الكنيسة المارونية والأرض

مقدّمة

  1. إنّ المجمع المارونيّ، إذ يعالج موضوع الأرض، يتوخّى أن يلفت الانتباه إلى ما للأرض من قيمة، داعيًا الموارنة إلى أن يعوا بعمق تلك الحقيقة ويحبّوا الأرض، التي عاش عليها الآباء والأجداد، وانتقلت إلينا إرثًا ماديًّا وروحيًّا. هذا الإرث الذي تكوّنت من خلاله وعليه الهويّة المارونيّة، معرّض اليوم إلى مزيد من الذوبان والتناقص بسبب عوامل عديدة. وهذا ما يعرّض الهويّة المارونيّة نفسها إلى الخلل وفقدان التمايز التاريخيّ والروحيّ. فإذا ربح المارونيّ العالم كلّه وخسر الأرض التي تكوّنت فيها هويّته التاريخيّة يكون قد خسر نفسه. والموارنة، وان انتشروا في جميع أصقاع العالم وحصلوا فيها على التقدّم والرقيّ والبحبوحة والحريّة، وأسهموا في نموّ الأرض التي يقيمون عليها، يبقون بحاجة إلى الأرض التي تجسّد هويّتهم الخاصّة والتي تربطهم بتاريخهم العريق، تاريخ قداسة وصراع من أجل البقاء والشهادة على الإيمان والقيم الإنسانيّة التي تكوّنت لديهم من خلال خبرة تاريخ طويل.
  2. لذا نتوقّف أوّلاً على الثوابت اللاهوتيّة والتاريخيّة التي تؤكّد العلاقة بالأرض وضرورة الحفاظ عليها، من أجل الحفاظ على المعطيات اللاهوتيّة والتاريخيّة الخاصّة بالهويّة المارونيّة. ثمّ نتناول ثانيًا الواقع الحاليّ وما يثير من قلق ومخاوف، ساعين إلى عرض إستراتيجيّة ممكنة للحفاظ على الأرض وحسن استثمارها. وننتهي ثالثًا إلى علاقة موارنة الانتشار بأرضهم الجديدة وأرض المنشأ لكي يسهموا هم أيضًا بالحفاظ على هذه الأرض فتبقى لهم مرجعًا أكيدًا لتمايزهم الحضاريّ والإنسانيّ والدينيّ.

الفصل الأوّل : الثوابت

أوّلاً: الثوابت الإيمانيّة واللاهوتيّة

  1. إنّ مفهوم الأرض الإيمانيّ يرتكز على معطيات الكتاب المقدّس وعلى ما يستنتجه اللاهوت المسيحيّ إنطلاقًا من هذه المعطيات ومن سرّ التجسّد الإلهيّ.
  2. فالكتاب المقدّس يحدّد منذ البدء علاقة الإنسان بالأرض مستعجلاً الأسلوب الرمزيّ. فالإنسان هو ابن الأرض جُبل منها، وهي بالتالي أمّه وإليها يعود. والإنسان خُلق ليحرث الأرض ويستثمرها ويمارس سلطته على كلّ ما عليها، حتى وإن أنبتت له، بسبب معصيته، شوكًا وحسكًا وأجبرته على أن يأكل خبزه بعرق جبينه[1].

والكتاب المقدّس يخبرنا بأنّ الله دعا إبراهيم للخروج من أرضه في بلاد الرافدين والمجيء إلى أرض كنعان، ودعاه إلى أن يرث هذه الأرض له ولبنيه ليعبدوه هو وحده من دون الأوثان. وبهذا المعنى يردّد الكتاب المقدّس مرارًا أنّ الله يدعو شعبه إلى أن يقدّسوه ويتقدّسوا في الأرض التي أورثهم إيّاها[2]. من هنا، فالبُعد الأوّل في علاقة الأفراد والشعوب بالأرض التي أوجدهم الله عليها هو بُعد القداسة، أيّ عبادة الله والنموّ الإيمانيّ والانسانيّ والتحرّر من كلّ وثنٍ وإشراك.

من ناحية ثانية، فإنّ الله قال لإبراهيم عندما دعاه: “إنّي أُباركك فتكون بركة لكلّ الشعوب”. أيّ أنّ البركة الإلهيّة وميراث الأرض الذي يناله إبراهيم ونسله لا يهدفان إلى قداستهم ونموّهم وحدهم، بل أيضًا إلى أن يتحوّلوا إلى بركة للآخرين الذين لم ينالوا هذه الدعوة ولم يقع عليهم هذا الاختيار. من هنا، فالبُعد الثاني لعلاقة الأفراد والشعوب بالأرض التي أعطاهم إيّاها الله، هو بُعد الرسالة والإنارة ومشاركة الآخرين بالبركة الإلهيّة التي حصلوا عليها، مع حقّ الشعوب الأخرى بهذه الأرض مثلها مثل شعب العهد القديم.

فالبُعد الأوّل هو إذًا الاختيار والميراث من أجل القداسة والنموّ؛ والبُعد الثاني هو الدعوة للقيام برسالة مشاركة البركة مع الآخرين.

  1. واللاهوت المسيحيّ يؤكّد لنا أنّ ابن الله الأزليّ الذي أتمّ بتجسّده التاريخ الخلاصيّ، بيّن لنا ما لعلاقتنا بالأرض من عُمق معنى عندما قال: “طوبى للودعاء فإنّهم يرثون الأرض”. وهو نفسه عاش وديعًا ومتواضعًا في أرض معيّنة فغدت معه أرض التجسّد الإلهيّ، وبقداستها تقدّست كلّ بقعة من بقاع الأرض، ولم يعد هناك أرض ميعاد في مكان محدّد من العالم بل أصبحت الكنيسة هي أرض الميعاد الجديدة، ملكوت الله، الذي يستطيع كلّ إنسان أن يعبد فيه الله بالروح والحقّ (يو 23/4). ولكن يبقى دائمًا للأرض التي شهدت أحداث الخلاص وانطلاقة الكنيسة الأولى أهميّتها وميزتها الخاصّة في نظر جميع المؤمنين بالمسيح، وكذلك الأرض التي شهدت انطلاقة الكنيسة المارونيّة في نظر الموارنة.

بفضل التجسّد الإلهيّ أصبح للأرض قيمة خلاصيّة، لذا ينبغي العناية بها والمحافظة عليها واحترامها لأنّها لم تعد أرض الإنسان فحسب، بل أصبحت أرض التجسّد الإلهيّ. ومفهوم الأرض اللاهوتيّ هذا قد ترسّخ في أعماق النفس المارونيّة كما نتلمّسه في صلواتنا البيعيّة وفي كتابات آبائنا القدّيسين.

لذلك نريد أن نؤكّد هنا أنّ وجود الكنيسة في هذا الشرق ليس مصادفة بل بفعل عطيّة إلهيّة ثمينة جدًّا أعطاها الله للهدفين عينهما اللذين ذكرناهما سابقًا. فاعتبار الأرض، من قِبل الموارنة عطيّةً من الله، يجعلهم يحترمون هذه العطيّة شاكرينها للربّ عليها. وتصبح في نظرهم مساحة للعيش الحرّ الكريم وتأدية الشهادة الصادقة للمسيح والتفاعل الإنسانيّ السليم مع سواهم من الناس.

  1. وبهذا المعنى فإنّ إيمان الكنيسة ثابت اليوم أيضًا، وقد عبّر عنه بطاركة الشرق في رسائلهم المتعدّدة، أيّ أنّ لنا رسالةً في هذا الشرق لا يحقّ لنا أن نتخلّى عنها. إنّها رسالة إيصال البركة التي باركنا الله بها إلى كلّ شعوب هذا الشرق، الذي دعانا قداسة البابا يوحنّا بولس الثاني إلى الانخراط فيه وحمل همومه وإغنائه بما لدينا[3]. إنّ كلمة البابا هذه ليست مجرّد تمنٍّ بل دعوة، لا بل نبوءة عن رسالة المسيحيين في هذا الزمن. أمّا الإخوة الذين تركوا هذه الأرض إلى أراضٍ أخرى، وبمعزل عن أسباب هجرتهم القديمة والحديثة، فإنّهم هم أيضًا مباركون في الأرض التي يعيشون فيها. وإن عاشوا هذه الدعوة إلى القداسة والشهادة فهم أيضًا يكونون بركة لأرضهم الجديدة وللناس الذين يعيشون عليها.

ثانيًا: الثوابت الوجدانيّة والإنسانيّة

  1. الأرض في تقليدنا ليست ملكًا نتصرّف به على هوانا، بل هي إرثٌ من الآباء والأجداد. هذا الإرث أشبه بوديعة ثمينة أو “ذخيرة مقدّسة”.
  2. التعامل مع هذا الإرث يصلنا بالخالق كما يصلنا بالأجيال السابقة التي تركت فيه بصمات لا تمحى من تعبها ودمها. فالعلاقة التي تربطنا بالأرض-الإرث علاقة روحيّة، وبالتالي ما تعطينا الأرض هو أكثر بكثير من الثمار والمواسم الماديّة. فمن خلال هذه العلاقة، نؤكّد هويّتنا الخاصّة ونتواصل مع تاريخنا. إنّ أرضنا هي بحقّ ذاكرة حيّة وهي، في الوقت نفسه، مدرسة تعلّمنا الصبر والرجاء والقناعة والوداعة والصدق والإخلاص والكرم والعطاء والثبات والجرأة. وإذا كان قسم من المورانة قد اضطرّوا إلى التغرّب عن أرضهم لأسباب قاهرة، فإنّهم بأكثريّتهم ما زالوا يحنّون إليها وإلى ما تمثّل من قيمٍ عريقة. من هنا فإنّ الإنسان المارونيّ مطبوع بهذا الطابع الكنسيّ والروحيّ الذي يميّزه. والأرض تسهم بطريقة مباشرة في أنسنة الإنسان المارونيّ وتطبعه بطابعها ومميّزاتها الخاصّة. علاقتنا بها لا يمكن أن تكون نفعيّة وحسب، بل هي أيضًا وفي الأساس وجدانيّة وإنسانيّة.
  3. إذا كان ما يتعرّض له الموارنة في أرض المنشأ من ضغوط وضيق يبرّر إنسانيًّا هجرة العديد منهم إلى بلدان أخرى تستضيفهم وتؤمّن لهم ما لم يحصلوا عليه في أرضهم، فإنّ ذلك يحرمهم، في الوقت نفسه، التواصل الوجدانيّ مع أرضهم وتاريخهم وحضارتهم، ويعرّضهم لأن يصبحوا شعبًا من دون ثوابت وجذور. لذلك تحثّ اليوم كنيستنا أبناءها المنتشرين، على توطيد علاقتهم الروحيّة بأرض الأجداد وعلى ارتباطهم بالمقيمين فيها ليحافظوا عليها.

ثالثًا: ثوابت تاريخيّة

1. الأرض مكوّنة والهويّة التاريخيّة والاجتماعيّة والسياسيّة

  1. إرتبط التاريخ المارونيّ بلبنان أرضًا ووطنًا، من دون أن يتنكّر الموارنة لجغرافيّة نشأتهم وانتشارهم القديم والحديث من قورش وأنطاكية وضفاف العاصي في شمال سورية إلى قبرص وفلسطين ومصر، وإلى أوروبا وأميركا وأفريقيا وأوستراليا في حقبات تاريخيّة متباعدة، ونتيجة ظروف دينيّة واقتصاديّة وسياسيّة صعبة وقاهرة[4].

لكنّ الهويّة التاريخيّة المارونيّة، التي لا يمكن التنكّر لها، قد تأصَّلت أوّلاً في الإطار الأنطاكيّ، خاصةً في لبنان حيث نمت وتطوّرت وترسّخت الكنيسة المارونيّة. والمجتمع المارونيّ تأثّر بالبيئة وبالجغرافيا التي عاش فيها، وزرع وسقى أرضها من عرق جبينه، فأمّنت له الضروريَّ من أجل العيش الكريم واحتمى بها من صروف الدهر والإضّطهادات، فانطبع بها وطبعها بإيمانه وديناميّته الثقافيّة وانفتاحه على مختلف الحضارات.

2. الأرض وطن ورسالة

  1. الأرض هي الوطن والكيان، وقيمتها هي بما تجسّده من قيم وخبرة وبُعد حضاريّ ووجوديّ. فتوسُّع الموارنة إلى كلّ لبنان والتعايش مع غيرهم من الطوائف نابع من قيمهم الإيمانيّة والرسوليّة. ولم تكن الأرض لهم وحدهم، بل التقوا عليها كلّ تائق إلى الحريّة والعيش الكريم. وهكذا تكوّن جبل لبنان وبالتالي لبنان وارتبط اسمه بالموارنة جزءًا أساسيًّا من كيانه التاريخيّ والسياسيّ.

ولبنان – الأرض كان ولا يزال وطن التلاقي وقبول الآخر والانفتاح عليه وتبادل الخبرات الحياتيّة والحضاريّة معه، على تناقضها، ولو أدّى هذا التناقض إلى نزاع دمويّ وصراع من أجل البقاء أحيانًا.

وكلّ أرض سكنها الموارنة اعتبروها أرضهم وتفاعلوا معها، من دون أن ينسوا أرض المنشأ ولاسيّما أرض لبنان التي تبقى في وجدانهم أرض أجدادهم وقدّيسيهم ومرجعيّتهم البطريركيّة.

3. الأرض إرث وطنيّ وجماعيّ: الحفاظ عليها يحفظ الوطن والأقليّات التي تكوّنه

  1. الأرض قيمة إيمانيّة عند المسيحيّين عامّة وعند الموارنة خاصّة، نابعة من إيمانهم بالتجسّد. وذاكرتهم الجماعيّة تدرك أهميّة التراكم الحضاريّ والتاريخيّ على أرضهم. فالأرض، في نظرهم، إرث وليست رزقًا للتجارة به أو ملكًا للتصّرف فيه بهوى. من هنا كان همّهم تسليم الأرض – الأمانة كاملةً إلى الأجيال الآتية بعدهم من دون تبديد أو استبدال: “معاذ الله أن أبيعك ميراث آبائي”[5]. من هنا مبدأ “وقفيّات” العائلات عند الموارنة وما يعرف بالوقف الذُرّي. فالحفاظ على الأرض هو حفاظ على الهويّة، والحفاظ على الهويّة حفاظ على الكيان والديمومة.

4. الكنيسة المارونيّة والأرض أمس واليوم

  1. الموارنة قدّسوا الأرض وتقدّسوا بها. إستعاروا منها التشابيه وأدخلوها في صلواتهم[6]، كما وضعوا أعيادًا “زراعيّة” مثل عيد سيّدة الزروع وعيد سيّدة الحصاد. كان كلّ الموارنة يعملون في الأرض من بطاركة وأساقفة ورهبان وعلمانيّين. فالأرض، في ما يختصّ بهم، مدرسة حياة وروحانيّةٍ، كانوا ينشّئون الشباب المارونيّ عليها. وقد عمدت الكنيسة المارونيّة، ومن بعدها باقي رجالات الإقطاع في لبنان، إلى نظام الشراكة من أجل استثمار أراضيها ومن أجل حثّ الموارنة الذين لا يملكون أرضًا على العمل في الأرض. هذه الشراكة أدّت تاريخيًّا إلى تأسيس قرى جديدة حول الأديار.
    1. إنّ تحوّل المجتمع المارونيّ من مجتمع ريفيّ زراعيّ إلى مجتمع مدينيّ تجاريّ، وصناعيّ وخدماتيّ، بما له من حسنات، قد حمل معه بعض التأثيرات السلبيّة في أخلاقيّة الموارنة وروحانيّتهم وتقاليدهم. وتبدّلت همومهم من تأمين الحاجات (فلاح مكفيّ سلطان مخفيّ) إلى التفتيش عن الكماليّات ورغد العيش، ولو على حساب ضميرهم وكرامتهم ومبادئهم الإنسانيّة والمسيحيّة أحيانًا.

فالعمل في الأرض، قبل أن يكون بهدف نفعيّ أو رياضيّ، هو قيمة مسيحيّة وروحيّة. من هنا كان المبدأ الرهبانيّ “صلّ واعمل”.

والتاريخ يشهد بأنّ جميع الأديار القديمة وكذلك أيضًا مقارّ الأساقفة وكنائس الرعايا، كانت كلّها تملك أوقافًا وأملاكًا[7] يدأب فيها الرهبان الموارنة والأساقفة أحيانًا كثيرة مع المؤمنين الشركاء على العمل. وقد عمدت الرهبانيّات بعد إعادة تنظيم الحياة الرهبانيّة في أواخر القرن السابع عشر إلى الإهتمام بالأرض، وأصبح الرهبان رائديّ الزراعة فاستعان بهم الأمراء لتعليم رعاياهم الكتابة والقراءة والعناية بالأرض.

  1. هذه الشراكة بالعمل في الأرض، ما بين الرهبان والخوارنة والأساقفة أحيانًا من جهة، والمؤمنين من جهة أخرى، جعلت حياة المؤمنين مطبوعة بالأبعاد الروحيّة التي كان أكليروسهم ورهبانهم يعيشونها ببساطة وعفويّة. وكما كانت الشركة في العمل، كذلك كانت في الصلاة الخورسيّة والإفخارستيّا والعبادات. لذلك لا بدّ من عودة إلى الأرض وإلى روح الشراكة والوحدة بين الإكليروس والرهبان والمؤمنين بأساليب حديثة ومتطوّرة، مع المحافظة على ما اكتسبناه من قيمٍ جديدة ناتجة من الانفتاح المدينيّ ومواكبة ركب الترقّي العالميّ.

رابعًا: ثوابت بيئيّة

1. من الناحية الوجدانيّة والروحيّة

  1. لقد أحبّ المارونيّ الأرض التي أُخذ منها، فسقاها من دمه وعرقه دفاعًا عنها واعتناءً بها. أكرمها فأكرمته وأشبعته من خيراتها. كما كان له بها وجدانيّة فتغنّى بها[8] وحافظ عليها، لأنّها أوّلاً من أعمال الله الحسنة، وثانيًا لكي تحافظ عليه وتغذّيه وتحميه. فالأرض هي أمّ كلّ حيّ: “أنت من التراب وإلى التراب تعود” (تك 3/19) وهي مقدّسة لأنّها تضّم رفات الآباء والأجداد والقدّيسين.

2. من الناحية الطبيعيّة والبيئيّة

  1. البيئة هي الإطار الذي عاش ويعيش فيه الإنسان ماضيًا وحاضرًا ومستقبلاً. فقديمًا عرف المارونيّ كيف يحافظ على البيئة الطبيعيّة من دون أيّ تشويه. إستعمل عناصر الطبيعة في عمله وبناء منزله وطريقة عيشه وأكله. أمّا مارونيّ اليوم، شأنه شأن المجتمع الإستهلاكيّ، فهو معرّض لإهمال الطبيعة وهدر الثروات والتعاطي معها بطريقة أنانيّة، مفكّرًا فقط بمنفعته الآنيّة.

من ناحية أخرى، إنّ موجة التصحّر الناتجة عن قطع الأشجار من دون زرع مكانها، قد أفقدت لبنان والموارنة تراثًا طبيعيًّا نادرًا. يكفي أن نتأمّل كم شجرة أرز بقي عندنا من أرز لبنان الذي يتغنّى به الكتاب المقدّس ويمتدحه، وأن نرى ما قضت عليه الحروب والحرائق المفتعلة وغير المفتعلة من ثروات حرجيّة، وما يُقتلع يوميًّا من أشجار، لكي ندرك حجم الكارثة التي وصلنا إليها.

بالإضافة إلى ذلك، إنّ الاستمرار في استعمال المواد المصنّعة التي لا تتحلّل في الطبيعة، ناهيك عن رمي النفايات بطريقة عشوائيّة، يؤدّي إلى تشويه الطبيعة لمدى طويل، لاسيّما أنّه ليس عندنا توجيه وتربية بيئيّة لا في العائلات ولا في المدارس. بيئتنا في الأساس غنيّة وصالحة، لذا ينبغي المحافظة عليها وعدم إفسادها. وكنيستنا المارونيّة تتضامن تلقائيًّا مع العديد من المنظّمات البيئيّة الدوليّة والجمعيّات الوطنيّة والمحليّة، وتشجِّع أبناءها على الانخراط فيها والتعاون معها من أجل الحفاظ على بيئةٍ سليمة.

3. من الناحية الصحيّة

  1. إذا كان الإنسان ابن بيئته، فالبيئة تؤثّر سلبًا أو إيجابًا في صحّة الإنسان. وليس أفضل من احترام الطبيعة للحفاظ على الصحّة. وما من شكٍّ في أنّ نوعية عيش المارونيّ في الماضي كانت أسلم من طريقة عيش مارونيّ اليوم. وإن التلوّث الناتج عن الحضارة المُمَكْنَنَة والمصنّعة ينعكس سلبًا على صحّة الإنسان الذي لم يعِ بعد، كما ينبغي، الأخطار البيئيّة التي تتهدّده حاضرًا ومستقبلاً نتيجة إهماله أو أنانيّته في سبيل كسبٍ ماديّ سريع. 

4. من الناحية الجماليّة والسياحيّة

  1. إنّ طبيعة الأرض التي عاش عليها الموارنة كانت جميلة بتنوّعها. كثيرًا ما وصفها وأعجب بها الرحّالة والمستشرقون. ويكفي بالتالي عدم تشويه جمالها (مثلاً: قطع الأشجار أو رمي النفايات فيها) لكي تبقى إطارًا حياتيًّا سليمًا يحمي الإنسان ويفتنه ويجتذب السيّاح إليه. ورغم الإهمال البيئيّ الذي تعرّضت له هذه الأرض، فهي لا تزال مركزًا مهمًّا للسياحة البيئيّة التي نشطت حديثًا.

5. من الناحية العمرانيّة والتراثيّة

  1. لقد ترك لنا موارنة العصور السابقة تراثًا عمرانيًّا نابعًا من علاقتهم بالأرض وبالبيئة الطبيعيّة. هذا التراث، على بساطته، يكوّن غنىً حضاريًّا لا يستهان به. ولكن، بسبب التطوّر المعماريّ الحديث، أُهمل القديم وكدنا نفقد معالم هامّة من تاريخنا وحضارتنا. لذلك يحثّ آباء المجمع أبناء كنيستهم وجميع المواطنين على إعادة الإعتبار إلى العمارة التراثيّة، كما ينوّهون بمحاولات العودة، التي بدأت حديثًا، إلى المعطيات القديمة في الفنِّ والهندسة وتطويرها لتتجاوب مع حاجات العصر.

الفصل الثاني : الأرض واقع ومرتجى

  1. بعدما توقّفنا في القسم الأوّل على الثوابت، نتناول الآن الواقع الراهن، كما نحاول أن نكوّن رؤيا مستقبليّة للحدّ من سلبيّات هذا الواقع وتطوير ما فيه من إيجابيات. فلعلّ كنيستنا تسهم هكذا مساهمة فعّالة، لا بعرضها للسلبيّات والتشكّي مما وصلنا إليه وحسب، بل أيضًا بتكوين نظرة جديدة إلى الأرض تطابق مع الثوابت الإيمانيّة والتاريخيّة، وتتبنّى خطّة عمليّة للحفاظ عليها وحسن استغلالها، فتحفظ للأجيال القادمة حظوظًا للبقاء والاستمراريّة، وللنموّ نموًّا سليمًا متوازنًا، وللعيش بكرامة في ميراث الآباء والأجداد.

أوّلاً: الواقع الراهن

  1. تنظر كنيستنا اليوم بكثير من القلق إلى ما تناهت إليه أوضاع الأرض عندنا، في بلدان الإطار البطريركيّ عامّة، وفي لبنان خاصّةً. وهذا القلق يتزايد يومًا بعد يوم بسبب هجرة الأرض سنًة بعد سنة وتعرّضها للإهمال والبيع. ففي بعض البلدان عمدت الأنظمة الحاكمة إلى تأميم الأراضي الخاصّة فحرمت بالتالي المسيحيّين، أسوةً بغيرهم، من حقّهم المقدّس. أمّا في بلدان أخرى، فبفعل الحرب والتهجير، اضطُرَّ المسيحيّون إلى البعد عن أرضهم. وهذا ما عرّضهم ويعرّضهم اليوم للتخلّي عنها أو إهمالها أو بيعها كما هي الحال في قبرص ولبنان وفلسطين. هذا الوضع المستجدّ، إذا بقيت الحال كما هي عليه، يدعو إلى التساؤل عن الوجود المسيحيّ عامّةً في الشرق والمارونيّ خاصّةً، وفي ما يتعلّق بلبنان، عن الوطن الرسالة والعيش الحرّ المشترك والمتفاعل مع الآخرين[9].
  2. إنّ الإحصاءات تدلّ اليوم على أنّ مسيحيّي لبنان قد فقدوا في الثلاثين سنة الأخيرة قسمًا كبيرًا من أراضيهم. وهناك مناطق أصبحت شبه خالية من الوجود المسيحيّ الفاعل، وقد بيعت أجزاء كبيرة منها إلى غير المسيحيين من لبنانييّن وغير لبنانييّن. كما أنّ الإقبال على شراء أراضٍ، في المناطق المعروفة طوال التاريخ على أنّها مسيحيّة، من قِبَل غير المسيحيّين والأغراب، يقوى يومًا بعد يوم. فالأرض تكاد تتحوّل من إرثٍ مقدّس ورزق أنعم به الله على الإنسان، إلى سلعةٍ تجاريّة، طمعًا بالربح السريع. ولعلّ الآفة الكبرى، عند اللبنانيّين عامّةً والمسيحيّين والموارنة بنوع خاص، هي الهجرة من الريف إلى المدينة، طلبًا للوظيفة والعمل والعلم ولما توفّره المدينة من إمكانيّات تطوّرٍ علميّ واجتماعيّ ووسائل راحة وتسلية. هذه الآفة التي بدأت في منتصف القرن العشرين أدّت إلى إهمال الأراضي وعدم استغلالها والاستهتار بقيمتها الماديّة والمعنويّة.
  3. الواقع الراهن يشير إلى أنّ المارونيّ إنسان طموح مغامر، يعشق التطوّر والترقّي ويندفع دائمًا إلى ما يظن أنّه نافع ومفيد له، ولو كلّفه ذلك البُعد والإغتراب والانقطاع عن بيئته وتاريخه وأرضه. ولكن ألا يمكن أن يحصل على ذلك من دون أن يتخلّى عن تلك؟ وهل يُعقل أن يتخلّى الموارنة عن أرضهم وحضارتهم وعن الرسالة التي خصّهم الله بها في هذا الشرق؟ وهل يقدر الموارنة أن يحافظوا على تمايزهم إذا ما تخلّوا عن أرضهم ومعالم تاريخهم؟ نحن نعتقد أنّ الموارنة اليوم ما زال لديهم ما يكفي من إمكانيّات ومزايا ووسائل بشريّة تخوّلهم أن يترقَّوا، لا بل أن يسيروا في طليعة موكب التطوّر الإنسانيّ، مع المحافظة، وربّما فقط بالمحافظة على أرضهم وقيمهم وتراثهم ورسالتهم، من دون أن يتراجعوا عمّا اكتسبوا من إمكانيّات وتطوّر نتيجة انخراطهم في المجتمع المدينيّ. ولكي يكون ذلك لا بدّ من رؤيا مستقبليّة وإستراتيجيّة تنمويّة شاملة.

ثانيًا: استراتيجيّة تنمويّة شاملة للحفاظ على الأرض

  1. هذه الاستراتيجيّة التنمويّة الشاملة تنطلق من الواقع الراهن الذي أشرنا إليه سابقًا. إذ ينبغي الأخذ بالإعتبار المؤثّرات السلبيّة التي أدّت إلى إهمال الأرض وهجرها، وربّما أحيانًا إلى بيعها. إنّ المجتمع المارونيّ تحوّل بسرعة، في النصف الثاني من القرن المنصرم، من مجتمع زراعيّ إلى مجتمع خدماتيّ. ولم تعد الزراعة التقليديّة كافية لمواكبة مسيرة العلم والتطوّر الاجتماعيّ والانفتاح العالميّ. والدولة، بدل من أن تهتمّ بالمزارع وتدعمه ليبقى في بيئته الطبيعيّة وليواكب من حيث هو، ومع اهتمامه بأرضه، مسيرة التطوّر، أهملته بغيابها عن المناطق الريفيّة وعدم عنايتها بالزراعة وتوفير الطرق الحديثة لتسهيل العمل وزيادة الإنتاج وتنويعه مع الإهتمام بإيجاد الأسواق الخارجيّة لتشجيع التصدير. لقد ترك المزارع وشأنه من دون أيّ دعم أو توجيه أو تعويض في حال حصول النكبات الطبيعيّة والقضاء على المواسم. مع العلم بأنّ غالبيّة اللبنانييّن، ومنهم الموارنة، هم من صغار الملاّكين، وبالتالي مدخولهم العاديّ من الزراعة لم يعد كافيًا لسدّ الحاجات المتكاثرة من تعليم واستشفاء وسكن. لذلك راحوا يفتّشون عن وظائف وخدمات تؤمّن لهم مدخولاً ثابتًا وضمانات تعليميّة واستشفائيّة.
  2. هذه المعطيات تدفعنا إلى الإقتناع بأنّ دعوة الموارنة إلى العودة للاهتمام بالأرض ستبقى تعبيرًا عن أمنية لن تجد أيّ صدى إيجابيّ، الاّ إذا استندت إلى رؤيا أو إستراتيجيّة تنمويّة شاملة، تكون الزراعة واحدة من مكوّناتها. فالتنمية هي مجموعة التغييرات الذهنيّة والاجتماعيّة التي تنهض بالشعوب وتدفعها إلى زيادة إجماليِّ الناتج الفعليّ لديها على نحوٍ تراكميّ ومستديم. وهي نتيجة فكر سياسيّ يعبَّر عنه بخيارات اجتماعيّة واقتصاديّة يَعقبها تنفيذٌ على المدى البعيد. لذا ينبغي أن تتضافر جميع القوى: الدولة والكنيسة والمؤسّسات، لوضع هذه الإستراتيجيّة. مع العلم أنّه، نظرًا إلى قصر المسافات، يمكن الإهتمام بالرّيف من دون التخلّي عن المصالح الخاصّة في المدن.
  3. ولعلّ الأمور التالية هي أهمّ ما ينبغي أن يتمّ التركيز عليه:

1.  على الدولة أن تعي أهميّة الأرض وتلتزم المحافظة عليها ومساعدة المزارعين على حسن استغلالها. كما عليها أن تسهر على عدم بيعها من الغرباء بتطبيق قانون تملّك الأجانب تطبيقًا سليمًا[10]، فتضع حدًّا للمضاربات العقاريّة الفوضويّة التي طبعت الثلاثين سنة الأخيرة، وأدّت، في بعض المناطق، إلى تحوّل فاضح لملكيّة الأرض من طائفة إلى طائفة أخرى. هذا إذا كانت الدولة واعيةً أهميّة العيش المشترك والتفاعل والإنصهار بين اللبنانييّن.

2.  على الكنيسة، برجالاتها العلمانييّن المسؤولين عن سياسة الوطن، وبسلطتها الروحيّة، أن تعمل وتحرّك إدارات الدولة لتفعّلها كما ينبغي. وعليها أن تتخّذ المبادرات الممكنة، إنطلاقًا من أملاك الكنيسة الخاصة وبالتعاون مع العلمانييّن، لإقامة تعاونيّات زراعيّة فعّالة تؤدّي إلى تشجيع المزارعين والشباب بنوع خاصّ على العودة إلى الريف واستغلال أرضهم بطريقة جديدة ومجدية. هذه التعاونيّات يمكن أن تطوّر فكرة الشراكة القديمة التي كانت قائمة بين الأوقاف والأديار من جهة، والعلمانيين من جهة أخرى. على هذا الصعيد تشجّع الكنيسة المارونيّة الشباب على شراء أرضٍ وبيوت خاصّة بهم في الأرياف إنطلاقًا من مبدأ قوامه أنّه على كلّ مارونيّ أن يكون مالكًا.

3.  على الدولة أن توجّه الإنتاج الزراعيّ المحلّي وتحميه من المضاربة الخارجيّة وأن تؤمّن إمكانيّة تصدير الفائض منه إلى الأسواق الخارجيّة. وإلاّ فالمزارع سيتعرّض لليأس فيهمل الأرض ويفتّش عن وظائف خدماتيّة تؤمّن له العيش الكريم.

4.  على الدولة والكنيسة أن تتعاونا من أجل توفير المؤسّسات التربويّة والاستشفائيّة والخدماتيّة اللازمة في المناطق الريفيّة، مع إمكانيّة إنشاء مصانع صغيرة أو محترفات مهنيّة لتوفير مجالات العمل لأبناء الريف، حتى لا يفرغ من أهله وتزدحم المدن وتُهمل الأرض.

5.  التعاون بين الكنيسة والدولة ضروريّ أيضًا لتعديل قوانين الأوقاف وتبسيط المعاملات العقاريّة سواء للحفاظ على الأراضي أو استثمارها بطرق أفضل ممّا هي عليه الآن.

6.  على الكنيسة أن تسعى، مع مؤسّسات أجنبيّة كالسوق الأوروبيّة المشتركة ومنظّمة التغذية العالميّة، إلى الإستفادة من الخبرات العالميّة لاستغلال الأراضي بحسب تنوّع المناخ والبيئة. إنّ الترشيد الزراعيّ وتنوّعه وتصنيع المواد الزراعيّة قدر المستطاع، هذه كلّها أصبحت من الضروريّات من أجل إنقاذ الزراعة وتنميتها.

7.  إنّ تنمية الثروة الحرجيّة من شأنها أن تسهم مساهمة فعّالة في الحفاظ على بيئة سليمة، كما تشجّع السياحة والاصطياف. هناك مساحات خُضر ينبغي الحفاظ عليها ومساحات أخرى أصبحت جُردًا ينبغي تحريجها. فتعاون الكنيسة والدولة ضروريّ هنا أيضًا لإنماء هذه الثروة الطبيعيّة وزيادة عدد المحميّات والأحراج المصانة. تشجّع الكنيسة إتخّاذ مبادرات جدّية من أجل تحريج المناطق اللبنانيّة، كزرع غابات على اسم جاليات الانتشار المارونيّ أو على اسم جمعيّات ومنظّمات ونوادٍ محليّة.

8.  في لبنان أراضٍ كثيرة يمكن الإستفادة منها زراعيًّا إذا ما توافرت لها مياه الريّ. لذا ينبغي الإستفادة ممّا يفيض الله على أرضنا طوال فصل الشتاء من أمطار وثلوج، وممّا يتفجّر عندنا من ينابيع، بإنشاء سدود وبرك لجمع هذه المياه وتوظيفها في خدمة الزراعة.

9.  يبقى أن الأهمّ، من أجل الحفاظ على الأرض واستثمارها، هو أن نعرف قيمتها فتنشأ الأجيال الجديدة على حبّها والعناية بها. لذلك ينبغي وضع سياسة تربويّة متكاملة بدءًا من العائلة مرورًا بالمؤسّسات التربويّة والجامعيّة، سواء أكانت رسميّة أم خاصّة. هذه السياسة تهدف إلى تعريف الأجيال الجديدة طبيعة أرضنا وغناها، وإلى تشجيع الخبرات الزراعيّة الناجحة وتنظيم الندوات المتعلّقة بالأرض والتراث، ووضع الكتب والمجلاّت وجميع وسائل المعرفة التي تتناول الطبيعة وتقاليد القرى. كما أنّ إحياء المهرجانات الزراعيّة وحثّ الشبيبة على المشاركة فيها وفي مواسم القطاف والغلّة، هو من أنجح الوسائل للتوعية على قيمة الأرض ومحبتها.

  1. حاليًّا ومن أجل الحفاظ على الأراضي والحدّ من بيع المزيد منها، وربّما أيضًا من أجل شراء أراضٍ جديدة، لا بدّ من إنشاء صندوقٍ تعاونيّ أو شركة عقاريّة أو مصرف خاص، بإشراف البطريركيّة المارونيّة وبتمويل المسيحييّن الأغنياء ولا سيّما الموارنة منهم في لبنان وعالم الانتشار. وهذا المصرف سيعمل، لا طمعًا بالربح والاستثمار، بل لإنقاذ العقارات المعرّضة للبيع، بِرهنها وإقراض أصحابها أموالاً هم بحاجة إليها. ومن شأنه، إذا توافرت لديه القدرات، أن يسهم أيضًا في إحياء البلدات والقرى التي هُجِّر أبناؤها إبّان الحرب، وفي إنشاء مشاريع زراعيّة رائدة في مختلف المناطق.

وبدون تدخّل من هذا النوع، ستبقى الأراضي معرّضة للبيع وستفقد الكنيسة المارونيّة، مع مرور الوقت، قسمًا كبيرًا مما تبقّى لها من مقوّمات بقاء.

الفصل الثالث : الأرض وموارنة الانتشار

  1. إنّ موارنة الانتشار، المقيمين خارج إطار بطريركيّة أنطاكية، يشاركون الإنسان المعاصر جميع أبعاد الحياة الإنسانيّة وقِيمها. وهم يتحسّسون المشاكل العالميّة الناتجة من التطوّر الصناعيّ والتي تهدّد جميع أبناء الأرض بالتلوّث والأوبئة والإختراقات الحاصلة في الفضاء الذي يحمي كوكبنا من الأشّعة والغازات السامّة. كما أنّهم يعون أهميّة علاقة الإنسان بالطبيعة والأرض، وضرورة سلامة النتاج الزراعيّ، وتأثير كلّ ذلك على صحّة الإنسان الجسديّة والنفسيّة وإنعكاسها المباشر على روحانيّته ومستقبله. على هذا الصعيد يلتقي موارنة الانتشار إخوتهم الموارنة المقيمين في الإطار البطريركيّ، كما جميع ذويّ الإرادات الطيّبة، في العمل الملتزم من أجل الحفاظ على الأرض والبيئة كثروة عالميّةً مشتركة وخيرًا عامًا لجميع البشر. والإنسان المعاصر يتثبّت يومًا بعد يوم من حقيقة انتمائه إلى عالم موحّد. وقد ساهمت وسائل الاتصال وطرق المعرفة المتطوّرة في تقصير المسافات بين قارّة وأخرى وربط جميع أطراف العالم بعضها ببعض، ما يتيح للإنسان اليوم بأن يشعر بشموليّة الإنتماء إلى العالم، وبأنّه لم يعد مواطن بلد واحد فحسب، بل أصبح العالم كلّه بلده.

ولعلّ المارونيّ، بفضل انتشاره في أكثر أطراف العالم، يختبر واقع الشموليّة هذا بطريقة بديهيّة، ربمّا أكثر من الشعوب الأخرى. ولكنّ الإنسان المعاصر بدأ يشعر أيضًا بأهميّة الانتماء الحضاريّ التاريخيّ، وبأنّ عالم اليوم هو وريث هذا التراكم الذي خلّفته الأجيال السابقة. لذا لا يمكن اقتلاع الإنسان من جذوره التاريخيّة، لا بل ينبغي المحافظة على هذه الجذور وترسيخ العلاقة بها، ليبقى الحاضر على إتصال بالماضي فيتغذّى من غناه، وينمو بالحفاظ على أصالته وتمايزه. إنطلاقًا من هنا يتوجّه المجمع المارونيّ إلى موارنة الانتشار ليذكّرهم بأنّهم حاملو رسالة فريدة نابعة من علاقتهم بأرضهم الجديدة وعلاقتهم بأرض المنشأ.

أولاً: علاقة موارنة الانتشار بأرضهم الجديدة

  1. إن انتشار الموارنة اليوم في أكثر أنحاء العالم يمكن اعتباره غنىً لهم وللعالم. فالموارنة حملة تراث وقيم روحيّة وإنسانيّة، ينشرونها ويشهدون عليها حيث يحلّون. والخبرة التاريخيّة التي عاشها الآباء والأجداد في علاقتهم بالأرض، فقدّسوها وتقدّسوا بالتعامل الأمين والصادق معها، تبقى مترسّخة في نفوس الأبناء، حتى ولو تغيّرت ظروف حياتهم. فالكينونة الإنسانيّة هي نتيجة لتراكم معطيات طبيعيّة وخبرات وجدانيّة تتناقلها الأجيال، لتكوِّن مع مرور الوقت شخصيّة مميّزة لشعب أو لحضارة. وعلى أساس ما ورد في القسم الأوّل حول الثوابت الإيمانيّة والثوابت التاريخيّة عند الموارنة، يمكن القول بأنّ المارونيّ، حيث ما وجد، سيبقى طابع هذه الثوابت يؤثّر في نفسيّته وسلوكه لأجيال عديدة. فعلى موارنة الانتشار أن يعوا هذه الثوابت، فتكون محبّتهم لأرضهم الجديدة، في البلدان التي ينتمون اليوم إليها، مُخْلِصة وصادقة. فهي أرض استضافتهم وساعدتهم على تكوين مستقبل وأسرة. وأمّنت لهم، في بعض الحالات، ما لم تؤمّنه أرض المنشأ للآباء والأجداد، من سهولة عيش وراحة وضمانات عديدة، وربّما أيضًا ثروات وشهرة. من واجبهم إذن ومن حقّ هذه الأرض عليهم، أن يُخلصوا لها ويحبّوها ويرتبطوا بها مصيريًّا، لأنّها تحتضنهم وتُفسح لهم في تحقيق طموحاتهم المشروعة وبناء مستقبل واعد لهم ولبنيهم. في هذه الأرض الجديدة يعبّر الموارنة عن إيمانهم بالله، بحسب طقوس وتقاليد توارثوها عن الأجداد، فيشهدوا على الأبعاد الإيمانيّة والروحانيّة المتأصّلة فيهم. وهكذا ينقلون غنى تقاليدهم وإيمانهم إلى أبناء هذه الأرض، ويسهمون في تقديسهم وإغنائهم ونقل البشرى المسيحيّة ربّما إلى شعوب أخرى، ويشهدون أمامهم على غنى التراث المسيحيّ الشرقيّ، الذي يتحدّرون منه وينتمون إليه.

ثانيًا: علاقة موارنة الانتشار بأرض المنشأ

1. الواقع

  1. لقد أصبح عدد الموارنة في الانتشار أضعاف عدد الباقين منهم في أرض المنشأ. والجميع يعلم بأنّ الظروف التاريخيّة، التي دفعت بأعداد منهم إلى ترك أرضهم وأوطانهم، كانت ظروفًا قاهرة، نتيجةً لحروب واضطهادات وضيقٍ ماديّ. إذ قليلون هم الذين قرّروا الهجرة عن طيبة خاطر، بل أكثرهم غادروا بلادهم في غالب الأحيان مقهورين، مضطرين إلى السفر بحثًا عن باب الرزق والعيش الحرّ الكريم في بلدان بعيدة. والأخبار عن معاناة الأجيال الأولى في بلاد الانتشار وما تعرّضوا له من أخطار وصعوبات، ما زالت حتى اليوم حاضرة في ذهن الأحفاد، وهي مدعاة فخر لهم واعتزاز، كما أنّها ترسم أيضًا خبرة إنسانيّة مؤثّرة، تحرّك العواطف وتذكّر بماضٍ يستحق أن يُدوّن في تاريخ الموارنة الحديث.
  2. هؤلاء المغتربون الأول غادروا أوطانهم مقهورين إذًا، لا على يدّ أهلٍ أحبّوهم ولا هربًا من أرضٍ تفانوا في خدمتها، بل بسبب ظروف قاسية وظالمة. لذلك بقي حنينهم للأوطان قويًّا، وكذلك تعاطفهم مع الأهل، فأمدّوهم بالمساعدات كلّما توافرت لديهم الإمكانات. ولقد ربَّوا أبناءهم وأحفادهم على حبّ الوطن والحنين إلى المنشأ، مركز بطريركيّتهم وقدّيسيهم. وعندما لحقت بهم دفعات جديدة من المغتربين، كانوا يستقبلونهم ويمدّون إليهم يدّ المساعدة، ليوفّروا عليهم قسطًا من المعاناة التي قاسوها هم من قبلهم. ويمكن القول بأنّ عمليّة الانتشار، منذ النصف الأوّل من القرن التاسع عشر حتى أيّامنا، ما زالت قائمة، ولو اختلفت الظروف والأسباب، وبأنَّ هذا الانتشار ما زال متحسّسًا جدًا لمشاكل أوطان المنشأ، وما زال يتعاطف مع المقيمين فيها، وهو مستعدّ للمساهمة في إيجاد الحلول الحياتيّة لأهله في هذه الأوطان، ولكن ضمن خطط مبرمجة وقابلة للتنفيذ. من هنا، ومع عدم الاستغناء عن المبادرات الفرديّة، لا بدّ من تنظيم خطّة عمليّة لتشجيع المنتشرين على متابعة دعمهم لأوطان المنشأ، وللاستفادة من هذا الدعم بأفضل طريقة ممكنة، للحفاظ على الأرض واستغلالها وتثبيت المقيمين فيها. مع العلم أنّ مثل هذه الخطّة ينبغي أن تعود بالخير أيضًا على المنتشرين. ولا بدّ من لفت النظر إلى أنّ هناك العديد من المنتشرين الذين قد نسوا أرض المنشأ ولم يعد لهم أيّ اتّصال بها أو بذويهم. وهذا العدد قابل للازدياد سنةً بعد سنة بغياب خطّة عمليّة لتؤمّن الإتّصال بهم وتحرّك فيهم شعور الإنتماء التراثيّ.

2. الخطة المرجوّة

  1. أيّ خطّة من هذا النوع ينبغي أن تنطلق أوّلاً من عمليّة إحصاءات عدديّة ونوعيّة شاملة. لذا ينبغي تأليف لجنة متخصّصة للقيام بهذه المهمّة. ولا بدّ من إقامة اتّصالات دائمة ودوريّة ما بين البطريركيّة ومختلف الجاليات المارونيّة في العالم بالاستفادة من الطرق العصريّة المتاحة لتأمين مثل هذه العلاقات. هذه العلاقات تُطلع الموارنة في العالم على موقف كنيستهم الرسميّ من القضايا المختلفة، وتنقل إليهم الأخبار الموضوعيّة عمّا يجري في أوطان المنشأ، كما توحي إليهم بما يمكن عمله خدمة لهذه الأوطان، إنطلاقًا من روح العونة التي يشهد عليها تاريخنا.

أمّا في ما يختصّ بالأرض، فهناك مجال واسع لمساهمة المنتشرين في الحفاظ عليها واستغلالها. فيصار مثلاً إلى إقامة توأمة بين المنتشرين وقراهم أو مدنهم الأصليّة. فيتمّ على أساسها إنشاء مشاريع تنمية، يكون فيها للمنتشرين إمكانيّة المساهمة واستملاك أراض أو بيوت لهم. كما يمكن تشجيع المنتشرين، وبنوع خاصّ الشبيبة، على القدوم إلى أوطان المنشأ وتمضية الفرص الطويلة فيها، مع برامج مدروسة لإشراكهم في مواسم زراعيّة ممكنة، كالقطاف مثلاً، وإطْلاعهم على تراثهم الفكريّ والفولكلوريّ والطقسيّ، وعلى الإمكانيّات المتوافرة حاليًّا في الجامعات المارونيّة وما يمكن أن يستفيدوا منها أو يفيدوا. ويمكن أن يكون ذلك ضمن مخيّمات صيفيّة مشتركة مع الشبيبة المقيمة، أو في ندوات تدرس إمكانيّة التواصل بين المقيمين والمنتشرين.

إن أعمالاً كهذه تؤدّي حتمًا إلى تشجيع المقيمين وإلى ترسيخ التراث الحضاريّ لدى المنتشرين، فلا تبقى العلاقة بأوطان المنشأ مستندة إلى الحنين والذكريات فحسب، بل تكتسب بعدًا آنيًّا وتعمّق عرى القربى والصداقة مع أوطانهم الأصليّة وأهلهم المقيمين فيها.

ومن الطبيعيّ أن تُسهم المؤسّسات الكنسيّة والرهبانيّات والجمعيّات الأهليّة والنوادي الاجتماعيّة في تنظيم سياحة ثقافيّة للمنتشرين، تُطلعهم من خلالها على عراقة التراث وجمال الطبيعة وتنوّعها، كما على الأماكن الأثريّة والتاريخيّة الهامّة الخاصّة بالموارنة.

خاتمة

  1. إرتباط المارونيّ بأرضه ارتباط مقدّس وحيويّ، فهو ارتباط بالقيم والتراث المادّيّ والمعنويّ والروحيّ والأخلاقيّ. والأرض تشدّ المارونيّ إلى تاريخه وجذوره وتبني له معالم هويّته وانتمائه الدينيّ والحضاريّ. وإذا كنّا قد ركّزنا على لبنان، فما ذلك لأنّ الأرض في بلدان المنشأ الأخرى أقلّ أهميّة، بل لأنّ الكيان اللبنانيّ مرتبط ارتباطًا وثيقًا بالموارنة، ولأنّ هؤلاء تمركزوا منذ نشأة كنيستهم في الأرض اللبنانيّة، ثمّ انتقلت إليه بطريركيّتهم وما زالت ثابتة على صخوره. ولقد أصبح لبنان أرض التجدّد والقداسة وفي الوقت نفسه أرض الشهادة المسيحيّة المنفتحة على الحوار والعيش المشترك مع الطوائف المسيحيّة الأخرى ومع غير المسيحيّين. أرضه أصبحت، بالرغم من الحروب العديدة التي شهدتها، أرض العيش الحرّ المشترك. إنّها أرض الوطن الرسالة. لذلك ينبغي الحفاظ عليها لتبقى الرسالة ويبقى للحوار بين الحضارات والأديان وطنٌ تاريخه العيش المشترك ودعوتُه الحوار.

كما أنّ للوجود المارونيّ في سورية وفلسطين وبلدان الشرق الأخرى أهميّة كبيرة. وعلينا أن نسعى مع الكنائس الأخرى، وكذلك مع المنتمين إلى الديانات غير المسيحيّة، لاسيّما المسلمين منهم، إلى توطيد علاقات المواطنيّة من أجل الحفاظ على التراث المشترك وتفعيله، خدمةً للحوار والتقارب بين الأديان والحضارات.

 

توصيات النصّ وآليات العمل 

 

الموضوع

التوصية

الآليّة

1- التنشئة على قيمة الأرض والتوعيّة عليها.

1- يوصي المجمع بإعادة إكتشاف أهميّة الأرض وبلورة القيم المتعلقة بها والحفاظ عليها.

1-أ: تعريف الأجيال الجديدة إلى أهميّة الأرض وغناها من خلال برامج وندوات تنشئة وتوعية.

1-ب: إحياء المهرجانات والأعياد الزراعيّة وحثّ الشبيبة على المشاركة فيها.

1-ج: تنظيم مواسم القطاف والغلّة.

1-د: تشجيع المنتشرين الموارنة على شراء الأراضي والبيوت.

1-هـ: إقامة توأمة بين المنتشرين وقراهم الأصليّة.

 

1-و: العمل على تشجيع المنتشرين على القدوم إلى أوطان المنشأ ضمن برامج مدروسة، كمثل المخيّمات الصيفيّة والسياحة الدينيّة.

2- استراتيجيّة تنمويّة شاملة للحفاظ على الأرض والمياه.

 

2- يوصي المجمع بتضافر قوى الدولة والكنيسة والمؤسّسات من أجل استراتيجيّة تنمويّة شاملة للحفاظ على الأرض والمياه.

 

2-أ: تسهر الدولة على تطبيق قانون تملّك الأجانب.

 

2-ب: تحمي الدولة الإنتاج الزراعيّ المحليّ من المضاربة الخارجيّة تؤمن إمكانيّة تصدير الفائض منه إلى الأسواق الخارجيّة.

2-ج: تُقام تعاونيّات زراعيّة من أجل تشجيع المزارعين على العودة إلى الريف وإستثمار أرضهم بطريقة جديدة ومجدية، وإرشادهم إلى الزراعات البديلة القابلة للتصدير والتصنيع.

2-د: تُنشَأ مصانع صغيرة ومحترفات مهنيّة من أجل توفير مجالات العمل تحول دون إفراغ الريف من أهله.

3- الشراكة بين أبناء الكنيسة.

 

3- يوصي المجمع بتطوير فكرة الشراكة التي قامت قديمًا بين الأبرشيّات والرهبانيّات من جهة والعلمانيّين من جهة أخرى.

 

3-أ: تسعى الكنيسة مع مؤسّسات أجنبيّة، كالسوق الأوروبيّة المشتركة ومنظّمة التغذية العالميّة، إلى الإستفادة من الخبرات العالميّة لإستثمار الأراضي بحسب تنوّع المناخ والبيئة والحاجات الجديدة.

3-ب: يقوم بتعاون مع الهيئة الاقتصاديّة العُليا التابعة للبطريركيّة المارونيّة من أجل تقديم الأفكار وبلورة المبادرات.

3-ج: يتم التنسيق مع كليّة الزراعة في جامعة الروح القدس – الكسليك.

4- صون البيئة.

4- يوصي المجمع الأبرشيّات والرهبانيّات بصون البيئة في أملاكها والأوقاف التابعة لها وإطلاق حملة تثقيف بيئي.

                            

4- تخصيص أشخاص في هذا الميدان، وإنشاء لجان على صعيد الأبرشيات تتابع الموضوع وتطلق حملة تثقيف بيئيّ في المدارس والمعاهد والرعايا.

 

5- تحريج المناطق اللبنانيّة.

 

5- يوصي المجمع المسؤولين في الكنيسة باتخاذ مبادرات من أجل تحريج المناطق اللبنانيّة.

5-أ: العمل على إقامة محميّات جديدة وعلى حماية الموجود منها.

5-ب: زرع غابات وأحراج على اسم جمعيّات ومنظمات ونواد محليّة، وعلى اسم جاليات الانتشار المارونيّ.

 

6- المياه.

6- تشكّل المياه ثروة طبيعيّة يجب الحافظ عليها  عبر منع هدرها وتلويثها، واستثمارها استثمارًا علميًّا، وتوزيعها توزيعًا عادلاً.

6- يطلب إلى الأهل وإدارات المدارس والجامعات نشر التوعية الضروريّة على أهميّة المياه وطرق استعمالها حفاظًا على بيئة سليمة في خدمة كلّ إنسان.

 

7- البحر.

7- البحر بمياهه وشواطئه وبما يحتويه من ثروات هو من عطايا الله البيئيّة. لذا ينبغي المحافظة عليه واستثماره ليكون في خدمة الجميع.

7-أ: تضع الدولة البرامج لحماية الشواطئ من التلوث والتعدّيات، فتسهم مع القطاع الخاصّ على تعزيز التوظيف في استثمار الثروة السمكيّة من أجل إيجاد المزيد من فرص العمل وتوفير ما تحتاج إليه السوق اللبنانيّة من منتوجات البحر.

7-ب: إنشاء “كلّية علوم البحار”.

 

 


1. راجع: الفصول الثلاثة الأول من سفر التكوين.

2. راجع على سبيل المثال: تك 12/1-6 و تث 6/1-2 .

3. راجع: رجاء جديد للبنان، عدد 93.

4. لقد شهد التاريخ المارونيّ موجات هجرة عديدة، حفاظًا على حريّة الإيمان وسعيًا للعيش بحريّة وكرامة واستقلال (راجع: نصّ الانتشار المارونيّ).

5. قول نابوت اليزراعيليّ لآحاب الملك (1 مل 21/3).

6. نذكر على سبيل المثال أنّ الصلوات البيعيّة تسمّي المسيح “الفلاّح الصالح الذي أتى ليقتلع الزؤان الذي زرعه إبليس في حقل بني آدم” (راجع: صلاة مساء الأحد من الزمن العاديّ، اللحن الثاني، المقطع الثاني)؛ كما أنّ يسوع نفسه هو “حبّة الحنطة التي قبلتها أحشاء مريم كأرض طيّبة” (راجع: نشيد زيّاح القرابين في القدّاس الإلهيّ)؛ كذلك الصدقات وأعمال الرحمة تُشبّه بالزرع الذي يحمله الزارع وينطلق ليزرعه في الحقول التي هي الفقراء والمعوزون. فكما أنّ الزارع يحمل الزرع ويذهب ليزرعه ولا ينتظر الحقول أن تأتي إليه، كذلك المؤمن مدعوّ لأن يذهب هو الى المحتاجين ولا يتنظرهم ليأتوا إليه (راجع: باعوت مساء الخميس في زمن الصوم).

7. لقد تنبّهت الكنيسة المارونيّة منذ القدم إلى أهميّة الوقفيّات في ما يتعلّق بالأديار والرعايا والمؤسّسات التربويّة والاجتماعيّة، فكانت، مع إنشائها، تقيم لها الوقفيّات لتؤمّن لها ديمومة الحياة، كما حصل مثلاً لمدرسة عين ورقة.

8. من اللافت في فولكلورنا كثرة التغنّي بالأرض والطبيعة والغلال ومواسم القطاف على أنواعه.

9. نلاحظ أنّ الوجود المارونيّ في لبنان يؤلّف عنصر دمج وتعايش بين الطوائف الأخرى وبخاصّة الطوائف غير المسيحيّة. فالمارونيّ يختلط بسهولة مع الدرزيّ والشيعيّ والسنيّ، ويسهّل بالتالي إمكانيّة عيش هذه الطوائف بعضها مع بعض.

10. بعد مداخلات عديدة للمؤتمر الدائم للرؤساء العامّين في لبنان استجابت الدولة اللبنانيّة لطلب تعديل المرسوم الذي كان قد صدر العام 1959 بخصوص تملّك الأجانب، والذي أُثبت في قانون العام 1964. وقد نجح الرؤساء العامّون بمداخلاتهم في الحدِّ من المساحات التي يقدر الأجنبيّ أن يتملّكها ووضع شروط أخرى على ملكيّة الأجانب، وصدر ذلك بمرسوم حكوميّ العام 1969.