نخبة من أهل العلم والفضيلة في الدينين.
  4. وتستبصر كنيستنا، في زحمة مسؤولياتها المستقبلية، واحدة على شأن كبير من الخطورة والأهميّة، ألا وهي إعادة إطلاق الحوار اللاهوتيّ بين المسيحيّة والإسلام ـ أحد أشكال الحوار الناقصة، وربّما الغائبة حاليًا، ما عدا بين قلّة من علماء الديانتين ـ إنطلاقًا من لبنان، وذلك في انفتاح ذهن وطواعيّة قلب، من أجل النمو المشترك في الحقيقة. فعلينا كمسيحيين أن نفطن إلى أنّ “ملء الحقيقة التي اقتبلها المسيحيّ بيسوع المسيح لا تضمن أن يكون قد استوعب هذه الحقيقة استيعابًا كاملاً. وفي المحصلة الأخيرة، فإنّ الحقيقة ليست شيئًا نمتلكه، بل هي شخص يجب أن ندعه يمتلكنا. وهذه عمليّة لا نهاية لها”[66].
  5. وترى كنيستنا أيضًا في أساس دعوتها أن تلتزم تعزيز أشكال الحوار الثلاثة الأخرى، حوار الحياة، وحوار الأعمال، وحوار الاختبار الروحيّ، وذلك حيثما يتسنّى لها ذلك. ويوصي المجمع البطريركيّ، لهذا الهدف، بإنشاء هيئة دائمة للقاء مع المسلمين في الشرق الأوسط، وهي هيئة ينبغي أن تتبع البطريركيّة المارونيّة مباشرة، وبتنشيط اللجان الكنسية المتعدّدة المتصلة بموضوع الحوار المسيحيّ الإسلاميّ. كما يوصي المجمع بدعم أيّة مبادرة حواريّة بين المسلمين والمسيحيّين في نطاق مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان، أو من خلال مجلس كنائس الشرق الأوسط، أو ضمن المجتمعات المدنيّة العربيّة، ويرجو إيلاء النشاطات الشبابيّة التي تجمع المسيحيّين والمسلمين إهتمامًا خاصًا، كمثل توأمة المدارس، والمخيمات المشتركة، حاضًّا جميع المربّين والمربّيات على بثّ تعليم الكنيسة المنفتح على حوار الأديان في نفوس الناشئة. أخيرًا، يعلّق المجمع أهميّة كبيرة على جمع رجال الدين المسيحيّين والمسلمين في لقاءات دوريّة للصلاة والتفكير في الوسائل الكفيلة ببثّ حضارة المحبّة والسلام في نفوس المؤمنين من الديانتين.
  6. ويطيب لمجمعنا البطريركيّ الماروني أن يتقدم باقتراح ضمن الوطن اللبناني سيكون تحقيقه من أبهى علامات الأزمنة، وهو القاضي بأن تتفق جميع العائلات الروحيّة على أن تطلب من السلطات اللبنانيّة الإبقاء على أحد الأبنية المدّمرة في وسط بيروت كما هو دون ترميم، مع لوحة تذكاريّة بسيطة تُثبّت إليه ويُكتب عليها: “لا للحرب بعد اليوم على أرض لبنان، أرض السلام والتآخي بين الأديان!”، فيصبح هذا الصرح المعنويّ محجّة وشاهدًا بليغًا لأجيال المستقبل على ما ينبغي عليها تجنّبه في الأزمنة الآتية.
  7. ويبقى هدف كنيستنا الأوّل والأخير الشهادة للمسيح وإعلان بشارته الخلاصيّة للبشر أجمعين، بمن فيهم المسلمين. وفي ضوء التعاليم الكنسيّة والتدبير الإلهيّ الخلاصيّ، “لا تجد الكنيسة تعارضًا بين إعلان بشارة المسيح والدخول في حوار مع الأديان الأخرى[…] على هذين المقوّمين أن يحافظا على ترابطهما الحميم وعلى تمايزهما في آن معًا. لذا لا يجوز المزج بينهما، أو التلاعب بهما، أو مماثلتهما، وكأنّهما قابلين للتبادل”[67].

إن إعلان البشارة الخلاصيّة بيسوع المسيح ليس اقتناصًا لأحد إلى الحظيرة المسيحيّة، بل هو إيصال حقيقة الإنجيل من أجل التوبة إلى الله. وللتوبة ههنا مدلولان. فهي إمّا تغيّر في القلب، أيّ تحوّل حركته نحو الله، أو تغيير في الإنتماء الدينيّ، أيّ تحوّل إلى اعتناق الدين المسيحيّ[68]. من الجوهريّ أن نعي هذا التمييز، لأنّ هدف الحوار هو التوبة بالمعنى الأوّل، رغم الإقرار بأنّ التغيير في الإنتماء يبقى ممكنًا، وبأنّ حقّ الشخص في تغيير دينه يجب الدفاع عنه بقوّة، وذلك بصفته معطى أساسيًّا من معطيات الحرّية الدينيّة.

  1. ومن أخطر مسؤوليات كنيستنا المستقبليّة، بالتكامل مع الكنائس الأنطاكية الشقيقة ومع المسؤولين المسلمين، السعي إلى تعميم إيجابيات النموذج الشراكيّ الحرّ في التعايش الطيب الإسلاميّ المسيحيّ، أيّ النموذج “اللبنانيّ” في العيش المشترك، على كامل المنطقة العربيّة، وكذلك صيانة هذا النموذج من التعثّر أو الضياع في لبنان ذاته. وفي هذا المنحى إسهامنا المتواضع في إخراج العالم العربيّ المعاصر من مخاضه الحضاريّ العميق، فيتصالح مع الوحدة في التنوع، والحرّيات العامّة، ومقتضيات العدالة والسلام وحقوق الإنسان، بما فيها حقوق المرأة، والتعامل الكريم مع الأقليات على اختلاف أنواعها. لقد سمّت كنيستنا نفسها، في البيان الختاميّ للدورة الأولى لمجمعنا البطريركيّ الموقّر، “خبيرة في العيش المشترك” (عدد 9)، تمامًا كما أنّ كنيسة المسيح الواحدة، الجامعة، المقدّسة، الرسوليّة، هي، بحسب تعبير قداسة البابا بولس السادس، “خبيرة في الإنسانيّة”. وستكون كنيستنا جديرة بلقبها يوم تتوصّل إلى ترسيخ إيجابيات النموذج التوافقيّ الحرّ الإسلاميّ المسيحيّ في العقليات والأنظمة على مدّ الديار العربيّة بحيث يتمتّع جميع المسيحيّين فيها بكامل الحرّيات الأساسيّة المستوجبة لهم، ويضعون حدًّا نهائيًّا لتقلّص أعدادهم المأساويّ في الشرق بسبب خيبة أملهم من بلوغ هذا المرتجى. وحتى ذلك الحين، سيبقى السؤال الكبير مطروحًا على الضمائر جميعًا، ولاسيّما على ضمير أهل الإسلام: لماذا لا يصبح الشرق العربيّ، على غرار ما يرتجى للبنان، أكثر من وطن وموئل لأبنائه ؟ لماذا لا يصبح، هو أيضًا، “رسالة حرّية ونموذج تعددّية”[69] للعالم كلّه؟
  2. وتبقى شهادة ثمينة لكنيستنا بالتكافل مع جميع الكنائس الأنطاكية الشقيقة: إنّها في الإعلان الصريح للعالم الأرحب، المرتبك والحائر إزاء ذيول التجاور الإسلاميّ المسيحيّ الذي حتّمه قيام القرية العالميّة، أنّ التعايش المحبّ بين المسيحيّة والإسلام ممكن في غد قريب، ولو عبر عذابات اليوم وآلامه ودموعه ودمائه. وعلى كنيستنا أيضًا واجب إيصال خبرتها الخاصة في طيب التعايش إلى المسيحيّة العالميّة كلّما تصدّت هذه الأخيرة لمسألة التلاقي مع الإسلام.

خاتمة

  1. إنّ رغبة الكنيسة المارونيّة العميقة هي في تصالح الإسلام مع المسيحيّة، وتصالح المسيحيّة مع نفسها في المسكونيّة، لاسيّما في النطاق الأنطاكيّ، وتصالح الإسلام مع نفسه، فيجهر بالصلاحيّة المشروعة للعقل في إدراك الحقائق الإيمانيّة، ويتصافى مع فلسفته، ومع صوفيته، ومع استئناف الإجتهاد، وتتسالم جميع المذاهب الإسلاميّة في ما بينها. والكنيسة المارونيّة، من موقعها الأنطاكيّ مع شقيقاتها الكنائس، ترى في الإسلام المُصالح مع نفسه أفضل المحاورين أصالة، وأثمن الحلفاء، وأكثرهم ضرورة في ورشة النضال من أجل حرّية الإيمان الدينيّ، والعدالة الاجتماعيّة، وحقوق الإنسان، والتعايش المحبّ بين الأجناس والثقافات، واللقاء حول السلام، في كامل أرجاء العالم العربيّ.
  2. وتلتمس كنيستنا من الله سبحانه وتعالى، بشفاعة أمّه البتول، أن يفيض عليها أنواره السماويّة لتبقى أمينة لحسّها المسكونيّ، ولارتباطها الأموميّ بالإنسان العربيّ، فترشد أبناءها وبناتها إلى أنّ مساعدة الإسلام على الخروج من محنه وعلى التقدّم في اتجاه المحبة هو في صالح المسيحيّة الشرقيّة، لا العكس، لأن الاسلام والمسيحيّة هما أصحاب مصير واحد في هذا المشرق الأنطاكيّ على الصعيد الحضاري. وقد سبق لبطاركتنا الكاثوليك في الشرق، في أوّل رسالة رعائية لهم، أن أعلنوا: “إننا [والإسلام] ننهل من تراث حضاريّ واحد نتقاسمه، وقد أسهم كلّ منا في صياغته إنطلاقًا من عبقريّته الخاصّة. إنّ قرابتنا الحضاريّة هي إرثنا التاريخيّ الذي نصرّ على المحافظة عليه وتطويره وتجذيره وتفعيله كي يكون أساس عيشنا المشترك وتعاوننا الأخويّ.[…] لقد أرادنا الله، جلّت حكمته، معًا في هذه البقعة من العالم. وإننا نقبل هذه الإرادة برحابة صدر، ونرجو أن تعمل هذه الإرادة على توسيع قلوبنا بحيث تتسع للجميع مهما كانت انتماءاتهم المختلفة”[70].
  3. إنّ كنيستنا تصلّي، في مطالع هذا الألف الثالث من تاريخنا المسيحيّ، كي يجعل الباري تعالى قبسًا من محبّته الغامرة في قلوبنا وقلوب إخوتنا المسلمين، فنتآزر بمسؤولية مشتركة لخير جميع البشر، ونعثر في أعماق ذواتنا على جرأة المحبّة، وبهاء المحبّة، وفرح المحبّة، لأنّ المحبّة هي الخيط السماويّ الذي ننسج به رجاء القلوب المسحوقة، والأبجديّة النعيميّة التي نتمتم بها سلام الله على الأرض.

                                                                              

 

توصيات النصّ وآليات العمل 

 

الموضوع  

التوصية

الآليّة

1-      تنقية الذاكرة تعزيزًا للعيش المشترك.

 

1- تعزيزاً للعيش المشترك بين المسيحيين والمسلمين وفق النموذج اللبنانيّ، يوصي المجمع بالقيام بقراءة متأنيّة وصريحة لخبرة الماضي المارونيّ – الإسلاميّ، وبشكلٍ أعمّ لخبرة الماضي المسيحيّ – الإسلاميّ في لبنان والشرق الأوسط، بهدف التوصّل إلى تنقية حقيقيّة للذاكرات والضمائر الذي يتجلّى بممارسة النقد الذاتيّ، وذلك للمضيّ معًا في بناء مجتمعٍ قائمٍ على قيم العيش المشترك.

1-أ: تسهم الجامعات المارونيّة، بالتعاون مع أهل الإختصاص، في مشروع تنقية الذاكرة من خلال العمل على قراءة مشتركة وموضوعيّة لتاريخ لبنان الحديث والمعاصر.

1-ب: إقامة ندوات علميّة وحلقات حوار هادفة في هذا المجال.

 

2- المعرفة الحقيقيّة والموضوعيّة المتبادلة.

2- من أجل أن يكون العيش المشترك بين المسيحيّين والمسلمين قائمًا على المعرفة المتبادلة في الحقيقة والمحبّة، يوصي المجمع المؤسّسات العلميّة المسيحيّة بأن تُدخل الإسلاميّات في برامجها الأكاديميّة، متمنيًا أن يحظى الدين المسيحيّ بالاهتمام عينه في المؤسّسات العلميّة الإسلاميّة.

 

2- لتحقيق هذه المعرفة الحقيقيّة والموضوعيّة المتبادلة:  

2-أ:  إعتماد ما هو متّبع في بعض المعاهد الجامعيّة الإسلاميّة-المسيحيّة في لبنان، التي تُسند إلى كلٍّ من المسيحيين والمسلمين مهمّة التعريف بديانتهم بحيث يسمع المسيحيون ما يقوله المسلمون عن أنفسهم، والمسلمون ما يقوله المسيحيّون عن أنفسهم.

2-ب: تنظيم لقاءات ومخيّمات شبابيّة إسلاميّة – مسيحيّة على صعيد المدارس والجامعات.

2-ج: تعميم رسائل مجلس بطاركة الشرق الكاثوليك، لاسيّما تلك التي تتعلّق بالحضور المسيحيّ في الشرق (1992)، والعيش المشترك بين المسلمين والمسيحين في العالم العربيّ (1994).

 

 

2-د: الإفادة بشكلٍ هادف ومدروس من وسائل الإعلام، ولاسيّما المرئيّة منها، لخدمة هذه الأهداف.

 

3- دليل مسيحيّ-إسلاميّ لتعزيز الحوار والعيش المشترك.

 

 

3- حرصًا على تعزيز العيش المشترك من خلال الحوار المنصوص عليه مرارًا وتكرارًا في الإرشاد الرسوليّ “رجاء جديد للبنان”، يوصي المجمع بإعداد دليل مسيحيّ – إسلاميّ تُعرض فيه الأمور الأساسيّة للديانتين بشكلٍ مبسّط وموضوعيّ مع ذكر المعوّقات التي تُضعف هذا العيش، والوسائل العمليّة لتجاوزها، وإبراز القيم المشتركة.

 

3-أ: تُعهَد هذه المهمّة إلى فريق من أهل العلم والفضيلة والخبرة في مسألة الحوار الإسلاميّ – المسيحيّ من المؤسّسات العلميّة المسيحيّة والإسلاميّة، على أن تعمل بالتنسيق مع اللجنة الوطنيّة للحوار الإسلاميّ – المسيحيّ ومع مجلس كنائس الشرق الأوسط.

3-ب: تشجيع المبادرات الآيلة إلى تحقيق هذا الحوار.

 

4- حوار دينيّ مسيحيّ – إسلاميّ إنطلاقاً من لبنان.

 

4- نظرًا إلى وضع “لبنان – الرسالة” المميّز على صعيد العلاقات المسيحيّة – الإسلاميّة في العالم، يوصي المجمع بتعزيز الحوار الدينيّ القائم بين المسيحيّة والإسلام إنطلاقاً من لبنان وحيثما يكون هذا الأمر ممكنًا، وهذا من شأنه تثبيت حوار الحياة على أسس عميقة.

 

4-أ: ترعى الجامعات المسيحيّة، وبخاصّة معاهد الحوار المسيحيّ – الإسلاميّ فيها، هذا الحوار وتنظّمه بالتعاون مع المؤسّسات العلميّة الإسلاميّة.

4-ب: تكرّس الأبرشيّات والرهبانيّات المارونيّة أن البعض من أبنائها للتخصّص في هذا الحوار.

 

 

 


1. ثيودوريطس أسقف قورش، تاريخ أصفياء الله، ترجمة الأرشمندريت أدريانس شكّور، المطبعة البولسيّة، لبنان، 1987، ص 145.

2. رسالة بطاركة الشرق الكاثوليك الأولى، آب 1991.

3. رؤساء الكنائس في الشرق، الرسالة الرعويّة الثالثة، 21 آب 2000، عدد 15.

4. معًا أمام الله، الرسالة الراعويّة المشتركة الثالثة لبطاركة الشرق الكاثوليك، ميلاد 1994، عدد 3.

5. الحضور المسيحيّ في الشرق، الرسالة الراعويّة المشتركة الثانية لبطاركة الشرق الكاثوليك، فصح 1992، عدد 17.

6. الحضور المسيحيّ في الشرق، عدد 50.

7. المرجع ذاته.

8. الحضور المسيحيّ في الشرق، عدد 51.

9. يوحنّا بولس الثاني، الإرشاد الرسوليّ رجاء جديد للبنان، عدد 93.

10. رجاء جديد للبنان، عدد 97.

11. يوحنّا بولس الثاني، خطابه أمام المؤمنين في مقابلة عامة، 1 أيلول 1999؛ الأوسرفاتوري رومانو، الطبعة الإنكليزية، 8 أيلول 1999، ص 7.

12. رحلة ابن جبير، بيروت 1980، ص 259.

13. البطريرك إسطفانوس الدويهي، تاريخ الأزمنة، نشره الأب فردينان توتل اليسوعي، بيروت 1951، ص 145-146.

14. البطريرك مار نصر الله بطرس صفير، خطابه في افتتاح الدورة العادية السنوية لمجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان، 1992.

15. أقدم المراجع المارونيّة التي وصلت إلينا مكتوبة باللغة العربيّة: كتاب “الهدى” (النوموقانون المارونيّ الذي ترجم إلى العربيّة عام 1059 عن أصل سريانيّ مفقود) وكتاب “المقالات العشر” لتوما الكفرطابي (كتاب دفاعيّ وضع عام 1089)، وكتاب “إيضاح الإيمان” لجبرائيل إبن القلاعيّ (خلاصة لاهوتيّة وضعت ابتداء من العام 1494).

16. الخوري ناصر الجميّل، أثر تلامذة المدرسة المارونية في أوروبا، المنارة 25 (1984)، 235-248.

17. رغم أنّ المؤرّخين مجمعون على القول بأنّ مطبعة دير مار أنطونيوس هي أولى المطابع المستقدمة إلى الشرق، فإنّهم ما زالوا مختلفين على تحديد سنة تأسيسها. فقد ذكر المطران اسطفان عواد السمعانيّ (Evode Assemani)، في كتابه (Bibliothecae Medicae Laurentianae et Palatinae codicum mss. Orientalium Catalogus, XXX: Orient, p.411)، أنّ الطبعة الأولى لكتاب المزامير قد أنجزت سنة 1585، لا 1610، وأدرج محتويات هذه الطبعة، التي تختلف بوضوح عن تلك الواردة في طبعة 1610. وتبعه في هذا الرأي سمعان السمعانيّ. لكنّ معظم المؤرخين اللاحقين (شنورر، ده ساسي، شيخو) لم يأخذوا بهذه النظريّة، وذلك لعدم العثور على طبعة 1585. والجدير بالذكر هو أنّ استقدام مطبعة دير مار أنطونيوس قزحيا قد تمّ رغم صدور إرادة سلطانيّة عن بايزيد الثاني، عام 1483، تحرّم استعمال الكتب المطبوعة تحت طائلة الموت.

18. كانت مذكرة البطريرك الحويّك، التي قدمت إلى مؤتمر الصلح في 25 تشرين الأول 1919 باسم جميع اللبنانيين وطالبت باستقلال لبنان “في حدوده التاريخيّة الطبيعيّة”، من الوثائق المؤسِّسة لقيام دولة لبنان الكبير في حدوده الحاضرة.

19. الأب ابراهيم حرفوش، دلائل العناية الصمدانيّة، منشورات الرسل، 2002، ص 658.

20. يوحنّا بولس الثاني، رسالة حول الوضع في لبنان، 7 أيلول 1989، عدد 6.

21. المطران أنطوان حميد موراني، الوجدان التاريخيّ المارونيّ بين القديم والجديد، بيروت 1981، ص 47.

22. يوحنّا بولس الثاني، خطابه أمام السلك الدبلوماسيّ المعتمد لدى الكرسي الرسوليّ، 11 كانون الثاني 1992.

23. الخورأسقف أسعد داغر، بطاركة الموارنة، المطبعة الكاثوليكيّة، بيروت، 1957، ص 104.

24. المجمع المسكونيّ الفاتيكانيّ الثاني، بيان “في علاقة الكنيسة بالأديان غير المسيحيّة“، (Nostra Aetate)، عدد 3.

25. المجمع المسكوني الثاتيكاني الثاني، دستور عقائدي “في الكنيسة” (نور الأمم)، عدد 16.

26. المجلس الحبري للحوار بين الأديان ومجمع تبشير الشعوب، حوار وبشارة، تأملات وتوجيهات في سبيل الحوار بين الأديان والتبشير بالإنجيل، 1991، عدد 38.

27. يوحنا بولس الثاني، رجاء جديد للبنان، عدد 93.

28. يوحنا بولس الثاني، عظته للشعب اللبنانيّ في القداس الختاميّ لأعمال السينودس من أجل لبنان، 11 أيار 1997.

29. البطريرك مار نصر الله بطرس صفير، خطابه في افتتاح الدورة العاديّة السنويّة لمجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان، 1992.

30. المرجع ذاته.

31. المرجع ذاته.

32. المرجع ذاته.

33. الإمام محمّد مهدي شمس الدين، الوصايا، دار النهار للنشر، بيروت، ص 50.

34. الرئيس الإيرانيّ محمد خاتمي، خاتمي يخاطب لبنان، سلسلة “شهادات النهار”، دار النهار، بيروت، أيار 2003، ص 20، 17، 16، 21.

35. البطريرك مار بولس بطرس المعوشي، رسالة لبنان في العالم العربيّ، الرسالة الرعائيّة الخامسة بعد زيارة الأعتاب الرسوليّة، 1959.

36. البطريرك مار نصر الله بطرس صفير، خطابه في افتتاح الدورة العادية السنوية لمجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان، 1992.

37. الحضور المسيحي في الشرق، عدد 10.

38. المرجع ذاته، عدد 47.

39. رجاء جديد للبنان، عدد 114.

40. معًا أمام الله، عدد 36.

41. المجلس الحبري للحوار بين الأديان ومجمع تبشير الشعوب، حوار وبشارة، تأملات وتوجيهات في سبيل الحوار بين الأديان والتبشير بالإنجيل، 1991، عدد 42.

42. المرجع ذاته.

43. حوار الحياة هو العيش اليوميّ بروح انفتاح، وحسن جوار، وتقاسم أخويّ للأفراح والأتراح.

44. حوار المبادلات اللاهوتيّة هو تعميق الفهم والتقدير المتبادلين للتراث الدينيّ وللقيم الروحيّة الخاصّة بكلّ من الدينين.

45. حوار الاختبار الروحيّ هو تشاطر الخيور الروحيّة في الصلاة والتأمّل والدعاء ونشدان وجه الله.

46. حوار وبشارة، عدد 42؛ المجلس الحبري للحوار بين الأديان، موقف الكنيسة من أتباع الديانات الأخرى، 1984، الأعداد 28- 35.

47. معًا أمام الله، عدد 24.

48. يوحنّا بولس الثاني، العبور إلى الرجاء، منشورات اللجنة الأسقفيّة لوسائل الإعلام، لبنان، 1994، ص 139.

49. راجع مثلاً: Nasser Gemayel, Les échanges culturels entre les Maronites et l’Europe, Beyrouth, 1984, p. 976-998

50. الخوري يواكيم مبارك: – المسيحيّة والإسلام في لبنان: أضواء وتأمّلات، بيروت، محاضرات الندوة اللبنانيّة، السنة 19، النشرة 1108، 1965.

Pentalogie islamo-chrétienne, Publications du Cénacle Libanais, Beyrouth, 1972-3

Recherches sur la pensée chrétienne et l’Islam dans les temps modernes et à l’époque contemporaine, Publications de l’Université Libanaise, Beyrouth, 1977

الخوري ميشال الحايك: – المسيح في الإسلام، المطبعة الكاثوليكيّة، بيروت، 1962.

Le Mystère d’Ismaël, Ed. Mame, Paris, 1964

Nouvelles approches de l’Islam, Conférences du 6 mars 1967, Cénacle Libanais, Beyrouth, in Les Conférences du Cénacle, XXIIe année, N° 9-10, 1968

Les Arabes ou le baptême des larmes, Ed. Gallimard, Paris, 1972

كمال يوسف الحاج حول “النصلاميّة”، مثلاً في:

فلسفة الميثاق الوطنيّ، مطبعة الرهبانيّة اللبنانيّة، بيروت، 1961.

في غرّة الحقيقة، منشورات الندوة اللبنانيّة، بيروت، 1966.

51. يوحنّا بولس الثاني، خطابه أمام السلك الدبلوماسيّ المعتمد لدى الكرسيّ الرسوليّ، 12 كانون الثاني 1985.

52. يوحنّا بولس الثاني، خطابه أمام السلك الدبلوماسيّ المعتمد لدى الكرسيّ الرسوليّ، 17 كانون الثاني 1999.

53. يوحنّا بولس الثاني، العبور إلى الرجاء، منشورات اللجنة الأسقفيّة لوسائل الإعلام، لبنان، 1994، ص 141.

54. المجمع المسكونيّ الفاتيكانيّ الثاني، بيان في الحريّة الدينيّة، عدد 2.

55. المرجع ذاته.

56. يوحنّا بولس الثاني، رسالته في الإحتفال باليوم العالميّ للسلام، 1 كانون الثاني 1999، عدد 5.

57. محمود أيوب، الحرية الدينية وجريمة الردة في الإسلام، دراسات إسلامية مسيحية ((Islamochristiana 20 (1994) 75 – 91، ؛سامي عوض الذيب أبو ساحليّة، جريمة الردة اليوم وآثارها في القوانين العربيّة والاسلاميّة، دراسات إسلاميّة مسيحيّة ((Islamochristiana 20 (1994) 93 – 116.

58. يوحنّا بولس الثاني، رسالته في الاحتفال باليوم العالميّ للسلام، 1 كانون الثاني 1999، عدد 3.

59. معًا أمام الله، عدد 26.

60. يوحنّا بولس الثاني، رسالته إلى رؤساء الدول والحكومات في العالم مع مبادئ أسيزي العشرة في السلام، 24 شباط 2002.

61. الحضور المسيحيّ في الشرق، عدد 47.

62. معًا أمام الله، عدد 48.

63. يوحنّا بولس الثاني، فادي الانسان، عدد 21.

64. يوحنّا بولس الثاني، رسالة الفادي، الأعداد 55 – 57.

65. المجمع المسكوني الفاتيكانيّ الثاني، قرار في التنشئة الكهنوتيّة (Optatam totius)، عدد 16.

66. حوار وبشارة، عدد 49.

67. يوحنّا بولس الثاني، رسالة الفادي، عدد 55.

68. حوار وبشارة، عدد 11.

69. يوحنا بولس الثاني، رسالة حول الوضع في لبنان، 7 أيلول 1989، عدد 6.

70. رسالة بطاركة الشرق الكاثوليك الأولى، آب 1991.