الكنيسة المارونية والتربية

مقدّمة

  1. إنطلاقًا من أنّ رسالة الكنيسة، أمًّا ومعلّمة، لا تتوقّف عند تقاسم البشريّة آمالها وأمانيها، بل تتعدّاها إلى قيامها بدور الإنارة لطريق الإنسان وتوعيته إلى غايته السامية، فإنّ اهتمام هذا المجمع بالقضايا التربويّة يأتي من أنّ رسالته هي في الأساس رعويّة، وعليه أن يقوم بها تجاه أبناء الكنيسة المارونيّة، سواء أفي المدارس المارونيّة كانوا أم في غيرها من المدارس، وتجاه جميع المهتمّين بالشأن التربويّ كذلك[1]. وبما أنّ للمدرسة دورًا أوّليًّا في إيصال هذه الرسالة إلى غايتها، وبما أنّها الأداة الفاعلة اليوم لاتصال الكنيسة بأبنائها، وتوفير الثقافة العلميّة والأدبيّة والروحيّة والدينيّة لهم وللذين اختاروا أن يتلقَّوا التعليم في مدارسها أو أنهّم يتلقّون دراستهم في مدارس غير مرتبطة مباشرة بها، فإنّ المجمع ارتأى أن يتوجّه إلى المهتمّين بالحقل التربويّ، سواءٌ كانوا أهلين أم مديريّ مؤسّسات تربويّة أم مرّبين، لكي يتحمّل كلّ واحد قسطه في هذا المجال. ويتوزّع محتوى هذا البيان على المحاور الآتية:

ـ الكنيسة المارونيّة ومشروعها التربويّ من زمن مار مارون حتى منتصف القرن العشرين.

ـ تحدّيات الواقع الحاليّ على مستوى الخيارات التربويّة ونموّ المؤسّسات ومعضلة التعليم الرسميّ وتحقيق التعليم للجميع.

ـ خيارات الكنيسة وتطلّعاتها.

الفصل الأوّل: الكنيسة المارونيّة ومشروعها التربويّ من زمن مار مارون حتى منتصف القرن العشرين 

  1. إنّ اهتمام الكنيسة المارونيّة بموضوع التربية بوجه عامّ له جذوره في التاريخ القديم والحديث. والعودة إلى مختلف الحِقب التاريخيّة تبيّن لنا المحطّات الآتية التي يتوجّب إبرازها:

أوّلاً: من زمن مار مارون وحتى القرن العاشر.

ثانيًا: من القرن العاشر وحتى تأسيس المدرسة المارونيّة في روما.

ثالثًا: المجمع اللبنانيّ (1736) ودوره الفاعل في تعزيز التعليم والتربية وتنظيمهما.

رابعًا: دور الإرساليّات ومبادرات الرهبانيّات المارونيّة في إنشاء المدارس.

خامسًا: إنشاء الأمانة العامّة للمدارس الكاثوليكيّة (1948).

أوّلاً: من زمن مار مارون وحتى القرن العاشر

  1. يجد الارتقاء الثقافيّ المارونيّ جذوره في الأجواء الأنطاكيّة السائدة منذ أواخر القرن الثالث، وفي التراث الروحيّ المارونيّ الأبعد والأعمق، حيث دارت التربية حول العلاقة الشخصيَّة بين التلميذ ومعلّمه، كما تستشفّ في العلاقة التي قامت بين القدّيس مارون وتلاميذه، إذ “أصبح هذا الحبيس القدّيس، في وقت قصير، المعلّم الروحيّ، لا لفريق محدود من التلاميذ”[2]، بل لعامّة الشعب المسيحيّ في المدى الأنطاكيّ. هذا البُعد الشخصيّ يبقى الميزة الأولى لمفهوم التربية. فالشخص الحيّ هو الذي يجسّد في ذاته كلّ ما يبغي أن ينقله إلى تلاميذه، فيصبح على مثال المسيح، المعلّم الأوّل، القدوة الحيَّة التي يتمثّل بها التلميذ ليبني ذاته.

إلى جانب هذا الإطار النُسكيّ الخاصّ، نجد حركة أنطاكيّة عامّة، عُرفت بالمدرسة الأنطاكيّة، نتج منها إلى جانب أعمال الترجمة والنقل، مؤلّفات جمّة في تفسير الكتاب المقدّس واللاهوت وفي إبراز ناسوت السيّد المسيح، ما أنعش الأجواء الثقافيّة والنشاطات العلميّة في أرجاء الشرق. وبالإضافة إلى المدرسة الأنطاكيّة، يذكّر المجمع اللبنانيّ، استنادًا إلى ابن العبريّ “أنّ السّريان عُنوا أوّلاً بدرس فلسفة (أرسطوطاليس) وتآليفه، وترجموها من اليونانيّة إلى السريانيّة، وعنهم أخذ العرب بعد القرن الثامن للمسيح، فاستعملوا الترجمات السريانيّة كما يظهر من تواريخ السريان والعرب”[3]. أمّا في ما يخصّ التعليم والتثقيف، فإنّ تنشئة الكهنة والمؤمنين كانت تتِمّ على يدّ تلامذة القديس مارون، الذين نشروا الإيمان من خلال أديارهم وتجوالهم في القرى والمدن. فشكّلت الأديار والكنائس مدارس للمؤمنين ومعاقل لنشاطهم الدينيّ والاجتماعيّ والثقافيّ والحرفيّ، فكانوا يتتلمذون على يدّ الكهنة والرهبان الذين كانوا يعلّمونهم أصول اللغة السريانيّة، لغة التراث الروحيّ والدينيّ، وبعض الموادّ العلميّة والفلسفيّة والرياضيّات.

ثانيًا: من القرن العاشر حتى تأسيس المدرسة المارونيّة في روما

  1. ومنذ القرن العاشر بدأ الغرب يظهر اهتمامًا خاصًّا بالشرق. وبعد الانفصال الذي تمّ سنة 1054 وأرسخ نقاط الخلاف والتباعد مع كنيسة القسطنطينيّة وأبرز الذاتيّة الأصيلة لكلّ كنيسة[4]، وبغية توحيد الكنيسة، سعت البابويّة إلى إحياء نشاط الرهبنات الكبرى، وخصوصًا الدومينيكان والفرنسيسكان، ونسّقته في سبيل هذا الهدف. وقد “ترجم هذا الاهتمام عمليًّا في خطّين: الأوّل، قضى باستقدام فتيان إلى الغرب يتكلّمون لغات بلاد الإرساليّات بغية تزويدهم بتنشئة لاهوتيّة ؛ والثاني، قضى بدعوة الرهبان الغربيّين الراغبين في تكريس ذواتهم للإرساليّات إلى تلقّن اللغات الشرقيّة”[5]. ومن المعلوم “أنّ الرهبان الفرنسيسكان مثّلوا دائمًا دور الوسيط بين الكرسيّ الرسوليّ وسائر الطوائف المسيحيّة الشرقيّة. فبفضلهم وصل الموارنة الأوائل للدراسة في روما في القرن الخامس عشر”[6].

وأوّل مثال ناجح لهذا السعي كان جبرائيل ابن القلاعيّ، الذي عاد إلى لبنان سنة 1493؛ وكان من أوائل الموارنة الذين قرأوا الكتب اللاتينيّة، واستهدفوا في مؤلّفاتهم الكثيرة، تعزيز التعاليم اللاهوتيّة الرومانيّة في الكنيسة المارونيّة، ما دفع بالبطريرك سمعان الحدثيّ إلى إرسال وفد جديد من الشبّان الموارنة إلى روما.

  1. وزاد تحرّك البابويّة في هذا المجال، بعد سنة 1516، لمّا أحكم العثمانيّون سيطرتهم على الشرقَيْن الأوسط والأدنى وبلاد البلقان. وأخذت الإرساليّات على عاتقها الاهتمام بالمسيحيّين الكاثوليك “بدءًا بالموارنة، وهم الوحيدون في كلّ الإمبراطوريّة العثمانيّة المحافظون على وحدتهم مع الكنيسة الرومانيّة مع كونهم من رعايا السلطان”[7]. وإثر نشوء “حركة الإصلاح” في ألمانيا، وبهدف المحافظة على الكثلكة، انعقد المجمع التريدنتينيّ سنة 1545، وكان من “أوّل اهتماماته إنشاء المدارس الإكليريكيّة، التي دأبت على المحافظة على الإيمان الكاثوليكيّ بوعي ونشاط”[8].

ويذكر البطريرك الدويهي أنّه “من أخبار الجيل الخامس عشر نستدلّ أنّه في دولة المقدّمين وأحكامهم العادلة، استراح أهل جبل لبنان وعمرت المدارس والكنائس”[9]. ومع استمرار الاتصالات بالغرب وانتعاش العلاقات بين الكرسيّ الرسوليّ الرومانيّ والموارنة، بواسطة الرهبان الفرنسيسكان، برزت صعوبة التواصل اللغويّ. فشعر البطاركة الموارنة بحاجة إلى أن يكون لهم في لبنان أساتذة يفقهون اللغات الأوروبيّة، وكهنة يتلقّون علومهم في الغرب ويعودون إلى بلادهم لخدمة المؤمنين. كانت هذه الأمور من أهمّ الأسباب التي دفعتهم إلى تأمين العلم لأبنائهم. فكانت تنقصهم مدرسة. فسعى البطريرك موسى سعاده العكاريّ إلى تأسيس مدرسة في جبل لبنان؛ ولكن لم يتمّ التوافق عليها مع الكرسيّ الرسوليّ، “بيد أنّ فكرة تأسيس مدرسة تابعت سيرها، إذ تقدّم البطريرك ميخائيل الرزّي بطلب جديد إلى البابا بيّوس الخامس سنة 1568 (طالبًا فيه) إيجاد مكان لفتيان الموارنة حيث تتمّ تربيتهم، وبدورهم يعلّمون الشعب”[10]. وقد أصدر البابا غريغوريوس الثالث عشر، فيما بعد، براءة يؤسّس فيها مدرسة الموارنة في روما سنة 1584، وطلب من الرهبان اليسوعيّين أن يقوموا بإدارتها، وذلك لإعداد جيل جديد من الإكليروس على قدرٍ واسع من الثقافة اللاهوتيّة والفلسفيّة والرعويّة لخدمة الكنيسة المارونيّة.

نبغ من هذه المدرسة عباقرة، كان كثيرون منهم يعودون إلى بلادهم لخدمة أبناء شعبهم ونشر العلم بينهم. وقد أتقن طلاّب هذه المدرسة، السُريانيّة والعربيّة وعددًا من اللغات الأوروبيّة واللّغات القديمة، وقاموا بترجمات متعدّدة، وبرعوا في العلوم والفلسفة واللاهوت والشعر والآداب والرياضيّات والتاريخ والفنّ والقانون. وقد أدّت هذه الخبرة إلى تبادل ثقافيّ بين الشرق والغرب، ما زالت نتائجه، في المجالين الروحيّ والزمنيّ، حاضرة وفاعلة لغاية يومنا هذا. وفي الحِقبة ذاتها، وإثر تأسيس مطبعة دير قزحيّا سنة 1585، أسّس البطريرك يوحنّا بن مخلوف أوّل معهد إكليريكيّ للموارنة في دير سيّدة حوقا سنة 1624.

ثالثًا: المجمع اللبنانيّ (1736) ودوره الفاعل في تعزيز التعليم والتربية وتنظيمهما

  1. فإلى جانب الميزة الأولى لمسيرة الكنيسة المارونيّة في التربية، الخاصّة بالمعلّم، تبرز هنا الميزة الثانية الكامنة في حبّ المعرفة والانفتاح على التّرات البشريّ، والسعي الحثيث للارتقاء بالأبناء إلى مصاف النبوغ. وقد أعطى المجمع اللبنانيّ المنعقد سنة 1736 دفعًا جديدًا لحركة العلم والمعرفة، وأضاف ميزة ثالثة إلى هذا المسير، إذ شدّد على تعميم المدارس والتعليم، وناشد “كلاًّ من المتولّين رئاسة الأبرشيّات والمدن والقرى والمزارع والأديار، جملةً وأفرادًا، أن يتعاونوا ويتضافروا على ترويج هذا العمل الكبير الفائدة، بمزيد الهمّة والنشاط، نريد بهم الأساقفة، والخوارنة الأسقفيّين، والخوارنة، ورؤساء الأديار، فيعنون أوّلاً بنصب معلّم حيث لا يوجد معلّم، ويدوّنون أسماء الأحداث الذين هم أهل لاقتباس العلم، ويأمرون آباءهم بأن يسوقوهم إلى المدرسة ولو مكرهين. وإن كانوا أيتامًا أو فقراء، فلتقدّم لهم الكنيسة أو الدير ضَرورات القوت. وفي حالة تعذّر الكنيسة أو الدير، يجمع لهم في كلّ يوم أحد من صدقات المؤمنين ما يفي بمعاشهم. أمّا أجرة المعلّم فيترتّب جزء منها على الكنيسة أو الدير (على شرط أن لا يكون المعلّم راهبًا من رهبانه)، والجزء الآخر يقوم بدفعه آباء الأولاد”[11]. وهكذا فإنّ المجمع اللبنانيّ كان صاحب المبادرة إلى إلزاميّة التعليم ومجانيّته قبل الثورة الفرنسيّة وقبل المبادرات الحديثة في هذا الشأن.

وقد وضع هذا المجمع الأسس والبيانات الواجب على المعلّم اتّباعُها قائلاً: “نأمر هؤلاء المعلّمين… أن يرعوا النظام العامّ، فيعلّموا الأحداث في المدارس أوّلاً القراءة والكتابة في السُريانيّة والعربيّة، ثمّ المزامير، ثمّ كتاب خدمة القداس، والفرض اليوميّ، والعهد الجديد. ثمّ إذا توسّموا في بعضهم فريد الأهليّة لتحصيل العلوم، فليعلّموهم قواعد الصّرف والنحو في السُريانيّة والعربيّة، ثمّ علم اللحن والحساب البيعيّ، ثمّ يرقّوهم إلى درس العلوم العالية أيّ الفصاحة والنظم والفلسفة والمساحة، والحساب وعلم الفلك، وما أشبه ذلك من الرياضيّات، ثمّ مبادئ الحقّ القانونيّ، وتفسير الكتاب المقدّس، واللاهوت الإعتقاديّ والأدبيّ، ولاسيّما ما يرونه مناسبًا لقبول الأسرار وتوزيعها ولمعرفة طرق الطقوس والاحتفالات”[12].

  1. وإلى جانب تثقيف الصبيان وتهذيبهم، فقد طلب المجمع اللبنانيّ أن يبذل الجهد “في تهذيب البنات في الأديار، فإنّ قانون الكنيسة يرسم أنّ البنات المهذّبات في الأديار يجب أن تقترن تربيتهنّ بروح التقوى وبلوغ الغاية من الاجتهاد والسّهر… فليعيّن لهنّ معلّمات راهبات فاضلات يحطنهنّ بأفضل عناية”[13].

رابعًا: مدرسة عين ورقة، حجر الأساس

مع هذا التوجّه نحو العلم والمعرفة، بادر أبناء القرى إلى تأسيس ما عرف بمدرسة تحت السنديانة، إلى جانب المدارس التي انتشرت في كلّ أنحاء الجبل اللبنانيّ. وكان من أهمّ العاملين في هذا الاتجاه البطريرك يوسف أسطفان الذي حوَّل، سنة 1789، دير عين ورقة إلى مدرسة إكليريكيّة عامّة، كان لها التأثير الكبير في المجالات الدينيّة والوطنيّة والثقافيّة، والدور الرياديّ في إنعاش النهضة العربيّة في أرجاء الشرق. وقد تخرَّج منها كثيرون من رجالات الكنيسة وأهل القلم والسياسة والعلم، أمثال بشاره الخوري ورشيد الدحداح وفارس الشدياق وبطرس البستاني ونعوم مكرزل وغيرهم. ولا بدّ من الإشارة في هذا المجال إلى ما قام به كثير من البطاركة من دور رياديّ في تأسيس المدارس ونشر العلم، تحقيقًا لتوجّهات المجمع اللبنانيّ.

وفي سنة، 1812 حوَّل البطريرك يوحنّا الحلو دير مار يوحنّا-مارون في كفرحيّ إلى مدرسة إكليريكيّة، ثمّ في سنة 1817 دير الروميّة إلى مدرسة أخرى. واقتدى به خلفه، البطريرك يوسف حبيش، فحوَّل ثلاثة أديرة أخرى إلى معاهد: الأوّل في صربا سنة 1827، والثاني في دير مار عبدا – هرهريّا سنة 1830، والثالث في دير مار يوسف – ريفون سنة 1832. وما عزّز حركة فتح هذه المدارس التأثير الذي تركته، إلى جانب مدرسة روما، مدرسة “نشر الإيمان”. أضف إلى ذلك تكثيف علاقة الموارنة بأوروبا بشكل عامّ، وإيطاليا وفرنسا بشكلٍ خاصّ، وما كانت أحدثت الثورة الصناعيّة من تأثير آنذاك.

  1. وقد امتدّت هذه الغِيرة على انتشار العلم إلى جزيرة قبرص، حيث كان الخوري إندراوس إسكندر القبرصيّ، أنشأ سنة 1734، مدرسة “لأجل تعليم الأحداث، صرفت العناية بها إلى رهبان القديس أنطونيوس الكبير”[14]. واستمرّ فتح المدارس، فبنى المطران يوسف الدّبس مدرسة الحكمة في بيروت سنة 1875، وكان هدفه منها “تعليم الشبّان العالميّين… لخير سكّان الأمصار الشرقيّة”[15]، فنبغ منها كهنة وعلماء وخطباء وشعراء وكتّاب، أمثال أحمد كرد علي وميشال زكور وبشارة الخوري صاحب جريدة “البرق” ونعوم مكرزل وداود بركات وموسى بك نموّر وغيرهم، وكان للمدرسة دور رائد في تعليم اللغة العربيّة وفي تعزيز الروح الوطنيّة. وبعد أحداث 1860 بدأ المطران يوسف جعجع بناء مدرسة مار يوسف اللبنانيّة، في قرنة شهوان، وأتمَّه خلفه المطران يوسف الزغبي الذي افتتحها في شهر تشرين الأوّل سنة 1884. وترافق ذلك مع فتح المدارس في الأديرة، خصَّصتها الرهبانيّات لتعليم المرشّحين من الرّهبان للكهنوت في دير قزحيّا، وكفيفان، والقطّارة، ودير مار أشعيا، ودير مار أليشاع، وميفوق، والناعمة، ودير نسبيه في غوسطا. كما أسّس المطران يوحنّا حبيب مدرسة الكريم، سنة 1872، وهدف من خلالها إلى إيجاد مرسلين من أهل العلم والعمل. وما يقوله المطران يوسف الدّبس في هذا الصدد: إنّ “الرّغبة في تعليم الآباء أولادهم هي عامّة وشاملة، حتى  تراها جاوزت الحدود، ولو رغب عامّة الناس وأوساطهم في تعليم أولادهم الصنائع والحرف، لكان هذا أولى وأصلح بمصلحتهم ومصلحة البلاد”[16].

خامسًا: دور الإرساليّات ومبادرات الرهبانيّات المارونيّة في إنشاء المدارس

  1. وفي إطار هذه الحركة التربويّة التي أكّدها المجمع اللبنانيّ ورافقته، جدّدت الإرساليّات اللاتينيّة حركتها صوب لبنان، في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، فعزّز الفرنسيسكان حضورهم أوّلاً، وجاء الكبّوشيّون، فاليسوعيّون، فالكرمليّون، واللعازاريّون. وبعد تأسيس مدرسة عينطورا على يد أحد الرّهبان اليسوعيين، الأب بطرس مبارك، سنة 1728، والتي تسلَّمها الآباء اللعازاريّون سنة 1834، تأسّست سنة 1735 مدرسة مشابهة لها في زغرتا.

إنّ إنشاء كلّ هذه المدارس في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، يبيِّن النهضة العلميّة لدى الموارنة، ولاسيّما أنّ أكثريّة التلاميذ في المدارس التي كان يديرها الآباء اليسوعيّون واللعازاريّون وإخوة المدارس المسيحيّة وغيرهم، هم من شبّان الموارنة. وقد وفد إلى لبنان في أثناء القرن التاسع عشر إرساليّات متعدّدة، عُنيت كلّها بإنشاء المدارس في مختلف أرجاء الوطن، ومنها مدارس: راهبات القديس يوسف القادمات من مرسيليا سنة 1846، وراهبات الناصرة الوافدات من ليون، ثمّ راهبات العائلة المقدّسة، فراهبات الراعي الصالح. وكانت قد تأسّست في بكفيا، سنة 1853، على يد الأب يوسف الجميّل، رهبنة محليّة عُرفت بجمعيّة المريميّات وأصبحت تعرف لاحقًا براهبات القلبين الأقدسين، أنشأت حوالى ثلاثين مدرسة في مختلف المناطق. وهكذا، أكسب العلم الموارنة نفوذًا كبيرًا، وأفضل وصف لدورهم، جاء على لسان المستشرق الإيطاليّ كبرياليّ إذ قال، شاملاً اللبنانيّين عامّة: “هم تراجمة البشريّة. هضموا الحضارة الإغريقورومانيّة من جهة، والحضارة السريانوعربيّة من جهة ثانية. فكانوا سفراء البلدان الأوروبيّة في الشرق، ومعلّمي اللغات الشرقيّة في الغرب. وكانوا الخطّ الواصل بين الشرق والغرب”[17].

  1. وقد سعت الرهبانيّات المارونيّة على تنوّعها، منذ منتصف القرن التاسع عشر، إلى تأسيس عشرات المدارس في مختلف المناطق اللبنانيّة والأرجاء السوريّة، وفي بلاد الانتشار أيضًا؛ ومنها الرهبانيّة اللبنانيّة المارونيّة، والرهبانيّة الأنطونيّة المارونيّة، وجمعيّة راهبات العائلة المقدّسة المارونيّات، والراهبات الأنطونيّات، والرهبانيّة المارونيّة المريميّة، وجمعيّة المرسلين اللبنانيّين، وجمعيّة راهبات القربان الأقدس المرسلات، وراهبات مار يوحنّا المعمدان-حراش.

ومن أبرز إنجازات الكنيسة في هذا الصدد، التزامها تأسيس المدارس، لا في المناطق المسيحيّة فحسب، بل في المناطق الإسلاميّة والدّرزيّة أيضًا، إيمانًا منها بنشر العلم والثقافة لدى أبناء الوطن من دون تمييز بينهم. أوّل من علّم أولاد الأمراء اللمعيّين الدروز هم الرهبان الأنطونيّون. حيث إنّه لم يكن ليتمّ هذا لولا طلب الأمراء مباشرة وتأمين الغطاءين السياسيّ والأمنيّ لهذا العمل.

وفي بلاد الانتشار، هناك عدد من المدارس المارونيّة: في مصر، والسنغال، والولايات المتحدة الأميركيّة، والأرجنتين، وكندا، وأستراليا. فمن خلال هذه المدارس، التي ما زالت تتكاثر في لبنان والأقطار العربيّة، استطاعت الكنيسة المارونيّة أن تغذّي أبناء مجتمعاتها بالقيم الإنسانيّة والمسيحيّة، مشجّعة على الانفتاح العلميّ والثقافيّ، منمّية طاقات تلامذتها الإبداعيّة، بهدف تهيئتهم للالتزام الكنسيّ والمجتمعيّ، في إطار الخير والحقّ والحريّة والمحبّة.

سادسًا: إنشاء الأمانة العامّة للمدارس الكاثوليكيّة

  1. إنّ سنوات منتصف القرن العشرين شهدت حدثًا مهمًّا في الحياة الكنسيّة في لبنان، ألقى بثقله على واقع المدارس الكاثوليكيّة وبالتالي المارونيّة، إذ إنّ السلطات الكاثوليكيّة تنادت، بتشجيع من الكرسيّ الرسوليّ، إلى إنشاء هيئة مشتركة للطوائف الكاثوليكيّة في لبنان تحت اسم مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان، وذلك لدراسة مختلف القضايا المشتركة التي تهمّ الطوائف الكاثوليكيّة مجتمعة، ومنها موضوع واقع المدرسة الكاثوليكيّة ومصيرها.

فبعد أن تأسّس مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان في العام 1968، وكان للسلطة الكنسيّة المارونيّة دور كبير في إنشائه، انكبّ هذا المجمع على دراسة المواضيع والقضايا التي كانت موضوع نقاش، مثل توحيد المحاكم الكنسيّة والأحوال الشخصيّة والإعلام والحركات الكاثوليكيّة وكذلك موضوع المدارس الكاثوليكيّة. والواقع أنّ الهاجس الأوّل “عند السلطة الكنسيّة الكاثوليكيّة كان توحيد المؤسّسات الكنسيّة، مثل المدارس الكاثوليكيّة والتعليم الدينيّ”[18]. ففي العام 1948، “قرّرت الهيئة العامّة للمجمع إنشاء لجنة أسقفيّة موسّعة تُعنى بالمدرسة الكاثوليكيّة لتربية الناشئة بحسب روح الإنجيل وروحانيّة الكنيسة”[19]، فتعمل على تقريب المؤسّسات الكاثوليكيّة بعضها من بعض، وتستبدل بروحيّة المنافسة رُوحيّة التعاون، وتحاول أن تجد حلولاً لموضوع الأقساط المدرسيّة التي تمنع عمليًّا الأهلين من اختيار المدرسة التي يجدونها مناسبة لأولادهم. ثمّ أسهمت الأمانة العامّة للّجنة الأسقفيّة للمدارس الكاثوليكيّة في تأسيس المكتب الدوليّ الكاثوليكيّ للتعليم في العام 1952.

وفي العام 1949، ومع نشأة اللجنة الأسقفيّة للمدارس الكاثوليكيّة، صدرت رسالة رعويّة لأحبار الطوائف الكاثوليكيّة في لبنان، حملت عنوان “التربية الحقيقيّة”، وشدّدت على حريّة الرأي والتعليم وإنشاء المدارس الخاصّة، ودعت الدولة إلى تأييد المشاريع التربويّة التي تعمد إليها الكنيسة والعيلة أو تعزّزها حيث تكون غير وافية بالمراد؛ وللدولة أن تسهر لتتوافر المدارس لرعاياها وأن تعنى بتلقينهم المبادئ المدنيّة والقوميّة.

ومع إنشاء الأمانة العامّة للمدارس الكاثوليكيّة ومجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان، أصبحت المدارس المارونيّة جزءًا أساسيًّا من إطار تربويّ واسع؛ والخطاب التربويّ التوجيهيّ الذي صاغته الكنيسة منذ ذلك الوقت هو نفسه الذي وجّهته إلى المدرسة المارونيّة وإلى المدارس الكاثوليكيّة الأخرى.

الفصل الثاني : تحديات الواقع الحالي

  1. لقد حقّقت الكنيسة المارونيّة عبر تاريخها، ومع التوجيهات والقرارات التي صاغها المجمع اللبنانيّ، ومع دورها الرائد في إنشاء الأمانة العامّة للمدارس الكاثوليكيّة، عدّة إنجازات أساسيّة في حقل التربية والتعليم المدرسيّ منها: التركيز في دور المعلّم والانفتاح على ألوان التراث البشريّ، وإذكاء حبّ المعرفة والسعي للارتقاء بالجميع إلى مصاف النبوغ، وتعميم المدارس والتعليم وانتشارها في مختلف الأصقاع. إلاّ أنّ الواقع المعاصر، وما حدّده ويحدّده من مفاهيم تربويّة حديثة وشروط ضروريّة لاستقامة العمليّة التربويّة وما يفرضه على المدرسة من دور تربويّ اجتماعيّ شامل، يحتّم على المدرسة المارونيّة أن تواجه اليوم تحدّيات جمّة، يرتبط أهمّها بقدرتها على صياغة التربية الشاملة، وإنجاز التعلُّم النوعيّ، وتحقيق التعلُّم للجميع، والجودة الشاملة في العمل التربويّ. وهذا الأمر ينطبق، في معظم وجوهه، على المدارس الرسميّة والخاصّة.

1. قضية إبقاء المدرسة وسيلة تربية وتثقيف وتعليم أساسيّة

  1. إنّ المتعلّم، وإن كان واحدًا، فإنّ المعلّمين والمربّين كثر. فالعائلة تعلّم وتربّي، ولكنّها لا تربّي بالضرورة على سلّم قيم سليم، إذ “غابت عن أذهان الكثيرين من الوالدين، المسيحيّين وغير المسيحيّين، تلك القيم التي كانت تتحلّى بها العائلة المسيحيّة من قناعة في ما خصّ المأكل والمشرب والملبس والسكن، وذاك الخفر في الأحاديث والاحترام في التعاطي بين أفرادها، ومع الناس على وجه الإجمال”[20].

والدولة أيضًا تعلّم قيمًا من خلال مناهجها، غالبًا ما تكون وطنيّة الطابع، كما تحاول ترويج مفاهيم سياسيّة معيّنة بوسائل متعدّدة. وكذلك تعلّم وسائل الإعلام مع ما توفّره من انفتاح وإطلالة على عالم اليوم، من حيث لا يدري الولد ولا يرغب الأهل، سلّم قيم يتضمن مخاطر كثيرة، لعلّ أهمّها “مخاطر الإباحيّة التي تنشرها وسائل الإعلام”[21]. ويتعلّم الولد من محيطه المباشر ومجتمعه الأوسع أفكارًا وممارسات تمتُّ إلى الربح السريع غير القانونيّ، واستخدام القوّة لتسوية المشاكل وغيرها من آفات مجتمعيّة. ولا شكّ أنّ المدرسة تواجه اليوم قضيّة تربويّة أساسيّة: إنّها مدعوّة إلى مواجهة “قيم” العالم الحاضر الاجتماعيّة، أيّ التراخي مكان الواجب والالتزام، واللذّة مكان بذل الذات، والفرديّة مكان التآخي، والعنف والعصبيّة مكان الحوار، الخ.

وسط كلّ هذه التجاذبات تطرح المدرسة نفسها مربّيًا آخر من بين مجموعة من المربّين والمعلّمين تنتزع دورها انتزاعًا. إنّها تقاتل بيدٍ كلّ مشاريع التربية الهدّامة التي يتعرّض لها الولد، وباليدّ الأخرى تبني مداميك في غير اتجاه، راجيةً أن يكتمل البناء يوم يتخرّج الولد من مدرسته، وقد أعدَّته للعالم الجامعيّ والمهنيّ والحياتيّ الأوسع. فالتحدي الذي يواجه المدرسة والمربّي، هو أن يربّي بالفعل على العقلانيّة واحترام كرامة الذات والآخر، وعلى أن تكون القيم الروحيّة والإنسانيّة الخلاّقة هي المرجِع للتلميذ والطالب.

2. تحقيق النموّ المتوازن لدى المتعلّم على المستويات الروحيّة والأكاديميّة والمواطنيّة والاجتماعيّة

  1. تهدف التربية الشاملة إلى “إنماء الشخصيّة”[22] في بُعدَيْها الروحيّ والإنسانيّ. فمن جهة، إنّ المدرسة مدعوّة إلى إيلاء الشأن الروحيّ، بمعتقداته وقيمه وممارساته وتعليمه ومناهجه ومعلّميه، أهمّيّة قصوى تتناسب وهدف رسالة الكنيسة؛ ومن جهة أخرى إنّها مدعوّة إلى إيلاء الشأن الإنسانيّ، بمضمونه التعليميّ والقيَميّ، أهميّة قصوى أيضًا تتناسب ومتطلّبات الزمن الحاضر والزمن الآتي؛ وهي بهذين المسعيين المتكاملين، تربّي التلاميذ على “العمل المجدي لخير المدينة الدنيويّة، وتُعِدُّهم، في الوقت عينه، للعمل على نشر ملكوت الله”[23].

فعلى المستوى الروحيّ، ترى الكنيسة أنّ المدرسة مدعوّة إلى تعزيز إيمان التلامذة جميعًا بالله والشهادة للقيم الدينيّة الجامعة وإلى إبراز دور هذا الإيمان بما يكتسبه التلميذ على الصّعيدين الأدبيّ والعلميّ، وإلى الإجابة عن استعداد خرّيجيها المسيحيّين لنشر الخلاص، ومدى تنميتهم للخليقة الجديدة التي غَدَوها بالعماد، ومدى ممارستهم قِيَم الغفران والمسامحة والمحبّة والرحمة، ونوعيّة امتلائهم من الروح الرسوليّ وبالتالي شهادتهم ليسوع المسيح.

وعلى المستوى الأكاديميّ، ترى الكنيسة أنّ المدرسة مدعوّة إلى الإجابة عن جودة الخدمات ذات الطابع الأكاديميّ البحت وقدرتها على “أن تؤمّن لهم المعرفة العميقة والواسعة”[24].

  1. وعلى مستوى المواطنيّة، المدرسة مدعوّة إلى الإجابة عن حقيقة توفيرها تربيةً مواطنيّةً لتلامذتها “ليتمكّن المواطنون جميعهم من أن يقوموا بدورهم في حياة الجماعة السياسيّة”[25]؛ وبذلك تُسهم “في خلق مُناخ من الحريّة والتعاون، والمساواة أمام القانون، واعتماد مقياس الكفاية، واحترام حقوق الإنسان، وفي إرساء نظام سياسيّ يُشرك الجميع في القرارات الوطنيّة وبناء الدولة”[26].

ويولي المجمع أهميّة كبرى لتعريف التلامذة التراث الوطنيّ، عبر مختلف النشاطات التربويّة، وعبر كتب التاريخ والجغرافيا المتلائمة مع الواقع الوطنيّ، والتي من شأنها أن تعزِّز النظرة الوطنيّة عند الناشئة. ويشدّد كذلك على أهميّة التربية المدنيّة والتنشئة الوطنيّة، فتفي بالمطلوب منها، فلا تبقى نظريّة وبعيدة عن ربط الشبيبة بالواقع الاجتماعيّ.

والمدرسة، على المستوى الاجتماعيّ، مدعوّة إلى تحقيق تربية اجتماعيّة سليمة، إذ إنّ “الغاية التي تتوخّاها التربية الحقيقيّة، هي تربية الشخص الإنسانيّ تربية تتجاوب وغايته الأخيرة وخير الجماعات التي هو عضو منها ويبذل النشاط في سبيلها وقد غدا راشدًا “[27].

3. إشكاليّة تأقلم التقليد مع الحداثة

  1. ينطلق مفهوم التعلّم النوعيّ من تحديد الحاجات والتوقّعات لدى التلاميذ وأوليائهم، ومقارنتها بما تقوم به المدرسة، ومحاولة ردم الهوّة بين الاثنين. إنّ عمليّة ردم الهوّة بين التوقّعات والحاجات، وبين ما تقوم به المدرسة، عمليّة متواصلة. وإذا كانت توقّعات التلاميذ وأوليائهم أكثر انتماءً إلى الحداثة منها إلى التقليد، فإنّ الخوف يكمن في أن يصبح ما تقوم به المدرسة أقرب إلى التقليد منه إلى الحداثة.

وتجدر الإشارة في هذا المجال إلى “الأزمة” التي تعيشها الشبيبة، وخصوصًا بعض الطلاّب القدامى من المدارس المارونيّة والكاثوليكيّة وغيرها إذ إنّهم في حالة تجاذب وعدم توازن بين ما تقدّمه الحداثة من حريّة فرديّة ذاتيّة، ومن قدرات معرفيّة واسعة وانفتاح على ثقافة أدبيّة وعلميّة وإنسانيّة واجتماعيّة وحتى أخلاقيّة لا مرجعيّة دينيّة لها، وعلى مجتمع استهلاكيّ تحدّد نشاطه حاجات الإنسان ورغباته، وبين ما يرعاه التقليد من تقيّد بالدين والإيمان وفروضهما، ومن تأكيد العادات الاجتماعيّة والعائليّة، ومن ضرورة احترام المواقف الأساسيّة التي بلورتها الحضارة الخاصّة بالجماعات البشريّة. وهذا التجاذب نتحقّق منه في المعادلة الآتية:

إنّ اقتراب التقليد من الحداثة يهدّده خوف ذوبان الأوّل في الثاني أو هيمنة الثاني على الأوّل. من هنا يكتسب التحدّي المتمثّل في تأقلم التقليد مع الحداثة أهميّة مضاعفة.

  1. وفي معرض تجاوب الكنيسة مع قدرة تأقلم الحداثة والتقليد، ترى أنّه من واجب التربية اليوم أن:
  • تُوازن بين الرؤيا وانتظار “الأرض الجديدة”، وبين الالتزام اليوميّ بقضايا الإنسان والمجتمع[28].
  • تعترف بأنّ “الشؤون الأرضيّة، في نواميسها الخاصّة، مستقلّة عن الدين، وبأنّ كلّ علم له طرائقه الخاصّة للبحث في الأمور وتطويرها”[29]، مع الحفاظ على ميزات التقاليد المارونيّة الشرقيّة.
  • تحرص على التأكيد لضرورة امتناع العلوم والفنون من تجاوز ميدانها الخاصّ بها لتحكم في مجال الدين والإيمان.
  • تُميّز في مجتمع الحداثة، مجتمع التكنولوجيا والإنتاج وثورة المعلومات والسيطرة الطبيعيّة، بين ما هو لخدمة الإنسان وما هو لاستعباده.
  • تميّز في العلمنة بين ما هو ماديّة وإلحاد، وبين ما هو ضمانة قانونيّة لحريّة الضمير لجميع المواطنين في مواجهة كلّ أشكال الضغط والقهر.
  • تؤكّد حريّة الإنسان المسؤولة وتعزّز العطش إلى المعرفة لديه، وتؤكّد دعوة الله للإنسان إلى عهد حوار حرّ معه، وأن لا حريّة من دون مسؤوليّة ومن دون وعي لواجب الإسهام في تحقيق الآخر ذاته.
  • تتمسّك بالأصالة من دون الوقوع في الأصوليّة، وتسعى نحو آفاق جديدة على قاعدة الامتداد نحوها، لا على قاعدة هجرة قواعدها.
  • تستفيد من قوّة التأثير لوسائل الاتصال ولتكنولوجيا الإعلام مع الحفاظ على الذاتيّة والاستقلاليّة في الرأي.

باختصار، إنّ الكنيسة تدعو المدرسة إلى مساعدة تلاميذها على فحص التقاليد عبر النقد العلميّ، لأنّ التقاليد قد تعجز عن تحقيق ملء الإنسان، وإلى مساعدتهم على فحص القيم الحاضرة في ضوء الإيمان، لأنّها قد تعجز عن تحقيق إنسان مكتمل في المسيح.

4. الأزمة الاقتصاديّة ومشكلة تأمين عدالة توزيعيّة في اقتصاديات التعليم

  1. لطالما رأت الكنيسة المارونيّة أنّ توفير فرص التعلّم لجميع الأولاد في محيط من الجودة يمثِّل أوّليّة لديها، وأنّ العدالة والمساواة تؤمّنان للحريّات مضمونها الإنسانيّ والاجتماعيّ. ويعود للدولة وحدها، وهي القيّمة على الخير العامّ، وفي ضوء المعايير الوطنيّة وتوافرها في المؤسّسات التعليميّة، وفي ضوء كلفة التعليم المثلى، “أن تتنبّه للعدالة التوزيعيّة، بحيث يستطيع الوالدون أن ينعموا بحريّة حقّة في اختيار مدرسة بنيهم بحسب ما يمليه عليهم الضمير”[30]. فإذا كانت الدولة تطالب المواطن بتسديد الضرائب المتوجّبة عليه تحت طائلة المسؤوليّة، فهي مطالبة بأن تلتزم أدبيًّا وقانونيًّا بمبدأ عدالة التوزيع، وإنّ إحجامَها عن ذلك يُعتبر مسًّا بحقوق المواطن الأساسيّة، ومنها المساواة والحريّة.

ويتوقّع أعضاء المجمع أن تسهر الدولة على تجنّب أيّ خيار يولي أفضليّة التنمية لشريحةٍ من المجتمع دون سواها، أو لإحدى مراحل التعليم دون غيرها.

ضمن هذا الإطار، يجب إقرار إلزاميّة التعليم الأساسيّ أيّ الابتدائيّ والمتوسّط وبتمويل من الدولة، شرط إجراء توجيه مدرسيّ نوعيّ يمكّن الطالب، وفقًا لقدراته النفسيّة والمعرفيّة والعلميّة، من ولوج المرحلة الثانويّة التي تؤدّي إلى التعليم العالي، أو من ولوج التعليم المهنيّ المتعدّد الفروع والاختصاصات والرامي إلى إعداد مهنيّين متخصّصين تحتاج إليهم سوق العمل الداخليّة والإقليميّة.

5. القدرة على أن تبقى المدرسة المارونيّة مفتوحة لجميع أفراد المجتمع، وخصوصًا المحتاجين

  1. إن كان في حكم تحصيل الحاصل أن تفتح المدرسة أبوابها في يومنا الحاضر للصبيان والبنات، ولأبناء القرى والمدن، وأن توفّر تعليمًا عامًّا وتعليمًا مهنيًّا، فالمسألة التي تبقى شائكة باستمرار، وتزداد صعوبة في الأزمنة الاقتصاديّة العصيبة، هي إمكانيّة استقبال ذويّ الدخل المحدود في المدرسة المارونيّة عندما يزداد عدد هؤلاء بسرعة وبكثرة، وعندما تصبح المدرسة قلقة على توفير معاشات معلّميها وموظَّفيها وتوفير المال اللازم لإبقاء التجهيزات المدرسيّة في حالة ملائمة لتحقيق الأهداف التي أُنشئت من أجلها.

وتجدر الإشارة إلى أنّ موقف الكنيسة المارونيّة منذ القدم لم يتغيّر حيال تعليم الذين لا قدرة لهم على دفع الأقساط المدرسيّة. فالمجمع اللبنانيّ حمل في نصوصه تفضيلاً لتعليم هؤلاء على سواهم، إذ نصّ صريحًا: “ويريد أن يُؤثِر اختيار أولاد الفقراء”، بَيْدَ أنّه لا ينفي أولاد الأغنياء “على شرط أن يقوموا بحاجاتهم على نفقتهم”[31]. وفي الإرشاد الرسوليّ، “رجاء جديد للبنان”، كانت الدعوة واضحة “كيلا يقطع أيُّ شاب تحصيله لأسباب ماديّة أو ماليّة محض”[32]. لكنّ الكنيسة طالما أدركت أن تحدّيًا كبيرًا يكمن في طريق تحقيق هدف التعلُّم للجميع، وهو الوضع الاقتصاديّ. وقد نبّه مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في دورته السادسة والثلاثين، التي خصّصها للتربية، إلى تحدّيات كبيرة تواجه اليوم المدرسة الكاثوليكيّة وتعرقل أهدافها والغايات المرجوّة، وذكر في رأس قائمة التحدّيات ما أسماه “الأزمة الاقتصاديّة والعجز عن خدمة الفقراء”[33]. ولهذا التحدّي أهميّة خاصّة في بلد مثل لبنان عانى ما عاناه ويلات الحرب وأزمات مرحلة ما بعد الحرب، حيث إنّ بعض العائلات تضطر إلى هجرة المدرسة الخاصّة إلى المدرسة الرسميّة بفعل الوضع الاقتصاديّ والاجتماعيّ المتأزّم ولغياب برنامج مساعدات تقدّمه الدولة إلى الأهلين، فتتيح لهم اختيار المدرسة التي يريدونها لأولادهم. ولعلّ هذا التحدّي يخفّ تدريجًا في البلدان الأخرى التي ينتشر فيها الموارنة وتقوم فيها مدارس مارونيّة، وتتحمّل الدولة في تلك البلاد مسؤوليّة الإسهام في تأمين التعليم للأولاد.

  1. وتحتِّم الأعباء الاقتصاديّة الاستثنائيّة على المدرسة المارونيّة أن تكون خلاّقة في مواجهة هذا التحدّي بحيث أنّها تتمّم رسالتها الإنسانيّة لجهة تعليم الإنسان، كلّ إنسان، ولاسيّما الفقير، من جهة، وتتيقَّن، من جهة ثانية، من أنَّ تزايد الأعباء الماليّة لا يؤدّي إلى المساومة من قبل الإدارة المدرسيّة على جودة التعليم وكذلك الخدمات التربويّة والتوجيهيّة المرافقة له. وتتطلّب مواجهة هذا التحدّي تصميمًا استثنائيًّا وجهدًا مضاعفًا وفكرًا خلاّقًا بامتياز وخطّة عمل استراتيجيّة تتضافر فيها جهود الإدارة المدرسيّة والمعلّمين والقدامى وأولياء التلاميذ والشريحة المجتمعيّة المحيطة بالمدرسة، من أجل بقاء فرصة مستمرّة لتعليم الولد الفقير. وإنّ انفتاح المدرسة المارونيّة على مفهوم الإنشاء لصناديق الدعم بشكل محترف يمثّل ركيزةً أساسيّة في تعزيز فرص تعليم الفقير. فالبرامج المنظّمة لجمع التبرّعات، والتي تُراوح بين النّشاطات البسيطة التي تعزِّز صندوق المساعدات الماليّة، واعتماد الوقفيّات، مرورًا بشتّى أنواع النشاطات والمساعي، من شأنها كلّها أن توفّر فرصة أفضل لعدد أكبر من التلاميذ للدراسة في المدرسة المارونيّة.

ولعلّ المدارس التي أخفقت حتى الآن في التوفيق بين جودة خدماتها لتلامذتها وفرص تعليم الفقراء، قد نسبت حالتها هذه إلى الوضع الاقتصاديّ المتردّي، في حين لا يكون الوضع الاقتصاديّ هو فعلاً المسؤول الوحيد عن تراجع نوعيّة الخدمات التي تقدّمها المدرسة وتوقُّف نموّها، بل يكمن السبب الأساس في عدم الاستعداد الكافي لظروف استثنائيّة، واللجوء إلى أفكار وحلول كلاسيكيّة في مواجهة ظروف تتطوّر وتتغيّر كلّ يوم.

6. هل تبقى المدرسة المارونيّة جذّابة لغير المسيحيّين؟

  1. من النادر أن نجد رهبانيّة أو أبرشيّة مارونيّة لم يقم لها غير مدرسة في منطقة تسكنها غالبيّة من غير المسيحيّين، وذلك بهدف خدمة أبناء تلك المناطق من اللبنانيين. في ذلك الزمن، كان سعي الطوائف غير المسيحيّة في لبنان إلى فتح المدارس خجولاً. إلاّ أنّه، ومع نهاية الحرب في لبنان أواخر العام 1991، ازداد اهتمام الطوائف غير المسيحيّة بالتربية، فأنشأت المدارس التابعة لها، ما دفع بعض التلاميذ غير المسيحيّين إلى الإلتحاق بها.

ولكي تبقى المدرسة المارونيّة جذّابة لغير المسيحيّين، عليها أن تعيَ تمامًا الأسباب الأساسيّة التي دفعت هؤلاء إلى إرسال أولادهم إليها. لقد اختار المسلمون لأولادهم المدرسة المارونيّة بهدف وجود فرصة التلاقي “للشباب المسلم… مع إخوة لهم في المواطنيّة، أيّ المسيحيّين”[34]، وبسبب الأقساط المعقولة والتربية القيميّة، والتربية القيميّة التي توفّرها، ومستواها الأكاديميّ التعليميّ، وانفتاحها على الثقافات العالميّة.

  1. لا بدّ من الإشارة إلى أنّ ما تقدّم يمثّل الاستراتيجيّة المباشرة المؤثّرة في المدى القريب والمتوسّط والبعيد على حدّ سواء. إلاّ أنّ هناك استراتيجيّة أخرى يمكن اعتمادها، وهي استراتيجيّة تجني ثمارًا في المديَيْن المتوسط والبعيد، وتتمثّل في عمل جماعيّ وهادف ومتواصل ومحترف ومنظّم من قبل المدرسة المارونيّة والمعلّمين الموارنة بهدف خلق وعي أكبر في مجتمعها لقيم قبول الآخر المختلف، وتثمين التنوّع الثقافيّ، وتقديس حريّة المعتقد والتعبير ولتأكيد هذا التوجّه، يُصار إلى تشجيع إنشاء المدارس المارونيّة في المناطق الجغرافيّة المختلطة وتعزيز دورها التربويّ. وما لا شكّ فيه أنّ هذه القيم يجب أن تصبح أوّلاً نهجًا حياتيًّا عند أهل الكنيسة المارونيّة والمدرسة المارونيّة في كلّ الظروف والأوقات.

7. المدرسة المارونيّة وحضورها وتجديد رسالتها في عالم الانتشار

  1. تبقى تجربة المدرسة المارونيّة في الانتشار خجولة بالنسبة إلى الأعداد الكبيرة من المهاجرين المسيحيّين والمسلمين. وإنّه تحدٍّ يكتسب أهميّة مضاعفة بسبب هجرة مئات الآلاف من المسيحيّين في العقود الثلاثة الأخيرة، يقيم معظمهم في أميركا الشماليّة وأوستراليا. وإذا كان من السهل معرفة أماكن تجمّع هذه الجاليات، فإنّه لم يكن يومًا للكنيسة المارونيّة، بأبرشيّاتها المنتشرة في تلك البلدان، أو رهبانيّاتها المحليّة التي أوفدت مرسلين إلى تلك البلاد، استراتيجيّة أو خطّة متكاملة لفتح مدارس تخدم أبناء الكنيسة من المهاجرين بالدرجة الأولى، واللبنانيّين عمومًا بالدرجة الثانية، وأهالي تلك المجتمعات بالدرجة الثالثة. وترى الكنيسة المارونيّة نفسها في سباق مع الوقت لمواجهة هذا التحدّي، الذي كلّما مرّ وقت على عدم مواجهته، باتت هذه المواجهة أصعب وأقلّ تأثيرًا.

8. المدرسة الرسميّة وضرورة الإستجابة لحاجات أبناء الكنيسة

  1. ترى الكنيسة أنّ التعليم الرسميّ يُسهم في تحقيق هدفها المتمثّل في جعل التعليم متوافرًا للجميع، وأنّه يُسهم في جعل التعليم إلزاميًّا ومجّانيًّا في آن معًا، الأمر الذي لا تستطيع المدرسة الخاصّة وحدها تحقيقه. وبذلك ترى الكنيسة أنّ التركيز في المدرسة الخاصّة وحدها منقوص ولا يجوز، خصوصًا أنّ عددًا كبيرًا من أبنائها الأطفال والشبّان يتابعون اليوم دراستهم في المدرسة الرسميّة. وإذ تتألمّ لما تراه من تعثُّر في هذه المدرسة ومن هدر للطاقات البشريّة والماليّة، تطالب الدولة والمجتمع بدعم التعليم الرسميّ، وترى من الضروريّ أن تؤمَّن له النوعيّة التي تمكّنه من أن يبقى في منافسة شريفة مع المدرسة الخاصّة، منافسة تولّد التميّز؛ وهذا فقط يضمن للوالدين حريّة اختيار المدرسة لأولادهم. إلاّ أنّ المجمع، وهو يشدّد على دور المدرسة الرسميّة لتكون في خدمة الجميع، وعلى الأخصّ أبناء الكنيسة المارونيّة، لا بدّ له أن يشير إلى نقاط الضعف في التعليم الرسميّ، والتي يحدّدها الاختصاصيّون بالعناصر التالية[35]:

          ‌أ.       على صعيد التلاميذ، حيث إنّ مستوى اكتسابهم التعليميّ والتربويّ لا يصل إلى ما هو مطلوب.

     ‌ب.       وعلى صعيد المرافق الرسميّة، مثل الأبنية والتجهيزات، حيث إنّ التفاوت في توزيعها الجغرافيّ لا يتلاءم والحاجات ولا يجعل العمليّة التعليميّة التربويّة ممكنة  ومتوازنة.

       ‌ج.       أمّا على صعيد المناهج الجديدة فلم تستطع المدرسة الرسميّة تطبيقها، نظرًا لعدم التجدّد الكافي في أساليبها وتجهيزاتها التكنولوجيّة والمختبريّة، وفي تأمين التكوين المستمرّ للهيئة التعليميّة.

وهنا لا بدّ من الإشارة أيضًا إلى واقع الهيئة التعليميّة التي هي مفتاح التطوير التربويّ. يجب أن يكون لها الأوّليّة في حسن التطبيق لمعايير التوظيف وفي التطوير، وكذلك في تعزيز وضعها الماديّ. ولا تزال مشكلة إدارة المدارس الرسميّة قائمة من حيث صلاحيّات المدير وإعداده وتعيينه، لأنّ شخصيّة المدير هي أساس في ضمان تحسّن النوعيّة والجودة، بالإضافة إلى ضرورة اختيار الجهاز الإداريّ الكفء، وخصوصًا مديري الأقسام.

إنّ هذه العناصر مع غيرها التي تمثّل الأسباب الرئيسة لأزمات المدرسة الرسميّة والتعليم الرسميّ في لبنان، تطرح ضرورة الإصلاح الجذريّ الذي ما زال ينتظره الكثيرون. إلاّ أنّ هذا الإصلاح لن يستقيم إلاّ بتشريعات جديدة وحديثة حيال دور وزارة التربية في تسيير التعليم الرسميّ، وبتشكيل المجلس الوطنيّ للتربية والتعليم من مختلف الهيئات الرسميّة والخاصّة، الذي عليه أن يسيِّر أمور التربية والتعليم في القطاعين الرسميّ والخاصّ، والذي لا يخلو في بعض أجزائه من أزمات تشبه أزمات المدرسة الرسميّة. ومن هذه التشريعات المقترحة ما يهدف إلى إعطاء إدارة المدرسة الرسميّة صلاحيّات تسمح لها بحريّة العمل والتصرّف وإعطاء المجتمع المحليّ إمكان دعم المدرسة وتطويرها.

ويدعو المجمع بإلحاح الدولة إلى تعزيز التعليم الرسميّ عبر توفير التجهيزات والأبنية الملائمة وحسن توزّع المعلّمين وتعزيز قدراتهم وإبعاد المحسوبيّات والسياسة عن القرارات التربويّة.

9. المحافظة على حريّة التعليم

  1. أكّد الدستور اللبنانيّ، في مادّته العاشرة، أنّ التعليم حرٌّ في لبنان ما لم يُخِلَّ بالنظام العامّ أو يُنافِ الآداب أو يتعرّض لكرامة أحد الأديان أو المذاهب، وأنّه لا يمكن أن تُمسّ حقوق الطوائف من جهة إنشاء مدارسها الخاصّة، على أن تسير في ذلك وفاقًا للأنظمة العامّة التي تصدرها الدولة في شأن المعارف العموميّة.

وقد ضَمنت حريّة التعليم أيضًا دساتيرُ معظم الدول التي وُجد فيها أبناء الكنيسة أو هاجروا إليها وألَّفوا فيها مع إخوانهم اللبنانيّين من سائر الطوائف والمذاهب جاليات لبنانيّة ومشرقيّة، لكنّ هذه الحريّة لا تكتمل إلاّ في حال قيام توازن ومساواة بين المدرستين الرسميّة والخاصّة بحيث تتاح للأهل مسؤوليّة الاختيار الصحيح.

وإذ تسعى الكنيسة باستمرار لكيلا تكون الشروط الواردة في الدستور اللبنانيّ فرصة ليصبح بسط سلطة الدولة إلغاء لحريّة المجموعات، فهي ترى أنّ مسؤوليّة الدولة في توفير مجّانيّة التعليم، والتشريع لإلزاميّته، ووضع المناهج التربويّة الرسميّة، والتشريعات التي لحظها الدستور اللبنانيّ في شأن التعليم، لا تتعارض مع رغبة الكنيسة في فتح المدارس، وتعدّد لغات التعليم فيها، والانفتاح المستمرّ على الثقافات المتنوّعة، وإغناء المناهج الرسميّة بموادّ تعليميّة من شأنها أن تنمّي الجوانب الجماليّة والفنيّة والقيميّة لدى التلميذ. فحريّة التعليم تُسهم في تنمية الفكر النقديّ، وتفتُّق الإبداع، والتمرّس بحمل المسؤوليّة، وإنتاج المعرفة عِوض استهلاكها.

10. التربية على حقّ الآخر في الاختلاف وتعزيز التنوّع وتثمينه

  1. ترى الكنيسة أنّ من واجب المدرسة أن تربّي أولادها على قيمة تقديس حقّ الآخر في الاختلاف لونًا ودينًا وعرقًا ومعتقدًا. وترى أنّ الاختلاف هو مصدر غنى وائتلاف، كما في السيمفونيّة أو اللوحة، وليس مصدر خلافٍ يُميت ويلغي الآخر. وتشجّع الكنيسة المربّين في مدارسها على تنشئة الأولاد بحيث يدركون أنّ لقاء المسيحيّين والمسلمين في لبنان والنطاق البطريركيّ، ولقاء أبناء الجاليات المارونيّة وأبناء الأهالي الأصليين في بلدان الانتشار، إنّما هو شرارة إبداع لا شرارة فتنة، إذا هم ارتفعوا إلى مستوى التحدّي وآمنوا بالقيم المشتركة الكثيرة. من هذا المنطلق تصبح الأوّليّة للحوار المنفتح المصغي بحثًا عن تعرُّف الآخر للاعتراف به وإسقاط الأفكار الجاهزة والمسبقة عنه.

وإذا كان لبنان يتألّف من عائلات روحيّة متعدّدة، فإنّ الكنيسة تربّي أولادها في مدارسها على أنّ في ذلك ثروةً وغنى، وأنّ المحافظة على وحدة الوطن في إطار التعدّديّة الدينيّة مسؤوليّة وطنيّة وإنسانيّة في آن معًا. ولا سبيل لبلوغ هذا الهدف من دون الحوار، حوار البحث عن الحقيقة في وجهة نظر الآخر، سواء كان ذلك الحوار حوار حياة أم حوار عمل أم حوار فكر.

ويدعو المجمع كلّ ذويّ الإرادة الحسنة، حيثما وجدوا، في المدارس الأخرى أو في أيّ بيئة انتموا إليها، كي يتلاقوا مع أولادهم في هذا الجهد العظيم لبناء حضارة التآلف والمحبّة.

11. إشكاليّة التعليم المهنيّ والتّقنيّ

  1. كان التعليم المهنيّ والتقنيّ عاملاً رئيسًا أسهم في نهوض العديد من الدول والمجتمعات، خصوصًا بعد الأزمات الكبيرة التي تعرّضت لها. وهو العمود الفقريّ للاقتصاد في البلدان، لكونه يُعدّ الكفايات الإنسانيّة الضروريّة على مختلف مستوياتها للنهوض بالمجتمع. إلاّ أنّ هذا التعليم في لبنان لا يزال، على الرّغم من الأموال التي أنفقت عليه، قاصرًا عن تحقيق الأهداف التعليميّة والاقتصاديّة المرجوّة.

ومن التحدّيات التي يواجهها التعليم في لبنان مستوى التعليم المهنيّ والتّقنيّ، الذي لم يستطع اللّحاق بالمناهج الحديثة التي تلبيّ سوق العمل وبالمستجدّات التكنولوجيّة على مختلف أنواعها، وبخاصّة الصناعة الإلكترونيّة والمعلوماتيّة.

إنّ التعليم المهنيّ والتّقنيّ توسّع كثيرًا في السنوات الماضية، حتى ارتفع عدد الطلاّب في الرسميّ والخاصّ أكثر من 200 في المئة. إلاّ أنّ الاختصاصيّين يجمعون على أنّ الكفايات التي يتزوّد بها خرّيجو التعليم المهنيّ والتقنيّ غير ملائمة لمتطلّبات الصناعة اللبنانيّة، وعلى أنّ هذا التعليم يحتاج إلى تجديد وإعادة نظر شاملة وعميقة؛ كما شكوا من قلّة الوقت المخصّص في المناهج للتدريب المهنيّ ومن الأساسيّات النظريّة المدرّسة التي تبقى مجرّدة وعموميّة جدًّا. بل إنّ المناهج المستحدثة وُضعت بطريقة مكتبيّة ما أبقى هذا التعليم تحت طغيان التعليم النظريّ وقصور المعلومات النظريّة عن اللّحاق بالمتغيّرات في أنماط الإنتاج وتقنيّاته وضيق عدد الاختصاصات وعدم تمرّس الطلاّب بتنمية قدرات التكيّف وضعفهم في اللغات الأجنبيّة وبخاصّة اللغة الإنكليزيّة، كما أنّ أصحاب العمل مستبعدون عن المشاركة الفعليّة في إعداد المناهج.

الفصل الثالث : الخيارات والثوابت، التطلّعات والتوجّهات

  1. إنّ الكنيسة المارونيّة حدّدت خياراتها التربويّة في الماضي وعلى الأخصّ في المجمع اللبنانيّ (1736) وما نتج منه، وفي الحِقبة المعاصرة والحاليّة كذلك، عبر رسائل البطاركة الموارنة أو من خلال بيانات مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان. وإنّ أيّ تطلّع أو توجّه أو توصية يصدرها المجمع اليوم، لا بدّ لها أن تستذكر تلك الثوابت والخيارات، وخصوصًا تلك المرتبطة بالواقع التربويّ الحاليّ. والكنيسة تعي أنّ تاريخها لا ينفصل عن تاريخ المؤسّسات المارونيّة التربويّة، حيث شكّلت المدرسة العامل الفاعل في عمليّة بناء الوطن والمجتمع، فأسهمت في تكوين ضمائر الأجيال، وإيقاظ أرواحهم، وتوعية عقولهم على مبادئ الحقوق والواجبات الإنسانيّة، وعلى أهميّة موقع بلادهم بين الأمم شرقًا وغربًا. فكثيرون من رجالات الوطن تربّوا في المدرسة المارونيّة، ونهلوا منها العلوم والثقافة، وكانت لهم مواقع مهمّة في السياسة والأدب والفكر والإعلام والتربية والقانون وكانت اللغة العربيّة أداة تعبيرهم الفضلى، فكانوا من روّاد من حافظ عليها ومنعوها من التّتريك، فأنعشوا الحضارة العربيّة بمنجزاتهم. ويعود الفضل في كلّ ذلك، بشكلٍ أساسيّ، إلى التربية التي حصلوا عليها في مدارسهم. وإذ تعي الكنيسة أهميّة خيارها التربويّ هذا، تؤكّد المحافظة عليه كتوجّه إستراتيجيّ في التزامها المجتمع اللبنانيّ والعربيّ وكلّ مجتمعات بلاد الانتشار. 

أوّلاً: الخيارات والثوابت في الحقبة المعاصرة

1. المدرسة المارونيّة مؤسّسة كنسيّة

  1. إنّ العودة إلى بعض المراجع الأساسيّة في إنشاء المدارس المارونيّة مثل نص المجمع اللبنانيّ (1736) الباب السادس، في المدارس والدروس[36] وتاريخ مدرسة عين ورقة (1789-1952)[37]، ومقتطفات من كلمات المطران يوسف الدبس مؤسّس مدرسة الحكمة في بيروت (1875)[38] وغيرها من المراجع المارونيّة تقودنا إلى صياغة تعريف عامّ لماهيّة خصوصيّة المدرسة المارونيّة: إنّها مؤسّسة تعليميّة تربويّة أمرت بإنشائها السلطة الكنسيّة المارونيّة سواء كانت بطريركيّة أو أبرشيّة أو رهبانيّة، رسالتها تعميم العلوم والآداب على حدّ سواء مثل باقي المدارس، همَّها أن توفر التعليم والتربية بوجه نظاميّ بما يفترض من إلزاميّة ومجانيّة لأولئك الذين لا يقدرون، وكذلك تعتبر نفسها مؤتمنة على روحانيّة الكنيسة المارونيّة وتعاليمها وتراثها وقيمها عبر التاريخ بما فيها من إيمان بالخالق عزّ وجل وتعلّق بشخص يسوع المسيح وتشبّث بالوحدة والتعاون والأرض والعائلة والوطن اللبنانيّ والانفتاح على العالم العربيّ والتراث العالميّ اللغويّ والثقافيّ. وتعنى المدرسة المارونيّة بوجه خاص بتدريس أصول اللغة العربيّة والعلوم الرياضيّة والإنسانيّة والفلسفيّة الحديثة، على أن يهتمّ الخريجون من هذه المدرسة لا بأنفسهم فحسب بل بشؤون الطائفة أيضًا[39]، لذلك، فإنّ على أولي الأمر أن يقيموا المدارس في كراسي الأساقفة والأديار كافّةً، على أن لا تغلِب فيها الدنيويّات على الروحيّات[40]، وهي تعمل بوصفها مؤسّسة تربويّة في إطار التعليم الكاثوليكيّ.

2. ضرورة العمل الجماعيّ لإنجاح التربية

  1. وشدَّدت الكنيسة المارونيّة على ضرورة العمل الجماعيّ المشترك في تحقيق العمليّة التربويّة، وأكّدت أنّ التربية “تتولاّها جماعات ثلاث: العيلة، والدولة، والكنيسة”[41]. ورأت أنّ الحقّ والواجب الأوّل في تربية الأولاد يعود إلى الوالدين، وهو حق طبيعيّ لا يُنقض، لكونهم “المربّين الأوّلين وأهمّهم، وعليهم يقع الالتزام الخطير في تربيتهم لأنّهم هم الذين أعطوهم الحياة”[42]. ومن حقّ الأهلين “أن يعهدوا بأولادهم إلى معلّمين يثقون بهم، ومدارس يقع عليها اختيارهم، وليس للدولة أن تنتقص من هذا الحقّ”[43].
  2. ورأت الكنيسة “أنّ التربية ثمرة مجموعة من الجهود تنصبّ على الولد من عدّة نواحٍ: من ناحية الوالدين، والمدرّسين، والمسؤولين، والمجتمع، ومن ناحية الطلاّب أنفسهم؛ وكلّ إهمال من هذه الناحية أو تلك مُخلّ بفاعليّة المجموع”[44]. والتلميذ هو محور العمليّة التربويّة وهدفها، وعلى النظام التربويّ أن ييسّر له الخدمة الفضلى، ليصبح إنسانًا متكاملاً في ذاته، ومواطنًا فاعلاً وفعَّالاً، ومؤمنًا ملتزمًا. فالتلميذ هو بصورة أولى ابن الله، وبالتالي فهو كمسيحيّ ابن الكنيسة وابن الوطن، وهو يحيا ضمن محيط عائليّ، ومجتمعيّ معيّن، فينبغي تنشئته على جميع الصّعد، فكريًّا، وروحيًّا، وأخلاقيًّا، وعلميًّا، واجتماعيًّا[45].

وتقتضي تربية التلميذ تدريبه على الحريّة المسؤولة، فيبادر من ذاته إلى تثقيف ذاته، واكتشاف مواهبه، وبناء معارفه، وإنماء ميوله وتوجيهها نحو الحقّ والخير والعدل والجمال. ويتطلّب هذا من المسؤولين والمربّين سعيًا مباشرًا لفهم عالمه الخاصّ، وكيفيّة تفاعله مع وقائع الحياة، ورعايته لكي ينمو “بالحكمة والقامة والنعمة”[46]، مستلهمًا أنوار الروح القدس، ومتّخذًا مثاله الأعلى شخص يسوع المسيح الحيّ[47].

3. المدرسة أسرة تربويّة

  1. لتحقيق هدف الخدمة التربويّة هذا، رأت الكنيسة أنّ على المدرسة “أن تتحوَّل إلى أسرة تربويّة تقوم بين أعضائها روابط ثقة وعدالة ومحبّة”[48]. فأعضاء الأسرة التربويّة، من إداريين ومعلّمين، ليسوا مسؤولين عن تنفيذ المشروع التربويّ، ليس فقط بمعارفهم وتعاليمهم وكفاءاتهم فحسب، بل أيضًا بمجمل حياتهم المدرسيّة في معيّة التلاميذ[49]. وأدركت الكنيسة أنّ المتولّين أمور المدرسة عليهم أن يتمّموا سعيهم هذا، ويستمرّوا فيه، بروح من المجّانيّة، والحبّ، والصبر، والتواضع، والتضامن، حرصًا منهم على أمانتهم لرسالة الكنيسة، والتزامًا بوصيّة معلّمهم.

4. المعلّم المحور الأساسيّ

  1. ومن خيارات الكنيسة المارونيّة أنّها رأت في المعلّم المحور الأساسيّ لإنجاح العمليّة التربويّة. وصورة المعلّم هذا ارتسمت دومًا في إطار من السموّ المثاليّ، فليس هو ملقّن معلومات، ولا مدرِّب مهارات، بل هو أوّلاً مربٍّ، يجسّد في شخصه كلّ ما يبغي أن يعلّمه لتلاميذه. وفي هذا السموّ يتمثّل بالمعلّم الأوّل يسوع المسيح، ويستلهم سبيل القدّيس مارون الذي كان في شخصه المعلّم الرّوحيّ الأوّل لتراثنا المارونيّ.

كما رأت الكنيسة وجوب “إعداد المعلّم ليكون على مستوى خصائص عصرنا (…) والاهتمام به، نظرًا إلى ما له من تأثير كبير في العمليّة التربويّة، وتنمية شخصيّته بشكل متكامل، ضمن إستراتيجيّة واعية لمواجهة التحدّيات المطروحة”[50]. ومن أوصاف المعلّم التي اختبرتها المدرسة المارونيّة في ممارستها العمليّة:

‌أ.    على المعلّم أن يكون قد تلقّى ثقافة رصينة على المستويات الأكاديميّة والتربويّة والأخلاقيّة والرّوحيّة، وأن يعتبر ذاته في حالة تثقيف مستمرّ لاكتساب معارف وأساليب جديدة، وتمتين كفايته التربويّة والعلميّة[51].

‌ب.  على المعلّم أن يطوِّر مهارات وأساليب تؤهّل التلميذ لاتّخاذ خيارات مسؤولة، تساعده على اكتشاف مواهبه وإمكاناته الذاتيّة وتطويرها، وبالتالي على المربّي أن يرافق التلميذ في سعيه لبناء شخصيّته[52].

‌ج. على المعلّم، إلى جانب صفاته التربويّة والعلميّة، أن يتمتّع بصفات الاستقامة، والجهوزيّة، والخدمة، والعدالة، والمواطنيّة، والانفتاح على كلّ تجديد مناسب. وعليه أن يتميّز بروح رسوليّة، وبحبّه لتلاميذه، وبخاصّة الضعفاء بينهم. وفي التزامه اليوميّ، عليه أن يعيش نسق العلاقات التي يستلهمها من الإنجيل ومن تعاليم الكنيسة، وأن لا يغيب عن باله أنّه في المدرسة “سفير” يسوع المسيح أمام تلاميذه وسائر أعضاء الأسرة التربويّة[53].

5. المدرسة ونشر كلمة الله

  1. إلتزمت الكنيسة المارونيّة المدرسة على أنّها في الأساس مركز تنشئة وتعليم وتربية مسيحيّة لأبنائها[54]. لذلك، رأت أنّ “على التربية أن تعتبر الإنسان، بحقيقة وجوده الكامل، شخصًا عاقلاً حرًّا قابلاً للتثقيف، ذا نفس خالدة، معدَّة لوطن أبديّ تسعى إليه على الأرض”[55]. فالمدرسة تنشر كلام الله مباشرة، لا لإعطاء التلاميذ ثقافة دينيّة عامّة، بل لإرساخهم في الإنجيل، وتدريبهم على ممارسة حياة الإيمان، حبًّا للمسيح، وخدمة للقريب[56]. ولفتت الكنيسة المسؤولين التربوييّن إلى ضرورة “انصراف المدرسة إلى تلقين التعليم الدينيّ في ساعات معيّنة (…) وأن تكون الثقافة كلّها مشبعة بالتّقوى المسيحيّة، وأن تتسرّب هذه النّسمة المقدّسة في أذهان الأساتذة والطلبة فتنعشها”[57]. وتقتضي واجبات المدرسة في هذا المضمار:

‌أ.    أن تكشف للتلاميذ حقيقة سرّ يسوع المسيح، وتقديمه هدفًا أسمى للحياة، وأن تساعدهم على إقامة علاقة شخصيّة به في الحبّ، وفي الخضوع لمشيئته[58].

‌ب.  وعلى المدرسة تنشئة التلاميذ على أسلوب حياة مشبعة بالصلوات اليوميّة، والممارسات الطقسيّة، والرياضات الروحيّة، والنشاطات الرعويّة، وتشجيعهم على الانخراط في الحركات الرسوليّة[59]. ولا بدّ هنا من التذكير أنّ مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان أصدر توصية طلب فيها “تخصيص ساعتين للتعليم المسيحيّ في المدارس الكاثوليكيّة”[60].

من خلال هذه التنشئة، نظرت الكنيسة إلى التلاميذ على أنّ كلاًّ من أبنائها نواة مستقبليّة لعائلات أو لجماعات مسيحيّة حيَّة وفاعلة. فهو يحيا في مجتمع تعدّديّ، وعلى المدرسة إعداده ليكون مواطنًا مستنيرًا، فاعلاًَ، وفي الوقت ذاته ملتزمًا حياة الكنيسة المحليّة والجامعة. ويقتضي هذا الإعداد تدريب التلميذ ليكون في الوقت ذاته، ثابتًا في الحقيقة التي يشهد لها باقتناع وشجاعة ومحبّة، وأن يكون إنسان حوار منفتحًا يحترم الآخر المختلف. ويمكن أيضًا النظر إلى التلميذ المسيحيّ على أنّه رسول مستقبليّ، مستعدّ للتخلّي عن كلّ شيء من أجل المسيح، إذا ما سمع نداءه في أعماقه[61].

6. المدرسة وتعزيز الحسّ الوطنيّ الاجتماعيّ

  1. التزمت الكنيسة تنشئة أبنائها، وأبناء العائلات الروحيّة المتنوّعة، الذين يقصدون مدارسها، على قاعدة الإنسانيّة الشاملة. هذا يعني أن يتدرّب التلميذ على معرفة حقوقه وواجباته على أساس شرعة حقوق الإنسان، ويتمكّن من اختبار مواطنيّة مشاركة تتطلّب معرفة عميقة لهويّته الذاتيّة، ولضرورة تأصّله في أرضه وتاريخه وثقافته ومحيطه[62].

وسعت الكنيسة إلى إعطاء التلميذ حسًّا وطنيًّا راسخًا، فلقّنته تاريخ وطنه، ونمَّت فيه حبّ الأرض والطبيعة، وكلّ ما يميّز وطنه عن باقي الأوطان، وما يمثّله لمستقبل الإنسانيّة جمعاء. وقد رافقت تربية التلميذ على هذه الأسس، تربية أخلاقيّة ووطنيّة مبنيّة على قيم شموليّة من الاحترام والخدمة والصداقة والعدالة والحريّة والمحبّة، ما يُسهم في بناء مجتمع موحّد على تعدّده، ووطن يكون في الوقت ذاته رسالة تعايش ومثالاً للشرق والغرب، ويكون فيه التلميذ فخورًا ببلده، مسهمًا من خلاله، في بناء الحضارة العالميّة[63].

وقد التزمت الكنيسة، في مدارسها، تعريف تلامذتها بعطاءات مشاهير البلاد في ميادين الثقافة الوطنيّة والإقليميّة والدوليّة، وتمكينهم من اكتساب اللغة العربيّة وإتقانها، إلى جانب سائر اللّغات والثقافات الأجنبيّة[64].

7. المدرسة ورسالتها في تعليم الجميع

  1. أولت الكنيسة أهميّة بالغة لتأمين التربية لجميع أفراد المجتمع من دون تمييز بينهم، سواء من جهة أوضاعهم أو إمكاناتهم أو انتماءاتهم الدينيّة أو الاجتماعيّة، فكانت من روّاد التعليم الإجباريّ في المدن والقرى، وأسهمت بذلك في محو الأميّة، وأحاطت بعناية خاصّة الفقراء واليتامى والمعاقين، منمّية حضارة المحبّة والتضامن من أجل خدمة الحياة وصيانة حقوق الإنسان[65].

8. رسالة الكنيسة في تعليم الفتيات

  1. وقد أولت الكنيسة أيضًا، تنشئة الفتيات حيّزًا وافرًا من اهتماماتها التربويّة. فهنّ زوجات المستقبل وأمّهاته، يشكّلن ركنًا أساسيًّا في المجتمع السليم المتوازن؛ وهذا ما يقتضي تنشئتهنّ روحيًّا وعلميًّا وعمليًّا، بما يؤهّل كلّ واحدة منهنّ أن تصبح مربّية الأجيال فيمثّلن الدور الأساسيّ على مستوى التعليم والتربية في المدارس وفي التعليم العالي وأن يكون لهنّ المواقع المتقدّمة في المجتمع. ويُسهم هذا الاهتمام في توعية المرأة الشرقيّة، والإقرار بإسهامها الإيجابيّ، بمعيّة الرجل، في بناء المجتمع[66].

9. الموقع التعليم المهنيّ والتقنيّ

  1. وأسهمت الكنيسة في التعليم المهنيّ والتقنيّ، إذ اعتبرت أنّ هذا التعليم “يشكّل العمود الفقريّ للاقتصاد في لبنان، لكونه يؤهّل الكفايات الإنسانيّة الضروريّة على مختلف مستوياتها وفي الكثير من القطاعات المنتجة”[67].

10. قدسيّة حريّة التعليم والتربيّة وضرورة التخطيط التربويّ

  1. اعتبرت الكنيسة أنّ التربية، على الصعيد الوطنيّ، تقوم على قاعدة حريّة التعليم وما يستتبعها من موجبات. وهذا ما يقرّه الدستور اللبنانيّ، وتعلنه شِرعة حقوق الإنسان، وتعلّم الكنيسة أسسه، إذ ترى أنّ “على السّلطات العامّة المولجة صيانة حريّات المواطنين وحمايتها، أن تتنبّه للعدالة التوزيعيّة وتوزيع المساعدات العامّة، بحيث يستطيع الوالدون أن ينعموا بحريّة حقّة في اختيار مدرسة أولادهم بحسب ما يمليه الضمير”[68]. وقد طالبت الكنيسة بوجوب وضع “تشريع واضح يعترف لجميع المواطنين اللبنانيّين بحقّهم في الاستفادة من مساعدات الأموال العامّة التي تمكّنهم من تأمين نوع التربية التي يرغبون فيها لأبنائهم”[69].

وفي المنحى ذاته، طالبت الكنيسة بضرورة القيام بأعمال التخطيط التربويّ الذي يجب أن يتناول “تحديد الأهداف التربويّة العامّة والأوصاف المنهجيّة الخاصّة…. وإعادة النظر في تجميع المدارس على أنواعها…. وتوجيه التعليم صوب منافذ العمل…. وتطوير البرامج…. وتنظيم التعليم المهنيّ…. وتوفير سبل الاستزادة من الثقافة بعد نهاية المدرسة… وإعداد المعلّمين لرسالتهم”[70]. ورأت الكنيسة ” أنّ إعادة النظر في النظام التربويّ لن تكون بنّاءة إن هي لم تنبثق من المبادئ التي اعتنقتها جميع الفئات اللبنانيّة، وتشترك جميعها في تقديسها”[71]. كما أنّ الكنيسة لم تتردّد في مطالبة الدولة بتعزيز المدرسة الرسميّة التي عليها أن تكون خيارًا جيّدًا للأهلين مثل المدرسة الخاصّة[72].

ثانيًا: التطلّعات والتوجّهات

  1. انطلاقًا من خيارات الكنيسة المارونيّة التربويّة عبر التاريخ واستنادًا إلى الثوابت التي حدّدتها هذه الكنيسة في العصر الحديث بالمشاركة مع باقي الكنائس الكاثوليكيّة، وفي ضوء الواقع الحاليّ وتحدّياته، تؤكّد هذه الكنيسة وجوب اعتماد عدّة اقتراحات ذات طابَع استراتيجيّ تتشارك في تطويرها وتنفيذها الأبرشيّات والرهبانيّات والمؤسّسات التربويّة المدرسيّة.

1. انسجام الرسالة التربويّة مع رسالة الكنيسة المارونيّة

  1. يجب على المدرسة المارونيّة “أن ينسجم عملها انسجامًا إيجابيًّا مع الكنيسة”[73]؛ فالكنيسة “تقيم نفسها داعية ومعلّمة للآداب والعلوم والفنون بقدر ما تراه ذلك ضروريًّا للتربية المسيحيّة ومجديًا لها”[74]. وقد تبنّى أحبار الكنائس الكاثوليكيّة في لبنان هذا المفهوم[75].

لذا، يتوجب على المدرسة أن تدرك باستمرار توجّه الكنيسة، وتتابع باحترام تطوّر مقاربة الكنيسة لتطوّر الحدث العالميّ والمحليّ، وتتّخذ لنفسها موقفًا مرنًا قابلاً للنموّ من قراءة الكنيسة لعلامات الأزمنة، فينعكس ذلك تطورًا لمناهج تربويّة، وتنمية لنشاطات لاصفّيّة، واستحداثًا لخدمات توجيهيّة وإرشاديّة، وتدريبًا لموارد بشريّة، وتبنّيًا لمفاهيم وقيم إنسانيّة.

وفي كلّ مرّة تعيش المدرسة حالةَ قُربٍ للمبادئ والمفاهيم الكنسيّة في مجال ملاءمة المناهج التعليميّة للتربية المسيحيّة، وتسعى إلى تأمين “التعليم للعديد من الأولاد في جميع أنحاء الوطن، من دون أيّ تمييز أو تفرقة”[76]، وإلى اتّخاذ التدابير “التي تجعل مؤسّساتها التعليميّة في متناول جميع الذين يمكن تنشئتهم وبالأخص أفقرهم حالاً”[77]، وتنجح في جعل المدرسة المكان “الذي تُعاش فيه التعدّديّة على مستوى المنهجيّات العلميّة المختلفة وعلى مستوى لقاء الآخرين في اختلافهم”[78]…، تكون المدرسة قد خطَّت لنفسها طريقًا يوصل إلى هدف التربية الشاملة. ولا بدّ أن يتمّ التنبّه لذويّ الحاجات الخاصّة من الأولاد والشبّان والشابّات، حيث إنّ النظام التربويّ في الكنيسة المارونيّة لا يهدف فقط إلى تنشئة القادة الناجحين، بل إنّه خدمة ورسالة خصوصًا تجاه أولئك الذين لا يملكون سوى القليل من الإمكانات التعليميّة، بل إنّهم يملكون حبًّا كبيرًا وحضورًا مميّزًا.

ويوصي المجمع المدارس المارونيّة والهيئات التربويّة بأن تطّلع على تعليم الكنيسة في المجالات المذكورة آنفًا وبأن تُدخل في برامج التثقيف الدينيّ والاجتماعيّ والأخلاقيّ والإنسانيّ ما يصدر عن الكنيسة الجامعة والبطاركة والأساقفة وعن مجلس البطاركة الكاثوليك في الشرق الأدنى ومجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان من رسائل وبيانات تقوم فيها الكنيسة بقراءة الواقع الراهن بمختلف وجوهه وتعرض التوجيهات الملائمة بشأنه.

2. مقارَبة المناهج الأكاديميّة قبل تطويرها وفي أثنائه وبعده

  1. بغضّ النظر عمّا إذا كانت المدرسة المارونيّة أكثريّة أو أقليّة بين مجموعات المدارس في هذا البلد أو ذاك، وعمّا إذا كانت المناهج التربويّة، حيث توجد المدرسة المارونيّة، تخضع للتقويم والمراجعة في حقب زمنيّة متقاربة أو متباعدة، وعمّا إذا كانت المدرسة المارونيّة تعمل في بلد توفّر لها قوانينُه التربويّة مساحة من الخلق والإبداع في تطوير المناهج أم كانت تعمل في بلد تكون فيه للدولة اليدّ الطولى في وضع المناهج التربويّة، فإن الكنيسة المارونيّة ترى لزامًا عليها ألاّ تقف موقف المتفرج أيّا يكن حجم المساحة المتاح لها التحرّك ضمنها، فالغياب خطيئة.

وفي هذا الإطار، يدعو المجمع إلى إبقاء التطوير التربويّ الذي ابتدأ في لبنان مع خطّة النهوض التربويّ في العام 1994، شأنًا مستمرًّا؛ وهذا يشمل التطوير المستمرّ للمناهج وتطوير الخدمات التربويّة وتطوير البيئة المدرسيّة، بما في ذلك التجهيزات ومصادر التعلّم واستخدام التكنولوجيا والمعلوماتيّة، وخصوصًا في ما يعزِّز وضع المدرسة الرسميّة والخاصّة. كما أنّ المشاركة الفعليّة في وضع المناهج وفي تطويرها وتعديلها هي واجب على العاملين في المدارس المارونيّة.

3. إعداد الطاقات البشريّة

  1. في البلدان التي تملك الكثير من الموارد الطبيعيّة والماليّة والتكنولوجيّة، يبقى الإنسان، أيّ الطاقات البشريّة، العنصر الأهمّ بين هذه الموارد والمتقدّم أبدًا عليها. وكم يصحّ هذا القول في بلد مثل لبنان حيث تندر الموارد الطبيعيّة والماليّة والتكنولوجيّة.

المعلّم هو العنصر الأساس في كلّ تحديث وتجدّد، وعليه ألاّ ينقطع البتّة عن مناهل العلم ومصادره، ودقائق العلوم التربويّة وتنوّعاتها، كما عليه أن يستعدّ دومًا للقيام بمهام جديدة للاضطلاع بمسؤوليّات جديدة تنتج من تغيّر جذريّ في رسالة المعلم.

إنّ علاقة المعلّم بالتلميذ هي علاقة إنسانيّة قبل كلّ شيء، قوامها اكتشاف الآخر، أيّ التلميذ، والإصغاء إليه وتوطيد العلاقة به، وإيجاد حلّ لكلّ مشكلة من مشكلاته وجواب لكلّ سؤال من أسئلته. ولذا، من واجب المعلّم أن يثابر على تتلمذه الذاتيّ كي يستطيع المثابرة على تعليم تلامذته. ويسمّى التتلمذ الذاتيّ في عالم التربية بالإعداد المستمرّ.

  1. وتشمل استراتيجيّة إعداد الطاقات البشريّة تقدير جهود المعلّم وإنصافه ماديًّا ومساعدته على عيش حياة كريمة ونزع أيّ قلق غير مبرّر من ذهنه لجهة تأمين معيشته، وتنمية شخصيّة المعلّم وما تنطوي عليه من خصائص وصفات كالتفهّم والصبر ومحبّة الأطفال واحترامهم والمرونة وحبّ النظام وبثّ روح التعاون والثقة بالنفس وروح المسؤوليّة، وامتلاكه المادة التي يدرسها، وإعدادٍ تربويّ يتضمّن دروسًا نظريّة في التربية وعلم النفس وطرائق التدريس، ودروسًا تطبيقيّة من مشاهدة دروس وإعطائها.

وهنا تبرز أهمّية تعيين مدير(ة) جديد(ة) ذي خبرة واسعة وأكيدة في حقل التربية والتعليم، أو أن  يحمل “شهادة الكفاءة في الإدارة المدرسيّة أو ما يعادلها”[79]. كذلك، فإنّ تمتّع المدير(ة) والمعلّم بمهارات قياديّة وتواصليّة وتنظيميّة وإداريّة تعتبر مسألة محتومة، إضافة إلى قابليّتهم للنموّ واكتساب قدرات ومهارات جديدة وتنمية مهارات موجودة.

ويوصي المجمع بأن تتمّ دراسة أوضاع المعلّمين لتقدير الحاجات التدريبيّة وتعزيز مراكز التدريب التابعة للمؤسّسات التربويّة وللأمانة العامّة للمدارس الكاثوليكيّة، وكذلك تطوير قانون مهنة التعليم وإصدار تنظيمات تفصيليّة في هذا المجال.

4. مأسسة العمل داخل الجماعات التربويّة المارونيّة

  1. تمرّ مسألة المأسسة داخل الجماعات التربويّة المارونيّة عبر:
  • تطوير هيكليّات التعاون داخل كلّ مجموعة من مجموعات المدارس المارونيّة وتقويتها، فلا يجوز أن تبقى سياسة المدرسة خاضعة لشخصيّة رئيسها/مديرها، فتتبدّل مع تبدّله، ولا يجوز أن تستقلّ كلّ مدرسة في سياستها عن زميلاتها.
  • تطوير مفاهيم الإدارة المشاركة داخل كلّ مدرسة، فيشعر المعلّمون والإداريّون من كهنة ورهبان وراهبات وعلمانيّين على حدّ سواء بأنهم شركاء في صنع القرار ووضع السياسات وتطوير البنى الإداريّة.
  • توثيق المفاهيم التربويّة والإداريّة داخل كلّ جماعة تربويّة وكلّ مدرسة. فليس كافيًا أن يكون للجماعة التربويّة المارونيّة فلسفة تربويّة أو أهداف تربويّة عامّة، بل يجب على كلّ مدرسة أن تكون قادرة على توثيق أهدافها التربويّة الخاصّة، وسياستها المؤسّساتيّة[80]. ومن خلال توثيق المفاهيم التربويّة والإداريّة تتجنّب المؤسّسات توتّرات لا فائدة منها، ومشاعر القلق التي قد تنتاب بعض أعضائها عند تغيير رأس الهرم في المدرسة.
    • تنظيم عناصر الأسرة التربويّة من أهل ومعلّمين وقدامى، بغية تثمير الطاقات التي يتمتّعون بها.

ويدعو المجمع المؤسّسات التربويّة والمدرسة المارونيّة إلى إصدار مختلف التشريعات التنظيميّة الداخليّة ضمن إطار التعاون بينها، وذلك بهدف أسس ثابتة لتسيير شؤونها التربويّة والإداريّة. ويشدّد على وضع سياسات وبرامج مولدة للجودة والملاءمة والنوعيّة مثل العمل الجماعيّ وتبادل المعلومات، وإنشاء الهيئات الأكاديميّة بين المعلّمين ووضع أسس التقويم والتقييم للعمل التربويّ، أعلى مستوى التلامذة كان ذلك أم على مستوى المؤسّسة.

5. مقاربة النزعات الأصوليّة

  1. يشهد العالم اليوم تناميًا مطردًا للأصوليّات. ويبدو الطابع الدينيّ في هذه الأصوليّات متقدّمًا على ما عداه، أعرقيّة كانت هذه الأصوليّات أم إتنيّة أم جغرافيّة أم سياسيّة.

ويرى أعضاء المجمع أنّ الأصوليّات وانتشارها، المستفيد من تعاطف وسائل إعلام معها، هي خطر مباشر على نوعيّة التربية التي تسعى إلى تحقيقها الكنيسة المارونيّة. وما يميّز هذه الأصوليّات أنّها ترفض قبول الآخر المختلف كما هو فلا تقدر أن تستفيد من مفكّري هذا الآخر وخبرته الجماعيّة المتراكمة، وتعلّم أولادها مبادئ تتناقض وقيم التعليم النوعيّ وفي أوّلها قيمة التربية على السلام، فتربّي على “تمجيد العنف” عبر وضعه في أطر دينيّة ووطنيّة مختلفة، وتضع قيودًا على حريّة التفكير، وتطلب على نحوٍ غير مباشر من الفكر الإنسانيّ أن يمتنع عن السؤال والبحث والقبول بمبدئيّة تعدّد مصادر الحقيقة.

  1. وتقوم استراتيجيّة مقاربة النزعات الأصوليّة على مبادئ ثلاثة:

‌أ.         التأكيد أنّ “العنف ليس طريقة لحلّ مشاكل المجتمع والنزاعات بين الشعوب. قال السيّد المسيح لبطرس حين أراد اللجوء إلى العنف ليدافع عنه: أَغمد سيفك، فكلّ من يأخذ بالسيف، بالسيف يهلك (متى 26/52)”[81]. فالمدرسة المارونيّة بإداريّيها ومعلّميها لا تساوم في هذا المجال تودّدًا لهذه الجماعة أو طلبًا للقرب من تلك.

‌ب.    نشر التربية على تاريخ السلام وعلى تاريخ العلاقات بين الحضارات، إذ إنّه “من حقّ الأولاد أن يحصلوا على تنشئة خاصّة بالسلام توفّرها لهم المدرسة والهيكليّات التربويّة الأخرى، والتي من مهمّتها أن تقودهم تدريجيًّا إلى إدراك طبيعة السلام ومتطلّباته في عالمهم وثقافتهم. ومن الضروريّ أن يتعلَّموا تاريخ السلام، لا تاريخ الحروب الرابحة أو الخاسرة وحسب”[82].

‌ج.     مساعدة التلاميذ على اكتساب فهم حقيقيّ موضوعيّ للأصوليّات، وبالتالي تدريبهم على كيفيّة التعاطي معها. فلا يجوز، ونحن نربّي أولادنا على ثقافة السلام، أن نقع في محظور تربيتهم لعالم سيكونون فيه غرباء وغير مهيّئين لمواجهة تحدّياته.

ومن البرامج التي على المدارس القيام بها التدريب على حلّ النـزاعات بالوسائل السلميّة، وتشجيع اللقاءات والتعارف والحوار بين الطلاّب من فئات ومذاهب وجماعات دينيّة شتّى، وتعزيز برامج الثقافة الدينيّة التي تعرف بمختلف الأديان وخصائصها، والتدريب على القبول بالتنوّع والتعدّديّة الدينيّة والمدنيّة عبر مختلف النشاطات الصفيّة واللاصفيّة، ممّا ينميّ الروح النقديّ المنافي لكلّ توجه إيديولوجيّ.

6. الاستثمار الأمثل للموارد في عالم تفوق فيه الحاجات الموارد

  1. تدعو الكنيسة المارونيّة أبرشيّاتها ورهبانيّاتها، وخصوصًا تلك المهتمّة بالموضوع التربويّ، إلى أن تقوم بجردة لمواردها، فترى ما هو متوافر منها حاليًّا، وتقارنه بما هو مطلوب منها للقيام بعمل تربويّ جيّد، وذلك من أجل تحديد ما يجب تنميته ليفي بالمطلوب.
  2. ويفترض بكلّ جماعة تربويّة أن تُرسِخَ لدى مسؤوليها وأعضائها القناعات الآتية:
  • تهيئة الأشخاص الكنسيين الذين يتولّون مسؤوليّات إداريّة تربويّة في المدرسة وخصوصًا على مستويي رئاسة المدرسة وإدارة القسم، والعلمانيين الذين يتولّون مسؤوليّات إداريّة تربويّة وخصوصًا على مستويي إدارة القسم وتنسيق الموادّ وسائر المسؤوليّات للقيام بهذه المهمّات.
  • إنتقاء المجموعات التربويّة المارونيّة من بينها أشخاصًا ترى فيهم الطاقة والقدرة على الاضطلاع بمسؤوليّات قياديّة، فلا تبخل عليهم بالوقت والجهد والمال لتعليمهم، وبالتالي تشجيعهم على الالتحاق ببرامج الإدارة التربويّة وما شابهها في الجامعات، وكلّ ذلك من أجل سدّ الحاجات المستقبليّة.
  • انفتاح المجموعات الكنسيّة التربويّة المارونيّة بما فيه الكفاية على فكرة إسناد مسؤوليّات تربويّة إداريّة إلى علمانيين مشهود لهم بسيرتهم الحسنة واهتماماتهم الروحيّة الكنسيّة.
  • بذل الجهد الكافي مع القدامى وأولياء الأولاد بغية “تثمير الطاقات التي يتمتّعون بها، فيصبحون ضمانة أكبر لمستقبل مدارسنا واستثمارها”[83].
  • اقتناع المجموعات التربويّة المارونيّة بالفائدة من “تقاسم اختصاصات البكالوريا بين المدارس المتجاورة”[84].
  • اقتناع المدارس المارونيّة بأنّه من الضروريّ أن تفوق جودة الخدمات التي يقدّمها المربّون في برنامج التعليم المسيحيّ، جودة تلك التي يقدّمها المعلّمون في الموادّ الدنيويّة التي يعلّمونها وسائر الخدمات التي تقدّمها المدرسة.
  • وضع خطّة لاستثمار الموارد الماليّة في البشر والحجر والتجهيزات بشكل يضمن مردودًا جيّدًا لهذا الاستثمار.
  • صياغة مشاريع تأسيس صناديق تعاضديّة، مع أنظمة لها ومجالس إداريّة تديرها، استنادًا إلى روح الإنجيل وخبرة الكنيسة في عمل الخير، وذلك للإسهام في توفير المنح المدرسيّة للتلامذة المحتاجين وفي مساعدة المدارس على إبقاء أقساطها في متناول العدد الأكبر من العائلات وبالتالي مساعدتها على تطوير تجهيزاتها ومواردها الماديّة والبشريّة. وهذه الفكرة لا تمنع من إنشاء صندوق تعاضد على مستوى الأمانة العامّة للمدارس الكاثوليكيّة يُسهم في تغذية أولياء التلامذة وقدامى المدارس ذاتها وتخصّص له بعض إيرادات أملاك الكنيسة.

7. انتشار المدرسة المارونيّة على الصعيد الجِغرافيّ

  1. تقسّم المدارس المارونيّة جِغرافيًّا إلى ثلاث مناطق هي:
  • المناطق ذات الغالبيّة المارونيّة أو المسيحيّة.
  • المناطق ذات الغالبيّة الإسلاميّة.
  • بلدان الانتشار حيث يوجد الموارنة.

إنّ الجماعات التربويّة المارونيّة من أبرشيّات ورهبانيّات مدعوّة، وبأسرع وقت ممكن، إلى تشكيل هيئة تمثيليّة تناقش أوراق عمل متعدّدة، من شأنها أن تضع خطّة لجهة:

  • وضع خريطة إلكترونيّة، من شأنها تحديد المواقع التي تصلح لإقامة المدارس فيها وتوزِّع المسؤوليّات في ذلك بين المؤسّسات الكنسيّة بغية انتفاء التنافس غير المجدي بينها.
  • فتح المدارس في المديَيَنْ القريب والمتوسّط في كلّ المناطق الجغرافيّة المشار إليها أعلاه.
  • مشاركة الأبرشيات والرهبانيّات في مسؤوليّة إنشاء هذه المدارس وتشغيلها.
  • تحديد الأهداف الموضوعيّة وماهيّة الحاجات التي ستلبّيها المدارس الجديدة.
  • تثبُّت المؤسّسة التربويّة المارونيّة من أنّها قد حقّقت الأهداف ولبّت الحاجات.
  • تحديد المعايير للتحقُّق من كون هذه المدارس قد حقّقت أهدافها.
  1. إستنادًا إلى ما سبق، على الجماعات التربويّة من أبرشيّات ورهبانيّات أن تنسّق في ما بينها في موضوع فتح المدارس، فالتنسيق ضمن الجماعة الواحدة وما بين الجماعات من شأنه أن يخفّف الأعباء الماديّة، ويزيد من الفعاليّة التربويّة من جهة أخرى.

ومن الضروريّ أن تنسّق هذه الهيئة التمثيليّة أعمالها مع المؤسّسات التربويّة المسيحيّة غير المارونيّة، وتأخذ بعين الاعتبار توزّع المدارس الرسميّة أيضًا.

8. الاهتمام بالمدارس الرسميّة

  1. ينطلق المجمع من النداء الذي أُعلن في ختام السينودس من أجل لبنان: “نحن نشعر بأنّنا معنيّون كلّيًا بقضايا التعليم الرسميّ. أولاد المدارس الرسميّة هم أولادنا كما هم أولاد المدارس الخاصّة”[85]. وإذ تجهد الكنيسة المارونيّة لإيصال كلمة الله إلى أبنائها في المدرسة الرسميّة، لا يقتصر عملها على ذلك، بل يشمل “تشجيع أعضاء الهيئتين الإداريّة و التعليميّة على القيام بواجبهم الكنسيّ والاجتماعيّ والوطنيّ من خلال عملهم التربويّ”[86].
  2. وتشجّع الكنيسة المدارس التي تنتمي إليها والجمعيّات الأهليّة، وخصوصًا في القرى، على تطوير برامج دعمٍ للمدارس الرسميّة، إن بتأمين تجهيزات لوجستيّة متنوّعة، أم بفتح المختبرات وغيرها من مراكز التعلُّم أمام صفوف معيّنة من مدارس رسميّة مجاورة لا تتوافر فيها التجهيزات الضروريّة لتحقيق أهداف العمليّة التربويّة.

إلى ذلك، تبرز الحاجة في المدرسة الرسميّة إلى مرشد روحيّ ومعلّمين للتعليم المسيحيّ، لا تتحمّل وزارة التربيّة والتعليم العالي عادة نفقات الخدمات التي يقدّمونها. وترى الكنيسة أنّها معنيّة بشكل مباشر بتأمين هذه الخدمات لتلاميذ المدارس الرسميّة، وذلك عبر أبرشيّاتها ورهبانيّاتها المتنوّعة، مستعينة لذلك بخبرات مدارسها والخيّرين من أبنائها.

وبالتالي، فإنّ المجمع يدعو الدولة إلى القيام بواجبها كاملاً بخصوص دعم التعليم الرسميّ وإصلاحه، فيتمّ إيقاف الهدر، وتحديث الأبنية والأجهزة التربويّة، وتأهيل الهيئة التعليميّة حيث يجب، وتعزيز تعليم اللغات العربيّة والأجنبيّة ضمانًا للجودة والملاءمة. كما أنّ المجمع يشجّع قيام جمعيّات أهليّة تضمّ نخبًا من الإكليروس والعلمانيّين تكون مهمتها دعم المدارس الرسميّة حيثما هو لازم.

9. مقاربة التعليم المهنيّ والتقنيّ

  1. وإذ ترغب الكنيسة في أن يُولى هذا التعليم اهتمامًا خاصًّا، تتمنّى بإلحاح أن يتوافق التوجيه المهنيّ الصحيح وحاجات سوق العمل، وأن تزول الذهنيّة السلبيّة السائدة بشأن المهن والاختصاصات التقنيّة. وترى الكنيسة أنّ على الدولة واجب رفع مستوى هذا التعليم ثقافيًّا وتقنيّا، وضبط الهدر فيه، وتأمين انتشاره في قطاعيه الرسميّ والخاصّ في جميع المناطق اللبنانيّة، وإصدار التشريعات الضروريّة التي تؤمّن التكامل بين التعليم العامّ والتعليم المهنيّ والتعليم العالي كإضافة الشهادة الثانويّة الإنسانيّة – فرع التعليم المهنيّ والتقنيّ إلى الشهادات الثانويّة الأخرى المعمول بها، للإسهام في تخطّي النظرة الدونيّة السائدة إلى هذا التعليم[87] في معظم دول النطاق البطريركيّ.

ويوصي المجمع بأن تولي المدارس المارونيّة التعليم المهنيّ والتّقنيّ الأهمّيّة التي يستحقّها، فتعطي الصورة الجيّدة عنه وتوجِّه الناشئة إليه، ويُشجّع المجمع بالتالي على أن تنشئ الوحدات المهنيّة والتقنيّة ذات الجودة العالية لإعداد المهنيّين والتقنيّين الذين يقدرون على المشاركة في الإنهاض ببلادهم ووطنهم. ويدعو على صعيد آخر المراجع الرسميّة إلى أن يتمّ إصلاح هيكليّة التعليم المهنيّ في الجانب التنظيميّ من شهادات واختصاصات ومستويات، وفي الجانب الإداريّ والتعليميّ وخصوصًا ما يتعلّق بالمناهج التعليميّة.

10. مقاربة الاهتمام بأبناء الكنيسة المارونيّة المتابعين تحصيلهم الدراسيّ في المدارس الخاصّة غير المارونيّة

  1. إنّ المجمع يأخذ بعين الاعتبار أنّ كثرة من أبناء الكنيسة المارونيّة في لبنان والنطاق البطريركيّ، وخصوصًا في بلدان الانتشار، يحصّلون تعلّمهم في مدارس إمّا كاثوليكيّة غير مارونيّة، وإمّا في مدارس مسيحيّة أو تحمل طابعًا مسيحيًّا أو في مدارس علمانيّة أو لا صبغة واضحة لها. وهو يرى بإيجابيّة الدور الذي يقوم به العديد من المربّين الموارنة في هذه المؤسّسات، ومنهم الكهنة والرهبان والراهبات أحيانًا.

وأمام هذا الواقع، وبما أنّ الكنيسة المارونيّة لم تتوجّه بعد بوجه مباشر إلى أبنائها وأوليائهم وكذلك إلى الأساتذة والمربّين الذين اختاروا المدرسة الخاصّة غير المارونيّة طريقًا لتحصيل العلم أو طريقًا للتعليم، فإنّ المجمع يشير إلى ما يأتي:

أوّلاً: إنّ العديد من التحدّيات والثوابت والخيارات تصلح لأبنائها التلامذة الموارنة أينما كانوا، مثل: النمّو المتوازن لدى المتعلّم، والجمع بين الثقافة والإيمان بالله، والتأقلم مع الحداثة من دون حذف التقاليد الحميدة أو إهمالها، والحوار بين الأديان وتعرُّفها، وتعلّم التاريخ الوطنيّ وما يحويه من قيم ومبادئ، والتدرُّب على حقّ الآخر في الاختلاف وتعزيز التنوّع.

ثانيًا: إنّ على أولياء التلامذة الموارنة حسن اختيار المدرسة لتعليم أولادهم. إلاّ أنّ واجبهم يتضاعف عندما لا توفّر المدرسة التربية المسيحيّة المناسبة؛ فلا بدّ حينئذ أن يؤمّنوا لأولادهم معرفة كنيستهم وتقاليدها الدينيّة والروحيّة، وبالتالي تأكيد هويّتهم والالتزام بها، وتربية أولادهم على الإيمان بالله وعلى الواجبات الدينيّة والاجتماعيّة التي يوجبها ذلك الإيمان.

ثالثًا: إنّ على المربّين في هذه المدارس أن يوظّفوا إمكاناتهم في المساعدة على التعريف الإيجابيّ بالتراث المارونيّ وبهموم الكنيسة وقضاياها، والأخذ بعين الاعتبار ما أورده المجمع في مختلف وثائقه، خصوصًا تلك المتعلّقة بالتربية والمدرسة والثقافة ودور العلمانيّين والشبيبة، الخ…

11. تطوير مشروع شراكة بين شركاء التربية

  1. التربية هي “فنّ تنشئة الأشخاص”[88]. وهذه التنشئة هي نتيجة لمساهمات متعدّدة وحثيثة ومتواصلة من جانب المتعلّم والعائلة والأسرة التربويّة والدولة والمجتمع الأهليّ والمدنيّ والكنيسة.

ويترتّب على الشركاء مسؤوليّة جسيمة، إذ “إنه لَيحقّ التفكير في أنّ مصير الإنسانيّة هو في أيدي أولئك الذين استطاعوا أن يقدّموا للأجيال أسباب الحياة والأمل”[89]. وإذا كان “العمل التربويّ هو في جوهره مشاركة”[90]، فكيف يُسهِم هؤلاء الشركاء في جودة التربية والتعليم؟

أ. المتعلّم

  1. إن كان المتعلّم هو غاية العمليّة التربويّة، فإنّه أيضًا شريك مسهم في تتميمها. فالمتعلّم هو “العامل الأوّل في تربيته الذاتيّة، تتمّ مساعدته ليقبل الحبَّ والمساعدة وليستبطن تدريجيًّا النظام، وليتمّم وظيفته كاملة كتلميذ، وليخلق بينه وبين معلّميه علاقات صريحة تسودها المحبّة والاحترام المتبادلان”[91].

ب. العائلة

  1. إذا كانت “الأسرة المسيحيّة هي كشف وتحقيق على نحو خالص للشركة المسيحيّة”[92]، فإنّ الأسرة، وهي “شركة مميّزة”[93]، مدعوّة إلى “اتّفاق في الرأي عند الأزواج واشتراك للوالدين في تربية الأبناء”[94]. والعائلة المارونيّة هي شريك كامل في مشروع الكنيسة المارونيّة. وإذا كان المجمع اللبنانيّ جازمًا في موضوع دور الأهل في تربية الصبيان إذ أمر آباءهم “بأن يسوقوهم إلى المدرسة ولو مكرهين”[95]، ومشجّعًا على “تعليم الأخوات اللواتي سيُصبحنَ راهبات”[96]، فإنّ الكنيسة المارونيّة أولت الأهل المسؤوليّة الأولى في التربية، فأكّدت بوضوح أنّه “على الوالدين واجب خطير يلزمهم بأن يُعنَوا ما استطاعوا بتربية أولادهم دينيًّا وخُلُقيًّا وماديًّا ومدنيًّا وبما فيه مصلحتهم الزمنيّة”[97]. وأدركت الكنيسة المارونيّة أنّ حقّ الوالدين هذا ومسؤوليّتهم في التربية ليس استبداديًّا، بل “يخضع لغاية الإنسان الأخيرة وللناموس الإلهيّ والطبيعيّ”[98].

ج. الأسرة التربويّة

  1. تضطلع الأسرة التربويّة، من إدارة وهيئة تعليميّة وموظّفين، بدورٍ محوريّ في تنشئة المتعلِّم. ومن ضمن الأسرة التربويّة في المدرسة المارونيّة يمثّل المعلّمون دورًا مميّزًا، فهم ليسوا مدعوّين إلى وضع المناهج الأكاديميّة موضع التنفيذ وحسب، بل إلى الإسهام من خلال خبراتهم وأدائهم وطريقة عيشهم، في تعلُّم الولد آليّةً سليمة في تقويم الخيارات والقرارات، وفي نموّ حسّه النقديّ وقدرته على المساءلة، ونضجه في فهمه ذاته والآخرين وكيفيّة التعاطي معهم ومع نفسه، وحفزه على سبر غور مجالات وتقنيّات ومعارف جديدة، واكتساب المهارات البحثيّة للقيام بكلّ ذلك. وللأهلهن دور مهمّ في الإسهام في التنشئة التي تقوم بها المدرسة خصوصًا عبر مجالس الأهل التي لا بدّ من تفعيلها لتقوم بما هو واجب عليها.

د. الدولة

  1. ترى الكنيسة المارونيّة أنّ لجميع المواطنين الحقّ في فرص متكافئة للحصول على تعليم شامل ذي جودة عالية، وأنّ الدولة شريك في توفير هذا الحقّ. فإلى الدولة تعود صيانة الحريّات الأساسيّة وتنميتها، والحقّ الحصريّ في سنّ القوانين والأنظمة للمؤسّسات التربويّة، ووضع المناهج التربويّة للتعليم الخاصّ والرسميّ حيث هي تمارس فيها الدولة هذا الحقّ ويوجد موارنة، والحقّ الحصريّ في تقويم كمّ ونوع المعارف التي اكتسبها التلميذ بعد أربع عشرة سنة من الدرس، وذلك عبر الامتحانات الرسميّة (في البلدان التي تعتمد نظام الامتحانات الرسميّة ويوجد فيها موارنة)، إضافة إلى مسؤوليّتها الكاملة التربويّة والماليّة في جميع المجالات. وعليها واجبات أيضًا، ليس أقلّها “أن تضمن حقّ الأولاد في تربية مدرسيّة صالحة، فتسهر على كفاية المعلّمين، ومستوى الدروس، وصحّة التلاميذ، وعلى تنظيم الجهاز المدرسيّ بوجهٍ عامّ، نابذة كلّ احتكار مدرسيّ”[99]. ويتوجّب على الدولة أن تسهم في تعليم الأولاد في المدارس الخاصّة، وألاّ يقتصر إسهامها على توفير التعليم الرسميّ لهم. ولنا في البلدان التي تتّبع هذا التقليد ويوجد فيها موارنة، خير مثال على إمكانيّة تطبيق هذه السياسة التي من شأنها توفير غير خيارٍ جيّد للعائلات لتعليم أولادها.

ولا يقتصر دور الدولة كشريك على المنحى المادّي، بل يتعدّاه إلى البُعد القيميّ؛ فلا تقتصر القيم التي تتبنّاها الدولة وتُقرّها في المناهج على المواطنيّة فحسب، بل تتعدّاها إلى القيم الاجتماعيّة والأخلاقيّة والثقافيّة والروحيّة أيضًا. وبذلك تتشارك الدولة والمدرسة في بناء مفاهيم قيميّة شاملة لدى المعلّم.

هـ. المجتمع الأهليّ المدنيّ

  1. إنّ المجتمع المدنيّ، بمختلف مؤسّساته كالبلديّات والنوادي والجمعيّات الأهليّة والاقتصاديّة والثقافيّة والنقابات بمختلف أطيافها، أخذت اليوم تقوم بدور فاعل في إعلاء شأن التربية، خصوصًا المدرسيّة منها، ولما لهذه التربية من انعكاسات على حياة المجتمع الاقتصاديّة والثقافيّة والاجتماعيّة. إنَّ هذا الدور يحتّم على المدرسة المارونيّة الانفتاح على هذا الشريك الأساسيّ في الرسالة التربويّة، فتقوم بإرساء أرقى العلاقات معه، وتحقّق بالتالي دورها في اندماج التلميذ في مجتمعه بحيث يكون مرتبطًا به، وعنصر تطوّر له عبر الثقافة التي يكون قد اكتسبها على مقاعد الدراسة.

و. الكنيسة

  1. تجد الكنيسة المارونيّة في دعوة معلِّمها لها: “اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم” (متى 28/19) نداءً واضحًا يتوجّه إليها شخصيًّا، تجب تلبيته. وإذا احتضنت هذه الدعوة، فإنّها تلبّيها من خلال ذراعها التربويّة المتمثّلة بالمدرسة.

وتجد الرسالة التربويّة في الكنيسة المارونيّة جذورها في تراث آباء الكنيسة الأنطاكيّة حيث نمت وانتشرت على مرّ العصور، فشيّدت المدارس إلى جانب الكنائس والأديار، وازدهرت مع عودة الأفواج الأولى من خرّيجي مدرسة روما المارونيّة إلى لبنان. فمنذ تأسيس هذه المدرسة، “حدّد البابا غريغوريوس الثالث عشر أهدافها وغايتها بقوله إنّ الغاية الأوّليّة والأساسيّة في إنشاء المدرسة هي تقويّة الإيمان عند الموارنة، وتثقيفهم بالعلوم الصالحة، وتربيتهم على التعليم السليم والفضائل المسيحيّة الكاملة، ليكونوا رسلاً ينشرون عبير التقوى وتعاليم الكنيسة المقدّسة على أرز لبنان وعلى طائفتهم وفي بلدانهم”[100].

وتنسجم الكنيسة المارونيّة في مبدئيّة كون المدرسة شريكًا فعّالاً في رسالتها مع تقليد لدى الكنيسة الكاثوليكيّة، يؤكّد أنّ الكنيسة “مدعوّة إلى أن تكون مربّية الأشخاص والشعوب”[101].

لذا، فإنّ لهذه الشراكة رؤية مستمَدَّة من الكتاب المقدّس، محورها هو المتعلّم، وإطارها القانونيّ والتنظيميّ هو الدولة، والقنوات التي تعبر من خلالها الرسالة هي الأسرة التربويّة، ومستودع الفضائل والتقاليد الحميدة والعادات الطيّبة والتراثات الفنيّة هو العائلة[102].

 

ز. الإعلام

  1. يبرز الإعلام كوسيلة تواصل، إذا ما تمّت الاستفادة منها، فإنّها تبني الوحدة والتفاهم المتبادل. وفي هذا الإطار تتطلّع الكنيسة المارونيّة إلى وسائل الإعلام شريكة في العمليّة التربويّة من حيث التزامها الأخلاقيّ والوطنيّ ودورها في بثّ روح الاعتراف بالآخر واحترام حقوق الإنسان ومحرّك لحوار دائم بين مختلف شرائح الشعب التي ينتمي إليها أولاد المدرسة، وذلك بهدف الإسهام في تخفيف التوتّرات التي لا لزوم لها، وتحقيق الاتّصال بين مجموعات متباعدة دينيًّا وسياسيًّا في البلد الواحد وعبر الحدود سعيًا إلى خلق مفاهيم مشتركة للعيش معًا.

ويوصي المجمع المؤسّسات التربويّة أن تولي الاهتمام اللازم لتعريف التلامذة بمختلف الوسائل الإعلاميّة السمعيّة والبصريّة والمكتوبة وبطرق وأساليب صياغة الأخبار على اختلافها وتدريبهم على حسن اختيار البرامج المختلفة وما من شأنه أن تخفيه أو تبثّه من تأثير. ويمكن للمدرسة أن تشجّع التلامذة على القيام بتحقيقات حول الواقع والراهن وصعوباته، أو حول التراث الوطنيّ الدينيّ والتاريخيّ. ويدعو المجمع إلى إنشاء لقاءات بين المدرسة والأهلين لمساعدة التلامذة على وضع قواعد للتمييز بين ما هو جيّد وسّيىء، في مجال الأفلام وفحواها على تنوّعه واختلافه.

خاتمة

نحو تحقيق التنشئة الشاملة والنوعيّة

  1. يرى المجمع أنّ تحقيق الكنيسة لأهداف التربية الشاملة، والتعلّم النوعيّ، والتعلّم للجميع، والجودة الشاملة، لهو الأمر الذي يبرّر وجود المؤسّسة التربويّة المارونيّة والتربوييّن الموارنة اليوم. ويرى الآباء أنّ التحدّيات التي تواجه تحقيق هذه الأهداف لا يمكن تخطّيها ما لم تضع الكنيسة والمدرسة المارونيّتان استراتيجيّات عمليّة ومشاريع قابلة للتحقيق.

ويرى المجمع أنّ الطريق إلى تحقيق الأهداف الأربعة المذكورة يمرّ عبر خلق الوعي الجماعيّ لدى أبناء الكنيسة المعنيين بالتربية، وحثّهم على قبول هذه الأهداف وتبنيّها، وفهم التحدّيات المعيقة لبلوغها، والعمل استراتيجيًّا من أجل تحقيقها.

إلاّ أنّ الكنيسة، وفي مسيرتها نحو هذه الأهداف، ترى أنّ الأهداف بحدّ ذاتها ليست هي الغاية النهائيّة، وإنمّا هي تتمثّل بنوعيّة الإنسان الذي تُسهم المدرسة المارونيّة والتربويّون الموارنة في إعداده وتأهيله. لذا فإنّ الكنيسة لا تقبل في أيّ وقت من الأوقات، وتحت تأثير أيّ ظرف من الظروف بأن تكون المهمّة التربويّة للمدرسة المارونيّة محدّدة بالجودة العلميّة وبالنوعيّة الفكريّة، وهما أساسيّتان، بل إنّ هذه المهمّة ترمي إلى إنماء التلميذ إنسانيًّا وروحيًّا إنماءً كاملاً ومتكاملاً.

وترى الكنيسة أنّ على كلّ مدرسة أو مجموعة من المدارس المنتمية إلى إطار أبرشيّ أو رهبانيّ واحد، أن تصوغ مشروعها التربويّ المتكامل، فيكون لها بمثابة الشّرعة التي تهتدي به من ناحية، وتعمل على تحقيقه في نشاطاتها المدرسيّة المختلفة من ناحية أخرى، فيحمل هذا المشروع في طيّاته مختلف أوجه الإرث المسيحيّ والمارونيّ. فعندما تصوغ المدرسة المارونيّة هذا المشروع، استنادًا إلى الخيارات الواردة في هذه الوثيقة، ومن ضمن مشاركة فاعلة لجميع الشركاء في العمليّة التربويّة، تكون المدرسة قد دخلت في الروحيّة التربويّة المجمعيّة.

ولا ينسى المجمع، في التشديد على واجب المدرسة، بأن تعي ذاتها مؤسّسة غايتها خدمة المجتمع ككلّ، وعليها أن تسعى إلى استنباط الوسائل الماديّة والمعنويّة لتأمين التعليم النوعيّ للجميع حتى في وسط الأزمات الاجتماعيّة والاقتصاديّة. وهي بالتالي تفرض نفسها قطبًا أساسيًّا في إطار تربويّ تعدّديّ واسع يتشكّل من مختلف مدارس القطاع الخاصّ والمدارس الرسميّة. فهي جزء لا يتجزّأ من عائلة المدارس الكاثوليكيّة، وإن كان عليها أن تحافظ على خصوصيّتها التربويّة، وهي شريك تربويّ أساسيّ تحمل الهمّ التربويّ الوطنيّ وهي في خدمة الأهداف الوطنيّة العامّة في التربيّة، وإن كانت لها ميزتها ومرجعيّتها الكنسيّة والحضاريّة.

وإنّ ما يرجوه المجمع، ختامًا، أن ينشأ مرصد مارونيّ لمتابعة تحقيق هذه التوجيهات والخيارات، لأنّ ما يهمّ الكنيسة هو أن يتلقّى الأولاد والشبّان “تنشئة فكريّة وروحيّة متينة تروي عطشهم إلى الحقيقة”[103]، وأن تكون المدرسة جماعة مؤمنة…[104] في “مناخ من الإيمان وتحسّس القيم الإنسانيّة والأخلاقيّة في الأسرة التربويّة”[105].


توصيات النصّ وآليات العمل

 

الموضوع  

التوصية  

الآليّة

1- التنسيق التربويّ وفتح المدارس.

 

 

 

 

 

 

 

1- يدعو المجمع الأبرشيّات والرهبانيّات التي تعمل في مجال التربية إلى الإستمرار في فتح المدارس اقتناعًا منها بأنّ لها دورًا أساسيًّا في رسالة الكنيسة وانتشارها ونموّها.

 

1-أ: وضع استراتيجيّة لتنسيق فتح المدارس في المناطق التي توجد فيها مدارس مارونيّة في لبنان وفي المناطق التي لا توجد فيها مدارس في لبنان وفي الانتشار.

 

1-ب: إعداد الكوادر الإداريّة والتعليميّة، وإحصاء الموارد لعمل تربويّ جيّد.

1-ج: التنسيق ضمن مجموعة المدارس التابعة لمؤسّسة واحدة أو لعدّة مؤسّسات من أجل تخفيف الأعباء الماديّة وزيادة الفعاليّة التربويّة.

2- الشرعة التربويّة.

 

 

2- نظرًا إلى أهميّة العمل التربويّ وتحديد الأهداف التربويّة والتعاون بين المؤسّسات التربويّة، يوصي المجمع بتبنّي الشرعة التربويّة  التي أقرّها مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان.

 

3- التربية المدنيّة والتنشئة الوطنيّة.

3- يوصي المجمع المؤسّسات التربويّة بإيلاء التربية المدنيّة والتنشئة الوطنيّة لتلامذتها أهميّة أساسيّة للتعرّف على هويّتهم والتأصّل في أرضهم وتاريخهم وثقافتهم ومحيطهم.

3- أ: إحترام الحصص المدرسيّة لهذه التنشئة.

3-ب: تطوير أنشطة صفيّة ولا صفيّة مناسبة (تبادل زيارات بين المدارس، ورش عمل، مخيّمات، رحلات…)

4- التربية وذوو الحاجات الخاصّة.

4- يوصي المجمع إدارات المدارس بإيلاء الاهتمام اللازم بذوي الحاجات الخاصّة.

4- تأهيل المباني المدرسيّة وتأمين الأجهزة الخاصّة والإفادة من الخبرات الناجحة القائمة في هذا المجال.

5- مأسسة العمل في المدرسة المارونيّة.

 

5-أ: يوصي المجمع الأبرشيّات والرهبانيّات بتعميم مأسسة العمل داخل كلّ مجموعة من مجموعات المدارس المارونيّة وداخل كلّ مدرسة على حدة.

5- ب: كما يوصي بإعداد الموارد البشريّة وصقلها وبدراسة أوضاع المعلّمين وتقدير جهودهم معنويًّا وماديًّا.

5-أ: تطوير هيكليات التعاون في قلب كلّ مجموعة من مجموعات المدارس المارونيّة وتقويتها، والعمل على تأمين الإستمراريّة في العمل التربويّ والإداريّ.

 

5-ب: تطوير مفاهيم الإدارة المشاركة داخل كلّ مدرسة، فتتعاون الأسرة التربويّة في صنع القرار ووضع السياسات وتطوير البنى الإداريّة.

5-ج: كتابة المشروع التربويّ لكلّ مؤسّسة تربويّة، وتوصيف مهمّات كلّ العاملين فيها، وتدريب الموارد البشريّة في المدرسة تحقيقًا لهذا المشروع التربويّ، وجعل الإلتزام الروحيّ المسيحيّ للمعلم معيارًا من المعايير الأساسيّة لإنتقائه.

5-د: إنشاء الهيئات الأكاديميّة بين المعلّمين ووضع أسس التقييم للعمل التربويّ.

5-هـ: تطوير مطبوعاتها التسويقيّة وموقع الانترنت الخاصّ فيها وتعزيز حضورها الإعلاميّ وترشيده.

6- التعليم المهنيّ.

6- يوصي المجمع بأن تولي المدارس المارون