الشبيبة

مقدّمة : نبويّة رساليّة في عمق الكنيسة

  1. تعتبر الكنيسة الجامعة “راعويّة الشبيبة” حقلاً رسوليًّا حيويًّا، وترى فيها أساسًا لإعلان البشارة الجديدة بالإنجيل في الألفيّة الثالثة. وقداسة البابا يوحنّا بولس الثاني عمل كثيرًا في هذه الراعويّة وأعطاها زخمًا وحيويّة جديدين في الربع الأخير من القرن الفائت، نشير هنا إلى أنّ بروزها كان مع الحركات الرسوليّة العلمانيّة في بداية القرن العشرين.
  2. بنى قداسته هذه الراعويّة الخاصّة، على الثقة المتبادلة بين الشبيبة والكنيسة، من خلال التحاور معهم، بشجاعة وشفافيّة. فهم رجاء الكنيسة، وهي “أمّهم ومعلّمتهم” وخادمة رسالتهم في عالم اليوم.

والأجيال الطالعة التي تبحث عن السعادة وعن معنى الوجود، وترغب في العلم والتربية والتنشئة، تتجاوب مع نداء الكنيسة بسخاء، حين تجد لديها همّ الأمومة الصادق والتعليم الأصيل. ويمتاز الشبيبة، بصدقهم وبصراحتهم وبميلهم إلى المثاليّة، ولهم بالتالي كلمة يقولونها للسلطة الكنسيّة و”ملاحظات قاسية”، أحيانًا، في شأنها على ما قاله البابا يوحنّا بولس الثاني للشبيبة المحتشدة في باحة القديس بطرس في ختام سنة الفداء 1984. ويصف قداسته العلاقة بين الشبيبة والكنيسة “بالدقيقة والصعبة”، ويضيف أنّه “ليس من السهل على الكبار أبناء الجيل السابق أن يتقبّلوها”. لكنّه يشدّد على “عدم التوّقف عن طرح التساؤلات والانتقادات، بل متابعة قول كلّ شيء بأمانة”.

  1. تبرز في موقف قداسة البابا يوحنّا بولس الثاني هذا، وفي مبادراته الجديدة تجاه الشبيبة، وفي إرسائه الأسس الراعويّة لرسالة الكنيسة، نبويّة، فعلت فعلها منذ ربع قرن تقريبًا. وكنيستنا المارونيّة التي تولي رسالة الشبيبة ونبوّيتها أهميّة من خلال المجمع البطريركيّ هذا، تجني خيرًا وافرًا، وتؤكّد من جديد وقوفها إلى جانب الشبيبة، رجاء المستقبل، والعمل معهم ومساعدتهم كي ينموا في حضن كنيستهم ويحملوا رسالتها ويشهدوا في حياتهم للقيم الإنجيليّة.

الفصل الأوّل : الشبيبة في الكنيسة المارونيّة عبر التاريخ

  1. لقد دعا المجمع اللبنانيّ صراحةً رعاة الكنيسة المارونيّة إلى أن “يعلِّموا الأحداث”[1]، فنشأت المدارس، وعلى رأسها مدرسة عين ورقة “أم المدارس في الشرق”.

وقد دعيت هذه المدارس إلى أن تتدبّر أمور تلامذتها “جسدانيًّا وروحانيًّا” عبر “تربيتهم بخوف الله والعبادة وحفظ طقوس رتبنا المارونيّة الأنطاكيّة المقدّسة منذ حداثة سنّهم… ليرتشدوا بالعلوم المقدّسة”[2].

أسهمت هذه الرعاية التربويّة في رفع مستوى ثقافة الشبيبة الموارنة، وانعكس ذلك لاحقًا، على الدور الرياديّ الذي لعبه هؤلاء على مستوى النهضة العربيّة الحديثة منذ منتصف القرن التاسع عشر.

  1. إلى جانب هذه الإشارة إلى النشء المارونيّ في نصوص المقررات المجمعيّة المارونيّة هناك إشارات أخرى في نصوص أدبيّة وتاريخيّة تدل على اهتمام الموارنة بشبيبتهم. ففي الواقع عاش الموارنة في قرى جبليّة شبه مُغلقة، ونشأوا في مجتمعات ضيّقة، ونعموا برعاية خاصّة عائليّة وقرويّة في آن.
  2. في هذه القرى شبه المقفلة “كانت تعيش الكنيسة المارونيّة، قبل المجمع اللبنانيّ، حياةً نسكيّة رهبانيّة منظّمة على غرار الدير”[3]؛ وكان الموارنة بفئاتهم كلّها، ومن ضمنها الشبيبة، يشاركون في “الفروض الدينيّة ليل نهار”[4]. إنّ هذه الحياة الليتورجيّة الكثيفة التي تجلّت في “ممارستهم الاحتفالات التي تعلّموها عن آبائهم”[5] كانت منهلاً أصيلاً لروحانيتهم. فكانوا “يحفظون الصوم بدقّة، ويفضّلون الموت على مخالفة الوصيّة، أصحاب قلب، كرماء، جريئين”[6]. جسّدت مدرسة الصلاة اليوميّة هذه إطارًا متينًا لتربية النشء والشبيبة، ولصقل شخصيّتهم الروحيّة والإنسانيّة، ولترسيخهم في روحانيّة كنيستهم الأنطاكيّة السريانيّة والمشرقيّة المارونيّة.
  3. ويُظهر التعمّق في تاريخ الكنيسة المارونيّة العلاقة الوثيقة، التي ربطت الشعب برعاته، حتى ليصعب الفصل فيها بين ما هو دينيّ وما هو زمنيّ. “فالبطريرك هو سيّد هذا الجبل وكلّ هذا الشعب يطيعه في كلّ شيء وفي سبيل كلّ شيء. إنّه كبيرهم وأبوهم وهم كثر”[7]. عاش الشبيبة، وهم أكثريّة هذا الشعب، في رعاية هؤلاء الآباء الكبار، وتفاعلوا مع رؤاهم الروحيّة والزمنيّة. فمنهم من شدّتهم روحانيّة النسك والزهد، فتركوا الدنيا واختلوا في الجبال والوديان، ومنهم من أسّسوا الرهبانيّات، فتنظمّت الحياة الرهبانيّة في جبل لبنان، ومنهم من تجنّدوا للذود عن وجود الموارنة وقضاياهم، فانتظموا لذلك وراء مقدّميهم ومشايخهم.
  4. مع ازدياد عدد المدارس وانتشار العلم في جبل لبنان في أوائل القرن التاسع عشر، وانفتاح الموارنة على الفكر الأوروبيّ، الذي نتج عن الثورة الفرنسيّة والحركات التحرريّة التي تلتها في أوروبا، ظهرت معالم إجتماعيّة جديدة انعكست على علاقة الفئات الاجتماعيّة المارونيّة فيما بينها. فبعدما كانت العلاقة مستقرّة إلى حدٍّ بعيد بين “حلقات المجتمع المارونيّ”[8]، من القرن الثالث عشر حتى القرن السابع عشر، توتّرت هذه العلاقة مع تنامي الحركة المطلبيّة للعوامّ في جبل لبنان، فكان القرن التاسع عشر قرنًا مضطربًا كثرت فيه العامّيات التي كان الشبيبة الموارنة في طليعة قياديّيها، فقاموا بأوّل حركة إستقلاليّة (مطلبيّة) في كسروان، وسعوا إلى تعميق مفهوم الكيان اللبنانيّ المستقل.
    1. أمّا في القرن العشرين، وبعد تأسيس دولة لبنان الكبير، دخلت الكنيسة المارونيّة في مرحلة جديدة في علاقتها بالحداثة. فبعدما “ثبّت المجمع اللبنانيّ الكنيسة المارونيّة في الحداثة الكنسيّة”[9]، أسهم قيام دولة لبنان الكبير في دخول الموارنة طور الحداثة الإنسانيّة والاجتماعيّة والاقتصادية والسياسيّة؛ فتراجعت الزراعة أمام وظائف وأعمال جديدة أقبل عليها الشبيبة، مكّنتهم من أداءِ أدوار إجتماعيّة وسياسيّة ما كانوا يؤدّونها في السابق.

وبعدما كان أعلام الكنيسة المارونيّة ومثقّفوها، حتى نهاية القرن الثامن عشر، إجمالاً من الإكليريكيين، خرّيجي المدرسة المارونيّة في روما، ظهرت في بداية القرن التاسع عشر نُخبٌ ثقافيّة جديدة من الشبيبة العلمانيين، دخلوا المعترك الثقافيّ والعلميّ والأدبيّ والاقتصاديّ والسياسيّ. فكان منهم الأدباء والصحافيون والشعراء والأطباء والمهندسون والمحامون ومؤسّسو الأحزاب السياسيّة والروابط الأدبيّة والجمعيّات الأهليّة، الذين تركوا أثرًا كبيرًا في تاريخ لبنان الحديث.

  1. في أواسط الأربعينات، من القرن العشرين وصلت تباعًا إلى لبنان حركات العمل الرسوليّ الكاثوليكيّ التي تأسّست في أوروبا فانتمت إليها أعداد كبيرة من الشبيبة الموارنة؛ وجسّد هذا الالتزام وعيًا عميقًا لدور شبابنا الرسوليّ وأرسى علاقة إيجابيّة بين الكنيسة المارونيّة وشبيبتها. وأخيرًا كانت الحرب اللبنانيّة وكان طبعًا للشبيبة الموارنة فيها أدوار بارزة منها الإيجابيّ والسلبيّ. يجدر بنا التوقّف عندها ودرسها بتمعّن.

الفصل الثاني : الشبيبة الموارنة والإيمان في عالم اليوم

1. دعوة الشبيبة لوعي مضامين إيمانهم المسيحيّ

  1. إنّ الشبيبة الموارنة هم ورثة إيمان راسخ وعميق، يتجلّى في تقاليد روحيّة تؤسّس لإيمانهم في عالم اليوم. هذا الإيمان المبنيّ أوّلاً على شخص يسوع المسيح، المائت والقائم من الموت، هو إيمان تعرضه الكنيسة اليوم وفي كلّ لحظة على ضميرهم، والكنيسة تبغي مساعدتهم على إكتشاف المسيح الفادي المعلّم الحقّ، والمرشد والصديق وبناء علاقة شخصيّة معه. فشبيبتنا الموارنة مدعوّة اليوم إلى حمل رسالة الكنيسة هذه في مسيرتها على دروب الحياة والحفاظ على هذا الإرث الإيمانيّ حيًّا وفاعلاً في حياتهم اليوميّة.
    1. في الواقع، تدفع العلاقة العميقة مع المسيح الشبيبة إلى البحث عن معنى الحياة، وإلى السعي لإكتشاف مخطّط الله عليهم، متيقنين أنّ حياتهم ليست ملكًا خاصًّا يتصرفون به كما يحلو لهم، بل هي عطيّة من الله، وملك للإنسانيّة والمجتمع حيث يعيشون. إنّ إيمانهم بالمسيح، واتباعهم له يؤديان بهم إلى وعي مضامين هذا الإيمان والإلتزام بإعلان كلمة الله بشجاعة، والعمل الدؤوب لتحويل العالم بروح الإنجيل. فيتحررون بذلك من التردّد والخوف ويندفعون إلى الساحات والطرقات، كالرسل الأوائل، للتبشير بالمسيح، وملاقاة الشبيبة غير الملتزمة رعويًّا باستنباط الوسائل الملائمة في حمل البشرى ونشرها في أوساطهم.

2. انتماء الشبيبة إلى الكنيسة

  1. يتوازى إكتشاف المسيح الحيّ مع إكتشاف الكنيسة. فلا كنيسة دون المسيح، لأنّها سرّه المعلن، ولا يمكن التعرّف حقًا إلى المسيح إلاّ فيها.

يتحقّق إنتماء الشبيبة إلى الكنيسة حين تتفّهم السلطات الكنسيّة توقهم إلى إثبات ذواتهم في محيطهم ومجتمعهم، فتحتضنهم بمحبّة ورجاء وثقة. هذا الإحتضان المجانيّ يسهّل الحوار الصادق بينهم وبينها، ويوضّح لهم تقدير الكنيسة وتثمينها لطاقات الخير والجمال التي يختزنونها في أعماقهم. “فعلى الكنيسة أنّ تشعر بأنّها ملتزمة بالشبيبة، بقلقهم وباهتماماتهم، بانفتاحهم وبآمالهم للإجابة على إنتظاراتهم من خلال القول لهم أنّ اليقين هو المسيح، أنّ الحقيقة هي المسيح وأنّ المحبّة هي المسيح”[10]. فتظهر حينها كخادمة للحقيقة التي يبحث عنها الشبيبة، وتعزّز ثقتهم فيها ويتحقّق إنتماؤهم إليها. إنّ الإنتماء إلى الكنيسة يترسّخ حين يشعر هؤلاء أنّهم أبناؤها، وخادمو رسالتها ودورهم فيها دور نبويّ؛ ذلك أنّ “الإنسانيّة بحاجة إلى اغتباط الشبيبة وحبّهم للحياة، وفرحهم الذي يردّد صدى فرح الله الأصيل حين خلق الإنسان”[11].

3. شبيبة موارنة ملتزمون في كنيسة اليوم

  1. بعد الأحداث التي عصفت بلبنان في العام 1975، وبعد تزايد أعمال العنف والدمار والتهجير والقتل، اندفع عدد كبير من الشبيبة إلى الصلاة، والتعمّق في الكتاب المقدّس وتعاليم الكنيسة، في محاولة لإعادة النظر في معنى حياتهم، وفي دورهم الرسوليّ، وفي الحياة والآخرة. فعلى الرغم من قساوة المحن وحدّة التجارب، “يمتاز عدد كبير من الشبيبة بالصراحة والجرأة والالتزام”[12]. فهم بغالبيتهم ينشأون في بنى عائليّة ومدرسيّة ورعويّة توفّر لهم بعضًا من الطمأنينة والاستقرار. ومنهم من ينتسبون إلى حركات رسوليّة، محليّة وعالميّة.
  2. تتنوّع الحركات الرسوليّة في لبنان وتتعدّد، إن من حيث نشأتها، وإن من حيث أهدافها، لكنّها تعمل، وبأساليب مختلفة، على تعميق الحياة الروحيّة لدى الشبيبة، وفق برامج تربويّة عدّة، وتحضّهم على الالتزام بإيمانهم وتمرّسهم على الحياة الرسوليّة. إنّ هؤلاء الشبيبة الملتزمين، هم أمل الكنيسة ورجاؤها بحق. وفي العام 1977 أنشأ مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان اللجنة الأسقفيّة لرسالة العلمانيّين وأوكلت إليها راعويّة الشبيبة فتأسّست اللجنة الوطنيّة للشباب التي واكبت منذ العام 1984 مسيرة البابا يوحنّا بولس الثاني مع الشبيبة. وأسهم عمل هذه اللجنة في تأسيس لجان الشبيبة في الأبرشيّات المارونيّة، إبتداءً من العام 1991، فأصبحت اليوم إحدى مؤسّسات تنظيم العمل الرعويّ مع الشبيبة على مستوى الكنيسة المارونيّة في لبنان. من جهة أخرى، لاحظت الكنيسة غياب المرافقة الروحيّة للشبيبة في الجامعات فأنشأت في العام 1979 العمل الرعويّ الجامعيّ الذي أمّن ولا يزال يؤمّن لهم مساحة روحيّة. وإنّ عيش الشبيبة الملتزمين أجواء روحيّة في الجامعة وخارجها من خلال نشاطات العمل الرعويّ الجامعيّ، أسهم في جعلهم رسلاً في مجتمعهم وشهودًا للمسيح.

4. آفات تهدّد شبيبتنا في إيمانهم وقيمهم

  1. إذا كانت الحرب قد دفعت قسمًا من الشبيبة الموارنة إلى إعادة النظر في معنى حياتهم وإيمانهم، يؤلم أعضاء المجمع رؤية البعض الآخر قد أدّت الحال بهم إلى خصام مع الله والقيم بطريقة مباشرة أو غير مباشرة. فابتعدوا عن الكنيسة بسبب الجهل أو خوفًا من الالتزام، أو لسبب النقص في الرعاية الروحيّة. ونتج عن ذلك اهتزاز في العلاقات بين فئات العائلة الواحدة فانقطع الحوار البنّاء بين الأهل وأبنائهم وبخاصّة الشبيبة منهم وتنازل الأهل عن واجب الرعاية السليمة ومرافقة أولادهم على دروب الحياة. فلجأ قسم من هؤلاء إلى تيّارات وبدع اعتقدوا أنّها تعوّض عليهم خسارة احتضان العائلة ودفئها وتعطيهم فرصة التعبير عن الذات وتحقيقها في مناخات تحرّر وهميّة أفضت بهم إلى عبوديات قاتلة. فراحوا ينجرفون على المستوى العاطفيّ وراء الأحاسيس الرخيصة والتفلّت الجنسيّ بالبحث عن اللّذة وإشباع الرغبات وبالجنوح إلى المساكنة، وفقدت العلاقات العاطفيّة بين الجنسين شفافيتها وصدقها وخضعت للمزاجيّة والتردّد وعدم الثبات والخيانة. واستتبع هذه الفوضى العاطفيّة عدم توازن داخليّ أغرق بعضهم في سلوكيّات سيئة أدّت بهم إلى تعاطي المخدرات والإرتهان إلى مروّجيها.
  2. ولقد تنامت هذه الآفات، بنوع خاص، لدى بعض الفئات الاجتماعيّة التي تدّعي تمايزًا طبقيًّا عن غيرها وتسود فيها حياة الرخاء والسهولة، المفضيّة في غالب الأحيان إلى التراخيّ الخلقيّ والتفلّت من الروابط القيميّة التي نعمت بها مجتمعاتنا. وليس غريبًا في أجواء كهذه، أن يعيش الشبيبة أزمات الهويّة ومأساة الضياع وحالات عزلة عن واقعهم وغربة عن قيمهم تؤدّي ببعضهم إلى اليأس فالإنتحار.
  3. وما يزيد الحال سوءًا ظهور تيّارات الإلحاد المقنّع التي تندسّ في عالم الشبيبة وتتخذ أشكالاً متنوّعة وتروّج لها، بقصد أو بغير قصد، وسائل الإعلام العالميّة والمحليّة على أنواعها. فتعزّز في أوساط شبيبتنا مذاهب الماديّة المفرطة والإنحلاليّة، وتبني في وعيهم صورة خاطئة عن الله وتحجب عنهم معرفة الحقيقة وإعتناقها. وتخضع الشبيبة لجملة مؤثّرات تروّج لها الشاشات وشبكات الإتصال الإلكترونيّ وهي تؤسّس لحبّ الظهور الفارغ والسطحيّة والتصنّع وآفة التكاذب المشترك وعدم الشفافيّة وتطاول هذه المؤشّرات عالم الموسيقى والثقافة وتفقدها الجماليّة والإبداع وتغلب في أوساط الشبيبة الإبتزال على الرقيّ.
  4. وما يساق من التشكّي على المستوى العائليّ والتربويّ والإجتماعيّ، يساق كذلك على المستوى العمليّ. فالإقتصاد الليبيراليّ الذي يسود المجتمعات ويغلب منطق الإمتلاك العلميّ والماليّ على المنطق الإنسانيّ والقيميّ، يؤثّر بطريقة حاسمة على عالم العمل. والشبيبة أبرز ضحايا هذا التيّار الجارف. فبعد تحصيلهم العلميّ وإستعدادهم لمعترك الحياة العمليّة، يواجهون مشكلة التوظيف والعمل. إنّ ضآلة فرص العمل وزيادة البطالة تؤدّيان بهم إلى حالات يأس وألم يعبّرون عنها بأشكال شتّى. فينحرف بعضهم إلى منطق ماديّ بحت في سبيل كسب لقمة العيش، أو يتملّك بعضهم الآخر منطق الربح السريع والنجاح المبكّر فيسعون إلى تحقيق هذا أو ذاك بأيّ ثمن ولو على حساب قيمهم ومبادئهم. فيدخلون بذلك عالم المصالح من بابه السيّء الذي يسلبهم حريّتهم وفاعليتهم كروّاد تغيير وبناة مستقبل أفضل.
  5. وما يُقال عن بعض شبيبة لبنان ومعاناتهم الاجتماعيّة يتطابق أيضًا ببعض الشبه على شبيبة النطاق البطريركيّ. فهم ينتظرون لمشاكلهم الحلول القادمة من الخارج، ويسعون إلى الإستهلاك والماديّة، وكأنّهما هدف للحياة. أمّا على الصعيد الدينيّ، فأخطر ما يواجههم هو إزدياد الأصوليّة، وهمّهم الدائم قلق مستقبل العيش في بلدان الشرق.

الفصل الثالث : تحدّيات الشبيبة في عالم اليوم

أوّلاً: في الكنيسة

  1. كما كان للحرب اللبنانيّة الأخيرة آثار واضحة في البنى السياسيّة والاقتصادية والثقافيّة والاجتماعيّة، كان لها كذلك آثار في البنى الروحيّة، فهي “شوّهت المارونيّة، كنيسةً وشعبًا، وكادت تفسدها في الصميم”[13]. ولكنّ البطريركيّة المارونيّة في الفترة الأخيرة استعادت دورها، واستقطبت الشبيبة بمواقفها الصريحة وبخطابها الوطنيّ، الذين لا يزالون يرون فيها “أمًّا ومعلمة” على الرغم من الشوائب والنواقص. ويطالبونها بالمزيد من الشهادة الأصيلة للمعلم الإلهيّ ويسائلونها عن أمانتها له.

ينتظر الشبيبة الموارنة من المسؤولين في كنيستهم أن توفّر لهم فرصة لقاء شخصيّ مع المسيح، وفهمًا أعمق لسرّ الكنيسة. وعندما تغيب هذه الفرصة يختزل هؤلاء الكنيسة في مؤسّساتها التي تبدو عرضة لأنواع شتّى من التشكيك والتشكّي. وتتجسّد هنا إشكاليّة الإنتماء الكنسيّ فتفهم الكنيسة فقط في شكلها المؤسّساتيّ لا في مفهومها اللاهوتيّ السريّ والأسراريّ، كما تطغى صورة الكنيسة-المؤسّسة أحيانًا على صورة الكنيسة- الجماعة المصليّة الحاملة لسرّ المسيح الخلاصيّ.

1. مبادرات وأمنيات

  1. إنّ تثمين الكنيسة مبادرات الشبيبة وتفعيل إنتمائهم إليها وإندفاعهم في سبيلها، له مردود إيجابيّ كبير على حياتها وحيويّتها. فهناك مبادرات رائدة لرعاية الشبيبة في الأبرشيّات، والإصغاء إلى تطلعاتهم، وإقامة حوار جدّيّ وصادق معهم، وتقبّلهم كما هم، واحترام نمط عيشهم، ورعاية المحبة التي تنمو فيهم، وعيش السلطة معهم بالحوار وبالخدمة. ولا يغيب عن بال الرعاة أنّه لا زال ثمّة شبيبة يعيشون في قلق، إذ يُهمَّشون ويغيب دورهم وعملهم الفاعل عن الساحة الكنسيّة ولا يُنشأ لهم البنى الكنسيّة المخصّصة بهم ليشتركوا فيها.

2. الشبيبة تقدِّر الشهادة الأصيلة للحياة المسيحيّة

  1. إنّ سلوك بعض المؤسّسات الكنسيّة المارونيّة من جهة، وسلوك من هم قيّمون عليها من جهة أخرى، يؤثّر على نوعيّة علاقة الشبيبة بالكنيسة. ففيما ينجذب الشبيبة بقوّة إلى أصالة التعليم الذي يردّد صداه معلّمون مفوّهون على المذابح والمنابر والشاشات كلّ يوم، يصدمهم عمق الهوّة بين ما يقال وما يعاش. إنّهم يتألمّون من نزف المعاني، وكأنّ ما ينسب إلى بعض المسؤولين في الشأن العام ينسب إلى بعض المسؤولين الكنسيّين. إنَّ الشبيبة يخشون أن يتلاقوا مع كنيسة شاغلها التقيّد بالمظاهر الخارجيّة على حساب الحياة المسيحيّة. فعلامات العثار موجودة في بعض مؤسّسات الكنيسة. وحال التشكّي، وإن افتقرت في كثير من الأحيان إلى الرحمة والموضوعيّة، تجسّد مشكلة يجب معالجتها بالبحث عن أسبابها ومسبباتها، وبإعادة تجديد الأفراد والبنى وفق ما تقتضيه الأصالة الروحيّة المارونيّة.
  2. يقدّر الشبيبة الموارنة ما تقدّم لهم الأبرشيّات والرهبانيّات المارونيّة، وسواها من رعاية وخدمة وشهادة في مؤسّساتها التربويّة والتنمويّة والإستشفائيّة. لكنهم ينتقدون فيها أحيانًا تغليب الطابع الإداريّ والتجاريّ على الطابع الروحيّ والإنسانيّ. فعلى سبيل المثال توفّر المؤسّسات التربويّة، لطلاّبها أفضل المستويّات في التعليم والتربيّة، لكن تحوّل منطق بعض هذه المؤسّسات إلى منطق تجاريّ وإداريّ فقط، أو إلى ذهنيّة تربويّة معيّنة غير مبالية بالقيّم والمبادىء الثابتة ولا تضع المسيح مثالاً للمربّي ولطالب التربية، يعرّض الشبيبة إلى ردّة فعل سلبيّة على الكنيسة.
  3. على صعيد آخر، يعرف الشبيبة الموارنة في عمق حسّهم الروحيّ أنّه من الواجب أن تعمل المؤسّسات المارونيّة لهدف واحد. لكنّ أخبار الصراع بينها، ومظاهر التجاذب السلبيّ بين بعض القيّمين عليها، وآفات التفرّد المتحكّمة في سلوك بعض المسؤولين فيها مقلقة. إنَّ الشبيبة الموارنة يريدون حدوث تغييرات حاسمة تؤدّي إلى تجديد كنيستهم في العمق لا في الشكل فحسب. فهم لا يريدون “الثورة” إنّما يؤيّدون كلّ “إرادة إصلاح نابعة من حبّ حقيقيّ للكنيسة”[14]، تتيح لها فرصة التجدّد فتتجلّى في شهادتها الأصالة المسيحيّة الروحيّة التي نشأت في كنفها.
  4. يتمنّى الشبيبة الموارنة على رعاة كنيستهم أن يتقبلوهم كما هم، ويعملوا على تنشئتهم. وهم ينتظرون منهم الكثير كشهود لحياة أصيلة بالمسيح. إنّ شهادة الحياة الأصيلة هي خير معلّم وموجّه، ويفرح الشبيبة ويبدعون حين يتلاقون برعاة يتفهّمونهم ويحبّونهم وهم لهم مثال، فيعمّقون إلتزامهم ويتضامنون معهم.

3. توق الشبيبة إلى الوحدة

  1. يختلط الشبيبة الموارنة في لبنان بغيرهم من أبناء الكنائس المسيحيّة الأخرى، فتختلط مفاهيم الإنتماء إلى الكنيسة. إنّهم يعتبرون، في غالبيّتهم، أنّ الإنتماء إلى المسيح هو أهمّ من الإنتماء إلى الطوائف، وأنّ الوَحدةَ المسيحيّة ضروريّة، ويظنون أنّ ما يمنعها هو تضارب مصالح القيّمين على كلّ طائفة. والقلّة تفهم إنتماءها الكنسيّ على حقيقته وتدرك أنّ “الوحدة ممكنة في التنّوع”.

لهذا الواقع إيجابيّاته وسلبيّاته. فالإيجابيات تكمن في أنّ الإنتماء الطائفيّ مرفوض في صفوف الشبيبة وأنّهم متحمّسون للإنتماء إلى إطار مسيحيّ أوسع من حدود كنيستهم. أمّا السلبيات فتتجسّد في أنهم في غالبيتهم لا يرون في كنيستهم إلاّ وجهها الطائفيّ، وهذا أمر خطير إذ إنّ الفرق بين الطائفة والكنيسة كبير؛ “فالطائفة لا تنظر إلاّ إلى مصالح أعضائها، في حين أنّ الكنيسة لا تحقّق دعوتها إلاّ في خدمة المسيح”[15]. ويعود هذا إلى طغيان الممارسات الطائفيّة على الشهادة المسيحيّة.

  1. ثمّة وجه سلبيّ آخر لهذا الواقع ناتج عن تشكيل صورة من صور الوحدة الوهميّة في رؤوس الشبيبة في لبنان، قوامها الإنتماء إلى مسيحيّة ثقافيّة وإجتماعيّة وسياسيّة تختلط فيها المفاهيم وتلتبس المعاني. وهو ما قد يؤدّي إذا لم تتدارك الكنيسة هذا الواقع، إلى فقدان الإنتماء إلى الكنيسة المارونيّة معنى وخصوصيّة، وإلى توقّف هذا الإنتماء عند الحدود الطائفيّة، فتتقوقّع المارونيّة، ويصبح “الموارنة في هذا البلد لاجئين من جملة الأقليّات اللاجئة إليه… في حين أنّنا لم نأتِ إلى هذا الجبل إلاّ نسّاكًا ومرسلين”[16].
  2. إذا كانت مسألة توضيح الهويّة المارونيّة ملحّة بالنسبة إلى الشبيبة المارونيّة، فالأكثر أهميّة بالنسبة إليهم هو توضيحها في بعدها المسكونيّ. فالمبادرات المسكونيّة التي يقدّم عليها الرعاة تلاقي أصداءًا إيجابيّة، فالشبيبة الموارنة يفرحون لرؤية رعاتهم الموارنة يتعاونون مع رعاة الكنائس المسيحيّة الأخرى. ويُثمّنون قيام المجالس الأبرشيّة المشتركة بين الكنائس في مناطق عدّة، ويتفاعلون بإيجابيّة في البنى الكنسيّة المشتركة التي يلتقون فيها، كاللجنة الوطنيّة للشباب، واللجنة الوطنيّة للعلمانيين في الأبرشيات، واللجنة الوطنيّة للحركات، كما يحلمون أيضًا بعمل راعويّ أفعل مع الكنائس غير الكاثوليكيّة. مشاركين بفرح وحماس في أسبوع الصلاة من أجل الوحدة التي يرجون تحقيقها.

ثانيًا: العولمة وأثرها على حياة الشبيبة

  1. على الرغم من إلتزام فئات عدّة منهم في الحياة الروحيّة والرسوليّة، يعيش الشبيبة الموارنة، بشكل عامّ، كغيرهم، في المواقع المعقّدة والمتنوّعة لعالم متبدّل ومتغيّر وواسع لا حدود له، ويواجهون تحديّات الحياة فيه. وهذا يعود إلى العولمة التي يندفعون بقوّة وحماسة إلى الإنخراط فيها، عبر وسائل الإتصال على أنواعها. وتكمن الخطورة على هذا الصعيد، في غياب المناعة والرقابة اللازمتين، وسهولة إنسياقهم وراء تيّارات فكريّة وسياسيّة وإجتماعيّة، تؤسّس “لحضارة الموت” ولثقافتها، من خلال الحضّ على إعتماد العنف وسيلة للتعبير والتغيّير والإباحيّة كسبيل لرفض العفّة قبل الزواج وسلوك العمى الروحيّ بدلاً من الإيمان، في سعي للتعاطيّ مع كلّ ما هو ملموس بدلاً من الإنتقال ممّا يرى إلى ما لا يرى.
  2. أمّا إيجابيّة الإنخراط في العولمة فتكمن في “إنفتاحهم على مجتمعات وثقافات أخرى، وتفاعلهم مع كلّ ما هو آنيّ وجديد، وإيصال البشارة في شكل أشمل، وإلى أوسع شريحة ممكنة من الشبيبة، من خلال وسائل الإتصال الحديثة، ولاسيّما منها المحطّات الفضائيّة والإنترنت[17].

1. الشبيبة والسياسة

  1. للشبيبة دور هام في المجال السياسيّ لأنّهم يوفِّرون التواصل مع تراث كلّ بلد ويرفدون الحاضر والمستقبل بطاقات جديدة خلاّقة. غير أنّ العمل السياسيّ يتطلب إستعدادًا وكفاءة ومؤهلات، لأنّه خدمة للمجتمع والبلد في آن. وتختلف أوضاع الشبيبة وفقًا للبلدان التي يعيشون فيها، وما توفّره من حريّات لممارسة السياسة.
  2. ولقد مرّت الشبيبة المارونيّة في لبنان، أقله في الثلاثين سنة الماضية، بثلاث مراحل:
  • مرحلة ما قبل الحرب، كانت الشبيبة فيها مسيّسة وفقًا لإنتمائها الطائفيّ والحزبيّ. وكانت الجامعات بنوعٍ خاصّ مجالاً مميزًا لمناقشة الآراء وإنشاء التكتّلات وإعداد النخب التي ستندمج في الحياة السياسيّة العامّة.
  • مرحلة الحرب (1975 ـ 1990) فرزت الحرب الشبيبة وأعادتها إلى طوائفها وإلى الإقتتال. فصارت الشبيبة وقوّدًا للحرب، دون أن يكون لها قرار في إشعالها أو إيقافها. غير أنّ مآسي الحرب وسلبيّاتها، دفعت بالكثيرين إلى التفكير والبحث عن الحقيقة والإنكفاء عن العمل السياسيّ، لأنّهم لم يروا في ممارسة معظم السياسيين ما يصبون إليه من نزاهة وترفّع وروح وطنيّة وإصلاحيّة.
  • مرحلة ما بعد الحرب كانت الأقسى على الشبيبة، لأنّها سلبتهم كما سلبت قسمًا كبيرًا من المواطنين الحريّة وممارسة حقوقهم السياسيّة واحترام مؤسّساتهم الدستوريّة. فآلمهم ما وصلت إليه الحال، خاصّة عندما نصّبت عليهم قيادات سياسيّة، ونفيت أخرى أو اعتقلت، وتشرذم آخرون كما أصيبوا في الصميم عندما صُنّفوا بالعملاء والخونة إذا دافعوا عن وطنهم وحريّتهم، بينما يُكرّم الآخرون لأنّهم تكيّفوا مع الوضع المهيمن.
  1. في هذا الجو السياسيّ الضاغط، ظهرت مبادرات الكنيسة على الصعيد الوطنيّ كمتنفّس لهذا الإحتقان، فرأت الشبيبة فيها تعبيرًا عن توقها وأمانيها. ومن هذه المبادرات، السينودس من أجل لبنان الذي دعا إلى تنقية الذاكرة والمصالحة الوطنيّة والحوار والحفاظ على العيش المشترك؛ وكذلك مواقف السيّد البطريرك ومجمع المطارنة الموارنة التي كان لها صداها الوطنيّ وأثرها الفعّال في نفوس الشبيبة. وهذا دليل على أنّ الشبيبة هم روّاد سلام وعدالة وطلاّب حريّة وديمقراطيّة، ومتشبّثون باستقلال وطنهم.

ولقد برز دورهم خاصّة عندما شاركوا بكثافة في تظاهرات الإستقلال وارتضوا التضحية براحتهم وجامعاتهم معتصمين من أجل الحريّة والسيادة، فأسهموا فعلاً في رفع الهيمنة الأجنبيّة عن بلادهم. كما تميّزوا بحماس في ممارسة حقهم في الإنتخابات التي جرت فيما بعد. غير أنّهم مدعوّون باستمرار إلى وعي دورهم الوطنيّ حتى لا يتقوقعوا في إطار الطوائف والمناطق الضيق، وذلك حفاظًا على رسالة لبنان.

2. الأزمة الاقتصادية وأثرها على حياة الشبيبة

  1. إنّ الواقع السياسيّ الأليم يرهق البنى الاقتصادية والاجتماعيّة والثقافيّة، ويُعوِّق محاولات التنمية الشاملة التي يجب أن تكّرس لخدمة المجتمع وشرائحه بكلّ فئاته والتي يجب أن تفيد منها الشبيبة. إنّ الأزمة الاقتصادية الخانقة تتخذ، يومًا بعد يوم، ملامح التخلّف. ففي لبنان، حيث يُساء توزيع الثروات، وتطبَّق القوانين استنسابًا، تتعطّل مؤسّسات الرقابة، وتنعدم الثقة بالإقتصاد الوطنيّ، وتتجمّد المشاريع. فيتردّد الشبيبة في الإقدام على الزواج وتأسيس العائلة. ولا يخفى ما لذلك من نتائج على المستوى الخُلُقيّ والديموغرافيّ. أمّا المتزوجون من بينهم فيواجهون صعوبة في تأمين المستوى المعيشيّ اللائق لهم ولأفراد عائلاتهم، وهي صعوبة تُعرّضهم لمخاطر التفكّك الأسريّ والإنحراف الأخلاقيّ.

وسط هذا الواقع الأليم تأتي مبادرات المؤسّسات الاجتماعيّة والأبرشيّات والرهبانيّات المارونيّة، بالنّسبة للشبيبة سواء على المستوى السكنيّ، أو المستوى التنمويّ والاجتماعيّ، علامة رجاء. ومع أنهم يدركون أنَّ كنيستهم لا يمكنها أن تقوم مقام الدولة، فإنهم يُثمّنون رعايتها لهم ولعائلاتهم ماديًّا ومعنويًّا.

3. الشبيبة والهويّة الثقافيّة

  1. يعاني معظم شبيبتنا اليوم من فوضى ثقافيّة واضحة. إنّهم في شبه ضياع، يبحثون عن هويّة ثقافيّة يتمايزون بها. وهم عرضة لموجات العصر، يتبعونها ويتأثرون بها من دون تمييز، في مجال الفن والموضة وطريقة اللباس وطريقة التصرّف والكلام.

كما يعايش الشبيبة الموارنة في لبنان “ثلاثة مجالات ثقافيّة ـ لغويّة هي: العربيّة والفرنسيّة والإنكليزيّة”[18]. وإذا كانت هذه المجالات تغني ثقافة بعضهم فإنّها قد تؤدّي ببعضهم الآخر إلى الإبتعاد عن ثقافته اللبنانيّة والتنكّر لها، “في غياب ثقافة لبنانيّة موُحِّدة”[19]، ممّا يشكّل الخطوة الأولى في رحلة التغرّب والهجرة.

من جهة أخرى، إذا كانت “الثقافة تؤسّس للسياسة وللإقتصاد”، فإنّ الوضع السياسيّ والأزمة الاقتصادية يؤثّران سلبًا في ثقافة الشبيبة. ولعلّ أدهى ما يواجه الشباب، على هذا الصعيد، هو الخلط بين العلم والثقافة، بحيث يكثر عدد المتعلمين، ويقلّ عدد المثقفين. فمعظمهم يرتادون الجامعات ويكتسبون تعليمًا عاليًا، لكنّ ثقافتهم لا تتناسب مع عملهم، فيقعون في فراغ ثقافيّ يسعون إلى سدّه عن طريق الإعلام الذي يقدّم ثقافة ضحلة وسطحيّة على وجه العموم.

4. الشابات المارونيّات

  1. تعيش الشابّات المارونيّات اليوم في وسط المجتمع الإنسانيّ، وينافسن الشبّان على المستويات كلّها في عالم المهن، والحياة الاجتماعيّة، والمنتديات الثقافيّة، والعمل السياسيّ. فبعد أن كان العمل والاقتصاد والثقافة والسياسة حكرًا على الشبّان، احتلّت الشابّات، منذ أكثر من عقدين، موقعًا متمايّزًا في الحياة العمليّة والاقتصادية، وما زِلنَ يحتللنه. ولهذا التحوّل الإجتماعيّ وقعه: فإقبالهنَّ على العلم، وخوضهنَّ معترك الحياة، وإحتلالهنَّ المواقع والمناصب، رسّخهنَّ في الحداثة ومنحهنَّ فرص نموّ متوازية مع الشبّان. وخوضهنَّ معترك الحياة العمليّة زاد من إسهامهنَّ في توفير الحياة الكريمة للعائلة، رغم ما إستتبع ذلك من تغيير في البنى ونمط العلاقات العائليّة. ويبقى التحدّي الأكبر الذي تواجهه بعض شاباتنا هو موجات التحرّر والتفلّت والمغريات الماديّة التي تجتاح مجتمعنا.

5. الشبيبة والعيش المشترك وهويّة لبنان وعروبته

  1. ينقسم الشبيبة الموارنة، كغيرهم من الشبيبة المسيحيّين، إلى تيّارين واسعين في شأن العلاقة مع المسلمين. فالتيّار الأوّل، لا يرى جدوى من الحوار مع المسلمين بسبب آثار الحرب الأخيرة. وقد تكون ظواهر” التجاهل، وعمليّات التعميم من هذه الجهة أو تلك، وعدم إنماء الثقة المتبادلة بين الشبيبة وتفعيلها، وعدم الإعتراف بالآخر وحقّه في الاختلاف”[20]، وراء الحذر المتبادل بين الشبيبة اللبنانيين. ويبدو لهذا التيّار أنّ الصعوبات تواجه أيّ حوار دينيّ عقائديّ، وحتى سياسيّ، بالنظر إلى سلسلة من الإشكاليّات الجوهريّة في النظرة إلى أمور عدّة.
  2. أمّا التيّار الثاني فيرى أنّ فرادة لبنان تكمن في تنوّعه، وهو ما جعل منه “أكثر من بلد، إنّه رسالة”. ويدعو هذا التيّار إلى تجاوز جروح الماضي، وإلى الإندماج في المجتمع اللبنانيّ المتعدّد. ويعتمد هذا التيّار على الخطاب الوطنيّ للبطريركيّة المارونيّة ولمجلس أساقفتها الذي يمثّل علامة فارقة على هذا الصعيد. إنّه بنبذه التعصّب والتطرّف، وبدعوته إلى العيش المشترك، وبمناداته بثقافة السلام والتسامح، يدفع الشبيبة الموارنة الملتزمين إلى البحث بجدّية عن مساحات حوار وتفاعل مع الشبيبة المسلمين في لبنان. وفي هذا الإطار تعدّدت المبادرات[21] ولا تزال، فقامت مؤسّسات كنسيّة عدّة بإستنهاض همّ الشبيبة المسيحيّين عمومًا، والموارنة خصوصًا، إلى الحوار مع المسلمين. وتدلّ خبرة الذين عملوا على هذا المستوى على “أنّ في لبنان شبيبة، ومن الفئات كلّها، منفتحون على قيم العيش الواحد في مجتمع متعدد، وأنّهم يؤمنون أنّ حوار الحضارات هو حوار الحياة، وأنّهم يدعون إلى قيام مجتمع مدنيّ يتيح الفرصة للجميع لعيش القيم الدينيّة والإنسانيّة على السواء”[22].
    1. غير أنّ هذه المبادرات تبقى محدودة، وتقتصر في بعض الأحيان على النخب الثقافيّة التي لا تستطيع أن تلزم الشبيبة الموارنة كلّهم بما تعتقد وما تؤمن به، وهو ما قد يعرّض مسيرة الانفتاح هذه إلى الإنتكاس، وما قد يوقع الشبيبة الموارنة مجدّدًا في أزمة هويّة وطنيّة. ولا يبدو أنّهم على استعداد دائمًا لإقتبال هذه المهمّة ولعيشها كرسالة؛ ذلك إنّ هذه المهمّة ـ الرسالة إستثنائيّة، تقتضي إعدادًا إستثنائيًا لفهمها ولعيشها. فالأسئلة المتعلّقة بهويّة لبنان وبإنتماء الشبيبة الموارنة إليه تجب معالجتها برويّة ورؤية. والأسئلة التي تفتش عن أجوبة هي: إلى أيّ لبنان ينتمون الشبيبة الموارنة اليوم؟ وهل لبنان الذي ينتمون إليه هو نفسه لبنان الذي تريد كنيستهم أن ينتموا إليه؟ قد يبدو للوهلة الأولى أنَّ الجواب عن هذه الأسئلة بديهيّ، لكن ذلك ليس أكيدًا.
    2. ما يزيد مسألة إنتماء الشبيبة الموارنة إلى لبنان تعقيدًا مفهوم عروبة لبنان ودوره في العالم العربيّ. فَهُمْ من جهة يجهلون أنَّ البطريركيّة المارونيّة “أصبحت مستودعًا حيًّا لخبرة تاريخيّة عربيّة فريدة من نوعها”[23]، ولا يعرفون أهميّة إسهامات أجدادهم وآبائهم في التاريخ العربيّ وتراثه، ومن جهة أخرى يرفضون في غالبيتهم العروبة كمرادف للإسلام، وما يستتبع ذلك من أثر في مفهوم لبنان التعدديّ. وإذا استهوتهم مقولة أنّ “ثقافة لبنان هي الوجدان الناقد في العالم العربيّ”[24] وارتضوا بهذا الدور لوطنهم فإنّهم يتساءلون اليوم إذا كانت إمكانات النقد ممكنة ومتاحة، في الجوّ الوطنيّ والعربيّ المعقّد.

الفصل الرابع : الكنيسة والشبيبة على دروب الحياة

  1. إنَّ صورة الواقع التي عرض لها النصّ تبدو عكرة. ولكن لا بدّ من الإصلاح. هذه رغبة الكنيسة: رعاةً وشبيبة. معًا يواجهون هذا الواقع ومعًا يعملون للتغيير. الشبيبة دون الرعاة أفراد مشتّتون بلا مرجعيّة، وكذلك إن لم يفعِّل الرعاة الشبيبة، الكنيسة تغدو “على طريق الموت”. الرعاة معلِّمو الشبيبة وخدّامهم، وهؤلاء أبناء وبُناةٌ للكنيسة؛ وتجاوبهم يضاعف الحيويّة والنضارة في شعب الله وجماعة الملكوت.

أوّلاً: تنشئة الشبيبة الروحيّة والإنسانيّة ومرافقتها

1. الكنيسة معلّمة الشبيبة وخادمتهم

  1. لا بدّ للكنيسة المحتاجة إلى الشبيبة وحيويّتهم، والمقتنعة بنبويّة رسالتهم، أن ترافقهم على دروب الحياة وتنشّئهم لتساعدهم على أن يكونوا شهودًا أصيلين للمسيح. ولن تتمكّن الكنيسة من القيام برسالتها هذه ما لم يعش الرعاة المنشّئون حياة شهادةٍ أمامهم. التعلّم بالمثل لا بالكلام فقط، هذه قاعدةٌ أساسيّة للتربيّة. التنشئة الروحيّة العميقة والإنسانيّة الشاملة تتوجّه إلى الشبيبة بكلّيتهم، وتعتمد على حريّة الإنسان وتسهم في إنضاجها، وتمرّس على حسن التمييز وتبني الفكر النقديّ، وتساعدهم على صقل إنسانيّتهم وأداء دورهم النبويّ في عالم اليوم.
    1. 2. خطوات عمليّة لبلوغ هذه الأهداف
  • إعداد كهنةٍ ومرشدين قادرين على فهم الشبيبة وتنشئتهم في المحبّة والحقيقة، ويكونون بمثابة الأب الروحيّ الذي يرافقهم في الرعيّة والمدرسة والجامعة والحركات الرسوليّة.
  • السهر على روحيّة التربيّة في مدارسنا وجامعاتنا، كي تقوم بدورها في بناء إنسان يتميّز، إلى جانب العلم والمعرفة، بالثقافة والإيمان والأخلاق وإحترام الآخر وقبوله والإلتزام بالكنيسة والوطن.
  • تطوير برامج إعداد الشبيبة للزواج في الأبرشيّات ومرافقتهم، مع أشخاصٍ مسؤولين، منشّئين لهذه الغاية.
  • متابعة إنشاء معاهد التثقيف الدينيّ والتنشئة الإيمانيّة في الأبرشيّات المارونيّة والعمل على اعتماد برامج تتوجّه إلى الشبيبة في هواجسهم وتطلّعاتهم.
  • متابعة موضوع التحديث الليتورجيّ مع مراعاة ظروف الحياة، وتخصيص صلوات للشبيبة تنبع من إختباراتهم وتطلّعاتهم.
  • توجيه رسالة سنويّة من البطريرك المارونيّ إلى الشبيبة، وتخاطبهم بلغتهم، وتوحّد الرؤية بينهم، وفي الوقت عينه تذكّرهم بقدراتهم وطاقاتهم.
  • إصدار كتاب مختصر وموحّد عن تاريخ الكنيسة المارونيّة، يعرض مقوّمات الهويّة المارونيّة دينيًّا وزمنيًّا، وتوزيعه على الشبيبة الموارنة.
  • الإهتمام الجديّ بالإعلام المسيحيّ ليتوافق مع لغة الشبيبة وحاجاتها وتطلّعاتها.

3. الشبيبة وبناء حضارة المشاركة

أ. في سبيل علاقة أعمق بين الشبيبة والرعاة

  1. إنّ الرعاة في لبنان مدعوّون إلى متابعة العمل مع الشبيبة في الميادين المختلفة، تأكيدًا لقناعتهم بوجوب إعطاء الشبيبة أهميّة أكبر وحبًّا أعمق وتفهّمًا أوسع ومسؤوليّةً ألزم. وخبرة الأيّام العالميّة للشبيبة تثبت أنّ لقاء الشبيبة برعاتهم يسقط الحواجز بينهم، ويعطيهم فرصة التحاور، فيتجدّد إيمانهم وتتجدّد الكنيسة بهم. ومن هنا الإقتراحات التالية:
  • إنشاء لجنة بطريركيّة للعلمانيّين وللشبيبة، تتفرّع منها لجانٌ أبرشيّة.
  • إشراك الشبيبة في المجالس الرعويّة بطريقة فاعلة في التفكير والتقرير والتنفيذ.
  • متابعة تنظيم اللقاءات الأبرشيّة السنويّة وللشبيبة برعاية الأساقفة وحضورهم من أجل التعـارف المثمر وإنماء الثقة بين الراعي وأبناء الرعيّة.
  • خلق مراكز إصغاء وإرشاد للشبيبة في الأبرشيّات كما في المدارس.

ب. في سبيل التضامن الإجتماعيّ

  1. إذا كان الفقر يجتاح البلد، والعوز يصيب معظم شرائح المجتمع، ما يؤدّي إلى هجرة الشبيبة الموارنة، أفلا يجب تفعيل التضامن والتبشير به، عوضًا من التباكي على العمل المشترك والتبشير بالفرديّة؟ وإذا كانت دقّة الوضع الإقتصاديّ تؤدّي بالشبيبة إلى اليأس، أفلا يجب إطلاق المبادرات الإستثنائيّة لإنعاش الرجاء والتضامن في المحبّة؟ من هنا الإقتراحات التالية:
  • إقناع الشبيبة الموارنة على البقاء في وطنهم عن طريق المشاريع الإنمائيّة الصغيرة ذات رأس المال المحدود، التي ترسّخهم في أرضهم، وتقيهم الوقوع في تجارب اليأس.
  • إستثمار الأوقاف الكنسيّة بطريقةٍ علميّة، بما يسمح للشبيبة الموارنة الإسهام فيها والإفادة منها في هذه الظروف الصعبة.
  • إقامة مشاريع إنمائيّة وإجتماعيّة في المناطق النائية، لإستقطاب الشبيبة الموارنة وتثبيتهم في أرضهم.
  • حضّ الشبيبة على العمل التطوعيّ داخل المنظمات والجمعيّات والحركات الرسوليّة… بغية الإتّكال على ذاتهم والتضامن مع الآخر في سبيل بناء جيل ملتزم ومسؤول.

ج. تعميق العلاقة بين الشبيبة الموارنة المقيمين والمنتشرين

  1. يطلّ الشبيبة على الألفيّة الثالثة، موزّعين على لبنان وبعض الأقطار العربيّة وبلاد الانتشار. فعدد الموارنة الذين يعيشون خارج لبنان أضعاف الذين يعيشون فيه. رافقت الكنيسة المارونيّة أبناءها على دروب العالم منذ القرن التاسع عشر، ووعت أهميّة حضورها إلى جانبهم عبر تأسيس الرسالات في دنيا الانتشار. وتعزيزًا لتوطيد العلاقة بين المقيمين والمنتشرين نقترح الأفكار التالية:
  • تنظيم يوم مارونيّ عالميّ للشبيبة، يدعو إليه البطريرك المارونيّ، مرّةً كلّ ثلاث سنوات، ويشارك فيه الشبيبة الموارنة من لبنان، والنطاق البطريركيّ وبلدان الانتشار.
  • إنشاء المجمّع المارونيّ العالميّ في بكركي، على أن يكون فيه لكلّ بلدٍ هاجر إليه الموارنة أمانة سرّ خاصّة تتابع أوضاعهم وتفعّل تعاون الشبيبة الموارنة المنتشرين مع الشبيبة الموارنة المقيمين.
  • إنشاء المؤسّسة المارونيّة للحجّ، لتشجيع الموارنة المنتشرين وشبيبتهم على الحجّ إلى لبنان وبلدان النشأة المارونيّة في النطاق البطريركيّ، وتحضيرهم لذلك.
  • إرسال شبيبة موارنة من لبنان إلى بلدان الانتشار، يشرحون جذور المارونيّة ويتواصلون مع الشبيبة المنتشرين.

د. في سبيل إنفتاح الشبيبة الموارنة على العمل المسكونيّ

  1. يحتلّ العمل المسكونيّ منذ أعوامٍ بعدًا مهمًّا في حياة المسيحيّين في لبنان والمنطقة العربيّة. ويتحمّس له الشبيبة بنوعٍ خاصّ، غير أنّهم يجهلون مفاهيمه وقواعده. من هنا الإقتراحات التالية:
  • تنشئة الشبيبة الموارنة على المفاهيم المسكونيّة، مدعومة من رعاةٍ يتحلّون بالذهنيّة المنفتحة والقلب الكبير.
  • التعرّف على الآخر بتراثه ومعتقده وفكره من خلال لقاءاتٍ تنظّمها الرعايا والحركات الرسوليّة.
  • تشجيع الشبيبة على القيام بمبادرات لقاءٍ وتعارف، خاصّةً في الرعايا المختلطة، وتفعيلها لتصبح حوار حياة.
  • تأسيس اللقاء المسكونيّ للشبيبة، وهو لقاء يشارك فيه شبيبة من العائلات الروحيّة المسيحيّة كلّها في لبنان.

4. الشبيبة وبناء حضارة السلام والحقّ

  1. إذا كانت الكنيسة في المطلق معلّمة وخادمة فعليها، أن تنشّئ الشبيبة على سلامٍ يقوم على الحقيقة والحريّة والعدالة والغفران، كما يقول الإرشاد الرسوليّ رجاء جديد للبنان:

وتساعد الكنيسة في بناء حضارة السلام والحقّ من خلال:

  • التنشئة على أهميّة السلام والحقّ في المدارس والجامعات.
  • دعم المشاريع والجمعيّات التي تسهم في التربية على أهميّة السلام والحقّ.
  • الإستفادة من وسائل الإعلام لشرح كيفيّة عيش السلام في الحياة اليوميّة.
  • تقديم جائزة سنويّة لدعم الجماعة الكنسيّة التي تعمل أكثر لإحلال السلام والتبشير به.

أ. في تنقية الذاكرة وصفاء القلوب

  1. لن نبلغ السلام والحقّ ما لم تتنقَّ الذاكرة وتصفو القلوب. وتنقية الذاكرة لا تعني النسيان أو التناسيّ، بل إعادة قراءة التاريخ بموضوعيّة لإستخلاص العبر منه، وتصفية القلب من الأحقاد والرواسب، إنطلاقًا من الإعتراف بالآخر وبحقّه بالوجود، والتعرّف إليه والقبول به، عبر حوارٍ دون أفكارٍ مسبقة. يرافق هذه المسيرة تعالٍ فوق الجراح من أجل المصلحة العامّة، وغفرانٌ جذريّ يغسل القلوب ويشهد لموقفٍ مسيحيّ حقيقيّ. لبلوغ هذه الأهداف، تبقى العائلة والمدرسة والجامعة فسحةً مثاليّة، تدعمها راعويّة خاصّة بجيل الحرب، تحتضنه وتفهمه وتجعله يعيد النظر في الماضي من أجل رؤية جديدة وإنطلاقة جديدة.

وتساعد الكنيسة في تنقية الذاكرة وصفاء الضمير من خلال:

  • دعم الأبحاث التي تمهّد الوصول إلى تنقية الذاكرة وصفاء الضمير.
  • تشجيع قيام حلقات حوار على صعيد الرعايا والجماعات الكنسيّة تهدف إلى ذلك.

ب. في إلتزام الشبيبة بالحوار المسيحيّ – الإسلاميّ

  1. إنّ الذاكرة النقيّة والقلب الصافي يقودان شيئًا فشيئًا إلى نبذ كلّ تعصّب وتطرّف، وإلى قناعة بالعيش الواحد، وجهوزيّةٍ لحوارٍ بنّاءٍ بين مختلف أبناء الوطن. وتساعد الكنيسة على ذلك من خلال:
  • تعريف الشبيبة المسيحيّين بإيمان الآخرين وفكرهم وثقافتهم وحضارتهم.
  • تنشئتهم على الإيمان بأنّ لبنان أكثر من وطن، والقناعة بضرورة العيش الواحد لا التعايش وحسب.
  • دعم كلّ خطوةٍ في هذا المجال، كالتبادل الذي يتمّ بين بعض المدارس، والخطوات التي تقوم بها بعض الحركات الرسوليّة، والمخيّمات التي تشجّع حوار الحياة كمخيّم “شباب لبنان الواحد” ومخيّم اليونيسيف تحت شعار “التربية على السلام”. فلا تغيب الكنيسة حيث تنشط المبادرات، بل تكون الحاضنة لها وتحضّ الشبيبة على الإنخراط فيها وتسعى إلى مبادرات أشمل مستفيدةً من هذه الخبرات حتى لا يبقى الحوار نظريًّا بل يصبح حقًا حوار حياة.

ج. في انخراط الشبيبة في العمل الوطنيّ والسياسيّ

  1. إزاء التحدّيات السياسيّة كلّها التي تواجه شبيبتنا اليوم، يبقى التحدّي الأكبر، تربية الشبيبة على مفهوم السياسة الحقيقيّ، على أنّها “قيادة وخدمة من أجل الخير العام”، وحضّهم على ممارستها بصدق ومناقبيّة في عالم طغى عليه التسلّط والفساد، وذلك بعيدًا عن السياسات الضيّقة.

د. في انخراط الشبيبة في محيطهم

  1. أمام الصراع الذي يعيشه شبيبتنا في الانتشار بين حضارتين وثقافتين وذهنيتين وإنتماءين، تبقى حياتهم الروحيّة خشبة الخلاص لتحديد هويّتهم وذلك بشهادة الكثيرين منهم.

وهنا تظهر أهمّيّة دور الكنيسة وحضورها إلى جانب هؤلاء، إذ تساعدهم على الحفاظ على روحانيّتهم، موثقة الإرتباط بجذورهم، فينخرطون في مجتمعهم الجديد من دون أن يذوبوا فيه، وذلك عبر رعيّة ناشطة، تجتذبهم وتخلق لهم مجالات مشاركة في حياتها.

5. الشبيبة والبنيان الثقافيّ الدينيّ

  1. على الرغم من أنّ شبيبتنا يتمتّعون بقسطٍ وافر من العلم، فإنّهم غالبًا ما يفتقرون إلى الثقافة الدينيّة العميقة والتنشئة الإيمانيّة. وهنا يأتي دور الكنيسة:
  • تعتني بأماكن الحجّ وتحافظ على طابعها وتصون قدسيّتها وتخلق فيها أجواء صلاة وتقوى، وتكون إلى جانب ذلك مجالاٍ للزّوار للتعرّف إلى القدّيس الذي عاش فيها وإلى روحانيّته. ويكون ذلك مدخلاً إلى معرفةٍ أعمق بالكنيسة وهويّتها وتراثها وعيشًا لروحانيتها.
  • تشجّع وتعمّم المبادرات التي تسعى إلى إحياء التراث الكنسيّ وزيارة الأماكن التاريخيّة وتطبعها بطابع اللقاء الإنسانيّ. فلا تعود رحلةً سياحيّةً وحسب، إنّما مدرسةً يلتقون فيها بجذورهم الإيمانيّة.
  • تدفع الشبيبة المارونيّة إلى التعرّف بالعمق إلى لبنان بمناطقه وشعبه وعاداته.
  • تسعى في المدارس والرعايا ووسائل الإعلام إلى أن يكتسب شبيبتنا ثقافًة مسيحيًّة عربيًّة تصالحها مع محيطها، وتوقظ فيها وعيًا على إنتمائه إلى هذا المحيط ودورها فيه.

ثانيًا: الشبيبة، أبناء وبنات، شهودٌ وبناة الكنيسة

  1. أمام واقع حياة الإيمان وحياة المجتمع، أبدى الشبيبة ملاحظاتهم وإنتقاداتهم، وأيضًا طالبوا وسألوا. وهذا من حقّهم. والكنيسة تنظر إليهم كالمسيح برجاء، وتنتظر منهم متابعة العمل والصلاة ليكونوا حقًّا أبناء وبنات لها، شهودًا وبناةً. هي بحاجةٍ ماسّةٍ إلى طاقاتهم في خدمة المسيح، وإلى ديناميّتهم وإخلاصهم ورغبتهم في النموّ ونضارة إيمانهم، حتى يوظّفوا مواهبهم الفتيّة بسخاء في خدمتها ويتّخذوا محلّهم فيها.
  2. والدعوة موجّهة إلى الشبيبة لتجاوز مفهوم الكنيسة في بعدها المؤسّساتيّ، والولوج إلى مفهوم الكنيسة – السرّ والكنيسة – الشركة، فينمّون حسّ الإنتماء إليها ويتجاوبون مع مبادراتها ويتفاعلون مع تنشئتها. يتخلّون عن موقف المتفرّج أو اللامبالي أو المستقيل أو الرافض أو المكتفي بالنقد، دون أن يكفّوا عن المطالبة والمتابعة شرط المشاركة والفعاليّة. فيتحوّل إنتماؤهم إلى الكنيسة من شكلي وإداري بحت إلى بحثٍ في العمق عن شراكةٍ مع الله والإخوة. ويلتزمون بفعاليّة في الرعايا والجمعيّات والحركات والجماعات الكنسيّة ويكونون أغصانًا حيّةً في الكنيسة. فيتحوّل هذا الإلتزام أيضًا إلى التزامٍ إجتماعيّ وسياسيّ ونقابيّ لأنّ معضلة الظلم في محيطهم وفي العالم رهنٌ بتغييرٍ يقوم به ذوو الإرادات الصالحة. لأنّهم بناة حضارة المحبّة ويتحلّون بروح التضامن والمشاركة، يشاركون بسخاءٍ في مشاريع أخوّةٍ وتعاضد، ويعيدون إلى الربّ أقلّه شيئًا من الوزنات التي أفاضها عليهم.

ومَن مثل الشبيبة يستطيع أن يؤثّر في أترابه؟ فهم شهود البشارة في عالم اليوم، والكنيسة هي خاصتهم.

خاتمة

  1. الرعاة خدام الكلمة والرسالة ينظرون بأمل إلى الشبيبة، وينتظرون منهم انتماءً للكنيسة نابعًا من عمق حريّتهم، ومنقادًا للروح، يريدونهم راسخين بإيمانهم وتراثهم وكنيستهم من أجل حضورٍ وتواصلٍ. لا يكتفون بالحضور، بل يتجاوزونه ليجعلوا منه جسرًا يؤدّي بهم إلى التفاعل والتفاهم والمحبّة المتبادلة، فيكونون الخميرة في عجين هذا العالم.

إذا كان الشبيبة من بناة الكنيسة فهم أيضًا من أنبيائها:

أصحاب رؤية، يرون الحقيقة في عالم الباطل،

أصحاب مواقف، ينطقون بالحقّ في عالمٍ يسكت عنه،

أصحاب جرأةٍ يدافعون عن كلّ مظلوم وفقير في عالمٍ يهضم حقوق الضعفاء،

أصحاب مشاركة في عالمٍ إستهلاكيّ،

يختارون الجوهر في عالمٍ يساوم،

يعيشون الرجاء في عالمٍ يستسلم لليأس،

أناس صلاة يخلقون من حولهم واحات قداسة وتوبة،

الشبيبة الموارنة، المقيمون كما المنتشرون، هم أيضًا رسل المارونيّة اليوم في العالم الواسع، يحملون مشعل التراث المارونيّ الغنيّ ويرفعونه عاليًا.

 

توصيات النصّ وآليات العمل 

الموضوع

التوصية

الآليّة

1– تنشئة الشبيبة الروحيّة والإنسانيّة ومرافقتهم.

1-أ: يوصي المجمع بإعداد مرشدين قادرين على مواكبة الشبيبة وتنشئتهم في المحبّة والحقيقة، فيكونون لكلّ منهم بمثابة الأب الروحيّ الذي يرافقهم في الرعيّة والمدرسة والجامعة والحركات الرسوليّة.

1-ب: إقامة مناسبات إحتفاليّة خاصّة بالشبيبة يتلون فيها صلوات تنبع من اختباراتهم وتطلّعاتهم. 

1-أ: إختيار بعض الكهنة والرهبان والراهبات والعلمانيّين من ذويّ الأهليّة للتخصّص في راعويّة الشبيبة، مع واجب تعرّف الإكليريكيّين إلى حاجات الشبيبة وعالمهم.

 

1-ب: الاستعانة باللجنة الليتورجيّة ولجنة الشبيبة.

2- الشبيبة وبناء حضارة المشاركة.

 

2-أ: تعميق العلاقة بين الشبيبة والرعاة.

 

 

 

2-ب: تشجيع الشبيبة الموارنة على البقاء في وطنهم.

 

 

 

2-ج: تشجيع عودة الشبيبة المنتشرين ومساعدتهم على الانخراط في العمل والمجتمع عبر مساهمة الكنيسة المحليّة.

2-د: تشجيع روح المشاركة والتضامن لدى الشبيبة.

2-أ: تنظيم اللقاءات الأبرشيّة السنويّة للشبيبة برعاية الأساقفة وحضورهم من اجل التعـارف المثمر وإنماء الثقة بين الراعي وأبناء الرعيّة.

2-ب: التعاون مع المؤسّسة الاجتماعيّة المارونيّة ومؤسّسات مماثلة تشجّع المشاريع والمبادرات الفرديّة من أجل تمويل مشاريع إنمائيّة صغيرة برأسمال محدود غايتها ترسيخ الشبيبة في أرضهم، وتجنيبهم الوقوع في تجارب اليأس.

2-ج: حملة إعلاميّة لحضّ الشبيبة على العمل التطوعيّ داخل المنظمات والجمعيّات والحركات الرسوليّة.

3– في سبيل تعميق العلاقة بين الشبيبة المارونيّة المقيمين والمنتشرين.

 

3-أ: تنظيم الأيّام المارونيّة العالميّة للشبيبة التي يدعو كلّ خمس سنوات ويشارك فيها الشبيبة الموارنة من لبنان ومن النطاق البطريركيّ ومن بلدان الانتشار.

3-ب: تشجيع الموارنة المنتشرين وشبيبتهم على الحجّ إلى لبنان وإلى النشأة المارونيّة في النطاق البطريركيّ، وتحضيرهم لذلك (راجع النصّين 4 و8).

3: يوجه البطريرك المارونيّ الى الشبيبة رسالة تخاطبهم بلغتهم، وتوحّد الرؤية بينهم، وفي الوقت عينه تذكرهم بقدراتهم وطاقاتهم ومسؤوليّاتهم.

3-ب: إنشاء المؤسّسة المارونيّة للحجّ.

 

4– في سبيل إلتزام الشبيبة المارونيّة بالعمل المسكونيّ وبالحوار مع الأديان.

 

4- يوصي المجمع بتشجيع إلتزام الشبيبة المارونيّة بالمبادرات المسكونيّة والحواريّة مع الأديان الأخرى.

4-أ: للمبادرات المسكونيّة (راجع النصّ 2).

4-ب: تقديّم الدعم لكلّ خطوةٍ في هذا المجال، كالتبادل الذي يتمّ بين بعض المدارس، والخطوات التي تقوم بها بعض الحركات الرسوليّة، والمخيّمات التي تشجّع حوار الحياة، كمخيّم “شباب لبنان الواحد”، ومخيّم اليونيسيف تحت شعار “التربية على السلام”، “وانتظارات الشباب”، ومخيمات “فرح العطاء”. (راجع النصّ 3).

 

 


1. المجمع الإقليميّ سنة 1736، مطبعة الأرز، جونيه سنة 1900.

2. حجّة تأسيس مدرسة عين ورقة، أرشيف بكركي.

3. الخوري منير خير الله، المجمع اللبنانيّ والمجامع اللبنانيّة التي عقدت لتحضيره ولتطبيقه، لقاء الشبيبة الرابع في أبرشيّة جونيه المارونيّة، 1998.

4. الأب جان باتيست كونيار، وصف مختصر لحبل لبنان المقدّس وسكّانه الموارنة، باريس 1671.

5. المرجع ذاته.

6. المرجع ذاته.

7. الأب أنطونيو دي ارندا، معلومات حقيقيّة عن الأرض المقدّسة، في جبل لبنان والبطريرك وأمّة الموارنة الذين يقطنونه، 1563.

8. الدكتور عصام خليفة، أبحاث في تاريخ لبنان المعاصر، دار الجبل، بيروت: حلقات المجمع المارونيّ:

  • أصحاب الصلاة وهم يُشكّلون من الجهاز الإكليريكيّ.
  • أهل المناصب والأعيان.
  • العوام الذين يعملون في الزراعة.

9. الخوري منير خير الله، المجمع اللبنانيّ والمجامع المارونيّة التي عُقدت لتحضيره ولتطبيقه، لقاء الشبيبة الرابع في أبرشيّة جونية المارونيّة 1998.

10. يوحنّا بولس الثاني 20\12\85.

11. يوحنّا بولس الثاني، العبور إلى الرجاء.

12. المطران جورج اسكندر، المؤتمر الأوّل للبطاركة والأساقفة الكاثوليك في الشرق الأوسط 1999.

13. الخوري يواكيم مبارك، المسيرة المجمعيّة المارونيّة في نطاقيّ المشرق الأنطاكيّ والانتشار المسكونيّ، مجلة المنارة، العدد الأوّل 1987.

14. البيان الختاميّ لمؤتمر الشبيبة الطالبة المسيحيّة المنعقد في 29-31/12/1968 في دير يسوع الملك.

15. الخوري يواكيم مبارك، المسيرة المجمعيّة المارونيّة في نطاقي المشرق الأنطاكيّ والانتشار المسكونيّ، مجلة المنارة، العدد الأوّل، 1987.

16. المرجع ذاته.

17. البيان الختامي للمؤتمر الأوّل للشباب الكاثوليكيّ في الشرق الأوسط، المنعقد بدعوة من مجلس بطاركة الشرق الكاثوليك، من 21 إلى 24 أيلول 2001.

18. المطران أنطوان حميد موراني، مسيرتي الذاتيّة في اتّصالها بالعالم العربيّ، محاضرة ألقيت في 18/10/2001 في إطار سلسلة الرابطة المارونيّة.

19. المرجع ذاته.

20. سلسلة التفاعل الإسلاميّ المسيحيّ، تحدّيات التفاهم المتبادل، طلاّب مسيحيّون ومسلمون وجهًا لوجه، دار المشرق ـ 2001.

21. إنتظارات الشبيبة ببادرة من مركز الدراسات والأبحاث المشرقيّة – الرهبنة الأنطونيّة، وحلقات الحوار الإسلاميّ المسيحيّ في مركز الدراسات الإسلاميّة المسيحيّة في جامعة القديس يوسف، وورشة الحوار الإسلاميّ المسيحيّ في المجلس الرسوليّ العلمانيّ في لبنان، وورشة الحوار بين الأديان التي ترعاها جمعيّة التسلّح الخلقيّ.

22. بعض مما جاء في توصيات وبيانات إنتظارات الشبيبة.

23. الصليبي، البطريركيّة المارونيّة في تاريخ الشرق العربيّ، مجلة نور وحياة، 1975، صفحة 45.

24. المطران أنطوان حميد موراني، مسيرتي الذاتيّة في اتصالها بالعالم العربيّ، محاضرة ألقيت في 18/10/2001 في إطار سلسلة محاضرات الرابطة المارونيّة.