كنيسة الرجاء

توطئة

  1. يحمل النصّ الأوّل عنوان: “كنيسة الرجاء“، لأنّه بمثابة الروح لكلّ النصوص وللمسيرة المجمعيّة بأكملها. فالكنيسة بطبيعتها مشدودة إلى الأمام، إلى اكتمال الملكوت الذي دعا السيّد المسيح إلى الإنتماء إليه، ووضع له الأسس والمبادئ ليهتدي بها كلّ من يؤمن به. والكنيسة المارونيّة تبغي، من خلال مجمعها، أن تقوم بعمليّة تجدّدٍ روحيّ يشمل نواحي حياتها المتعدّدة، موطِّدة رجاءها على المسيح، بالرغم من كلّ ما تعرّض له مؤمنوها من خيبات أملٍ وصعوبات على أكثر من صعيد. غير أنّها تتّكل على قوّة الروح القدس الذي يعضدها في مسيرتها ويبعث فيها الرجاء.
  2. لذلك يعود بنا هذا النصّ إلى بعض المصادر في تراثنا المارونيّ، ليبرز ما فيها من نظرةِ شاملة إلى الرجاء المبنيّ على الثقة الكاملة بالربّ وبمواعيده الصادقة. لن يتوقف النصّ على مباحثات لاهوتيّة معمّقة في الرجاء الذي هو من الفضائل الإلهيّة الثلاث إلى جانب الإيمان والمحبّة، بل يَستنير بنصوصٍ ليتورجيّة عن الرجاء، ثم يحلّل الواقع الراهن بما يثيره من هواجس وقلق، وبما يحمله من علامات رجاءٍ تزخر بها كنيستنا ليستشرف مستقبل الرجاء الذي كان هذا المجمع من أهمّ تجلّياته.
  3. ويعتمد النصّ المحاور نفسها التي ستُعتمد في كلّ النصوص (الماضي والحاضر والمستقبل)، لأنّ المسيحيّين عامةً – والموارنة خاصةً – هم أبناء التاريخ، أبناء المبادرة الإلهيّة في الخلق كما في الخلاص؛ فرجاؤهم متأصّل في هذا التدبير الإلهيّ، الذي من سماته أمانة الله لوعوده التي لا بدّ لها من أن تتحقّق مهما بَدَت الظروف والأحداث معاكسة لها. لذلك تعتبر الذاكرة التاريخيّة من رافعات الرجاء. وعندما يستعرض المؤمنون تاريخ الخلاص، وتاريخ كنيستهم بالذّات، يكتشفون أنّهم أيضًا هم أبناء الوعد الذي بدأ مع ابراهيم وتحقّق في المسيح، ويبلغ ذروته في الملكوت السماويّ. ولذلك يتمسّكون بالرجاء الذي لا يخيّب صاحبه، لأنّ ينبوعه ومرتكزه في الله. وهذا لا يعني إطلاقًا الهروب أو التهرّب من قساوة الواقع، بل جبهه بإيمانٍ والتزام حتّى ما يُعتبر نقمة يتحوّل إلى نعمة، وذلك بقوّة الروح القدس الذي أفاضه الله في قلوبنا، حتّى يكون الأساس الراسخ لرجائنا.

أوّلاً: الرجاء في بعض النصوص الليتورجيّة

  1. غنيّة نصوصنا الليتورجيّة بموضوع الرجاء، لأنّها مشبعة من نصوص الكتاب المقدّس وأحداثه. ومن الصّعب جدًّا، في إطار نصّ مجمعيّ محدّد، الوقوف على كلّ ما تتضمّنه هذه النصوص. لذلك كان لا بدّ من اعتماد نموذج منها ألا وهو صلاة الفرض الأسبوعيّة في الزمن العاديّ، -أو الشحيمة- وهي كافية لتعطي فكرةً واضحة عن مفهوم الرجاء فيها وعن مضامينه وما يفتحه من آفاق. ولمزيد من الوضوح، يمكن تقسيم الموضوع إلى أربعة أقسام:

1. المسيح هو الرجاء                            

  1. كثيرةٌ هي النصوص التي تتحدّث عن المسيح كرجاءٍ وحيدٍ للمؤمنين، لأنّه مخلّص العالم، ولا يخيّب، بالتالي، المتّكلين عليه. “المجد لمراحمك أيّها المسيح ملكنا، يا ابن الله الذي يَسجد له كلّ مخلوق. فأنت ملكنا، وأنت إلهنا، وأنت علّة حياتنا، وأنت رجاؤنا العظيم” (صباح الخميس: سواغيت) “وأنت ذخرنا، وكنـزنا، ودرّتنا الكريمة وإكليلنا وتاجنا” (الخميس: الساعة التاسعة، فروميون).

غير أنّ أوصاف المسيح بالنور والقيامة والحياة، والأعمال التي قام بها في حياته، والدّعوات التي أطلقها للاتّكال عليه، تشجّع المؤمنين على الالتجاء إليه وطلب معونته: “لا نعرف بابًا آخر نقرعه غير بابك يا الله، لأنّك من فمك المقدّس قلت: أُدعوا فأستجيب، إقرعوا، فأفتح باب المراحم” (مساء السبت، اللحن الأوّل).

وتزخر الصلوات باستذكار مآثر الله في العهد القديم والعهد الجديد، طلبًا لتدخّله الآن. فيُذكر ظهور المسيح للرسل وتسكين العاصفة، وتوفير الخلاص لدانيال وفتيان آل حننيا: “فاستَجِبْنا على مثالهم أيّها الصالح والبشوش، واقبَل صلواتنا مثلهم، واسترْنا تحت أكنافك يوم ظهورك أيّها الإله، لأنّ رجاءنا هو بك، واتّكالنا عليك، وإيّاك ندعو يا ربّنا وإلهنا لك المجد” (ليل الاثنين، القومة الرابعة).

وكم من نصوصٍ هي بمثابة تذكير لله بأنّه استجاب صلوات الكثيرين، فلا داعي لئلاّ يستجيب من يلجأون إليه الآن لأنّه متّكلهم ورجاؤهم.

2. صعوبات الرجاء

  1. والرجاء يرتكز على وعود الربّ بالتطويبات وحفظ الوصايا وحمل نيره لنيل الملكوت: “أهّلنا أيّها الربّ الإله أن نداوم على اشتهاء الملكوت السماويّ الذي وعدتنا به، ونشتاق بلهفةٍ الى التطويبات السعيدة التي أعدَدْتَها لنا” (مساء الأربعاء)، فرجاء الوعود تعزية: “عزّنا يا ربّ برجاء وعودك السخيّة، وفرّج عنّا هموم التجارب والأحزان المحيطة بنا… وهَبْنا أن نسير في طريق وصاياك” (مساء الجمعة). غير أنّ المؤمن والجماعة على تنوّعها تعترضهم صعوبات. بعضها يأتي من داخل الإنسان الذي يهتمّ بأمور الدنيا ومغرياتها، فينسى الله ويرتكب الخطايا؛ وهنا يقارن الخاطئ بين ما هو عليه من شقاءٍ وما هو عليه الله من رحمةٍ وحنان فيذكره: “يسبّحك شقّي لأنّك شملته برحماتك من حيث لا يستحقّ. ومن لا شيء جعله حنانك شيئًا عظيمًا. خلقْته بنعمةٍ منك، وخَلّصْته بالمراحم، ورَئِفْت به بمحبّة منك…” (ثالثة الإثنين). كما يتذكّر غفران الربّ للخاطئة، فيناجيه: “أيّها الربّ ربّنا دَعتكَ الخاطئة، بالدموع والتنهّدات المفعمة خشوعًا، فغفرت لها ذنوبها وخطاياها بغزارة مراحمك، وجعلت بها رجاء لكلّ التائبين” (ستّار الإثنين).

لذلك كانت هناك دعوة إلى التيقّظ وعدم الانزلاق وراء المغريات. وهي تستند إلى التأمّل بزوال العالم ونسيان الجبابرة الذين حكموه والإقلاع عن الوقوع في شرك الدنيا. بالمقابل، هناك تذكير بالملكوت الذي يستدعي السهر كالعذارى الحكيمات وإبقاء المصابيح مضاءة بانتظار العريس، أيّ المسيح الآتي، الذي يبهج كلّ الذين انتظروه، فيدخلهم ويقيمهم عن يمينه ويورثهم الحياة الجديدة.

وبعض الصعوبات الأخرى تأتي من الخارج؛ فالكنيسة محاطة بالضيقات من كلّ الجهات؛ لذلك تصرخ الى الربّ حتّى يرحمها وينجّيها: “إنّ الكنيسة تصرخ إليك بالألم والدّموع لأجل بنيها المعذّبين بكلّ الأحزان؛ بالجوع والأوبئة والعذابات المرّة والآلام الشديدة من المضطّهدين. فلتُظهِرْ يا ربّ نعمتك، وليُدرِكْ خلاصك السَّاجدين لك، فيرتّلْ لك المجد والشكر جميع الشعوب” (مساء الثلاثاء).

“أمّن يا ربّ أقاصي المسكونة، ولاشِ الحروب والخصومات من كلّ الخليقة، واحفظ الكنائس والأديار… وكنّ قيّمًا على شعبك ومدبّرًا” (صباح الأربعاء، النشيد الثالث).

وبالرغم من كلّ الصعوبات، يبقى المسيح “متّكل الأبرار، ورجاء الصدّيقين، والملجأ العظيم للمؤمنين” (مساء السبت)؛ لذلك يلجأون إليه لينصرهم: “أيّها المسيح الملك، أنت رجاء المؤمنين، وأنت ناصرنا. إيّاك ندعو كلّ ساعة. فهلمّ، يا ربّ، لمساعدتنا، وشدّدنا بحسب عادتك، فنرتّل لسيادتك المجد في كلّ حين” (مساء الأحد).

3. رجاء الشّهداء والأموات

  1. قد تتحوّل الصعوبات والمضايقات التي يتعرّض لها المؤمنون الى اضطّهادات يذهب ضحيّتها أبرياء، فيصبحون شهداء. فما هو السبب الذي يدفع بهؤلاء إلى تحدّي العذابات ومواجهة الموت بجرأة وإقدام وتهليل ؟ السبب الوحيد الذي تورده النصوص هو أنّ الروح عضدهم فاستشهدوا على رجائه: “سلّحت رسلك وشهداءك القديسين ليجاهدوا الجهاد الحسن… ويختموا إيمانهم الراسخ… إجعلنا شركاء آلامهم ومجدهم… لنتسارع إلى رجائك بتوسّطهم… ونتوقّع معونتك. وإليك نلتجئ. فكنْ لنا، يا ربّ، معينًا في الضيقات، ومعزّيًا في الشدائد، وملجأً من المضطّهدين، ومنقذًا من البلايا، وطبيبًا في الأمراض، وزادًا وقت الحاجة… فإنّك ملجأ وخلاص من يستغيثون بك” (ليل الأحد القومة الثانية للشهداء). علمًا أن القومة الثانية من صلوات الليل مكرّسة دائمًا للشهداء.

إنّ الرجاء الذي يغمر قلوب الشهداء، قاد إلى اعتماد ذكرهم بصورة دائمة في الفرض المارونيّ الذي خصّهم بالمقطع قبل الأخير من أناشيد الصلاة الكنسيّة.

  1. غير أن ما يلفت الانتباه بامتياز هو الرجاء الذي يحيط بالموتى في الصلاة المارونيّة. فالموتى على رجاء المسيح رقدوا، وهم ينتظرون ليقيمهم، لأنّه هو “مقيم المقبورين ورجاء الأحياء والخلاص لجميع الناس” (ليل الأحد، المقدّمة الثالثة). “أيّها الحيّ الذي نزل الى مثوى الأموات وأقام وأحيا ميتتنا، وبشّر أهل القبور بالرجاء، بك يقوم الأموات الذين أكلوا جسدك الأقدس وشربوا دمك الغافر” (مساء الأربعاء، اللحن الأول).

ورجاء الأموات بالقيامة يرتكز على الثوابت التالية: المعموديّة، القربان المقدّس المطمور في جسم الانسان، وكأنّه خميرة القيامة، الإيمان الصادق، والمسيح القائم من الموت. ولا تغفل النصوص ما يرافق الموت من حزنٍ وألمٍ وتشويه، غير أنّ ذلك عابر إذا ما قورن بفرح القيامة: “سلامٌ معكم أيّها الأموات الذين رقدوا بالمسيح بالرجاء الوطيد، فلا يُحزنكم فساد جمال وجوهكم، لأنّه سيتجدّد، وترثون الملكوت” (ستّار الجمعة).

4. الرؤية الكنسيّة الشاملة

  1. لا عجب في أن يرتكز الرجاء على المسيح ويرتبط بالإيمان والمحبّة وبمواعيد الله، فيأتي نتيجة لما يتردّد في الصلاة المارونيّة من ذكرٍ دائمٍ للتدبير الإلهيّ في كلّ مراحله، وما حفل به من أعمال الله المذهلة التي تخلق الثقة في نفوس المؤمنين، والاتّكال على الربّ، وانتظار تحقيق وعوده. غير أنّ هناك بعدًا آخر يرتبط به الرجاء، ألا وهو البعد الكنسيّ أو الرؤية الكنسيّة الشاملة. ويبدو جليًّا أنّ الصّلوات المارونيّة بمعظمها، وخاصّة في ختامها، تضع المؤمنين في علاقةٍ مع كلّ أبناء الكنيسة الذين “حسنوا لدى الله من آدم حتى اليوم”. وتحتلّ العذراء مريم مركز الصدارة، “لأنَّ الله رجاء الجميع، نزل بواسطتها ليجعل الرجاء لمقطوعي الرجاء” (المقدّمة الأولى، ليل الأربعاء).

 وكيف لا يتقوّى المؤمنون ويعتصمون بالرجاء، عندما تتضمّن صلواتهم المتكرّرة ذكر الأنبياء والرسل والشّهداء والمعترفين والكهنة، والرعاة والملافنة والموتى، والبيعة والأديار والمذابح… والبتولين والأعفاء والصوّام والزهّاد والنسّاك (ليل الأربعاء، المقدّمة الرابعة). هذه القافلة من الشهود قد أتمّوا سعيهم وجهادهم، وهم شفعاء لدى الله من أجل إخوتهم الذين لا يزالون يجاهدون في العالم، منتظرين لقيا المسيح الذي على رجائه يحيون.

وكم من مرّة ورد ذكر مار يعقوب ومار مارون ومار إفرام ورفاقهم لتذكير الموارنة بأنهم ينتسبون إلى عائلة القديسين الأقرب إليهم، وكانوا مثلاً في التوكّل على الربّ. غير أنَّ ذروة البعد الكنسيّ تتجلّى في ختام الصلاة اليوميّة: “ارحم رعيتك بصلوات الأمّ التي ولدتك والقديسين، وبصلوات الأنبياء والرّسل والشّهداء والمعترفين بك، والأبرار والكهنة والآباء القديسين، والرعاة الصادقين والملافنة، وبصلوات مريم والقديسين”: واحفظنا باسمك الحيّ القدّوس من الشرّير ولا تدخلنا التجربة، لأنَّ رجانا كلّ ساعة عليك، وإيّاك ندعو، يا ربّنا وإلهنا، لك المجد إلى الأبد”.

  1. ولا يمكن إغفال ما يتضمّنه القدّاس من تمسّك بالرجاء، مرتكز على القيامة، عندما يعلن الشعب، بعد كلام التأسيس، جوابًا على ما يقوله الكاهن: كلّما كمّلتم هذه الأسرار، إصنعوا ذلك لذكري: “نذكر موتك يا رب، ونعترف بقيامتك، وننتظر مجيئك”. إنها محطّات ثلاث في التدبير الإلهيّ تتنظّم على إيقاعها حياة المؤمنين ورجاؤهم: فالموت يمثّل الشقاء والآلام وزوال الحياة؛ أمّا القيامة فهي الضمانة التي تبيّن للمؤمن أنّ الموت ليس نهاية كلّ شيء؛ بل هو معبر إلزاميّ إلى الحياة. وما بين هذين الحدّين، تجري الحياة المسيحيّة ينعشها انتظار مجيء الرب. والانتظار علامةٌ من علامات الرجاء يدفع بالمؤمنين على حمل الصليب واجتياز الموت مع القائم من الموت والمنتصر عليه، لأنّه “سيأتي بمجده العظيم وينير العيون التي انتظرته… وبنوره البهيّ يبهجنا” (نشيد النور لمار أفرام).
  2. الإنشداد إلى الملكوت السماويّ، والرغبة الملحّة في تحقيق هذا الملكوت، عنوانان أساسيّان في الفرض المارونيّ. هناك وعيٌ اسكتولوجيّ يملأ الجماعة الليتورجيّة، وتعبّر عنه النصوص، كالآتي: “أُمْزُج يا ربّ، ألحان تسابيحنا وترانيم تهاليلنا في هذا الصباح، بألحان الجموع السماويّة في بيعة أورشليم العُليا (صباح الأربعاء)”.
  3. هذا هو الجوّ العام الذي عاش فيه الموارنة. فكان الرجاء يرسّخ فيهم الإيمان، بالرغم مما يعترضهم من شدائد، ويتعرضون له من مضايقات واضطّهاد، لأنّ المقاييس التي اعتمدوها في حياتهم لم تكن بشريّة بحتة، بل “سماويّة”، لأنّ قلوبهم كانت ترتوي من تمثّلهم بالمسيح، وبالقديسين، وتشدّ بهم إلى فوق، حيث ينتظرون خلاصهم من الرب. وكانت حياتهم التي يعيشونها على وقع الصّلوات والتراتيل، في الكنيسة والبيت، مدوزنة على وعود الربّ وانتظاره، وعلى تراث الآباء القديسين. ولذلك طلبوا إلى الروح القدس: “رسّخ في عقولنا الإيمان الصحيح، وأضرمنا بنار محبتك الوهّاجة، ووطّد في قلوبنا الرجاء الصالح والعزاء القويّ الذي يحملنا بعيدًا عن هذا العالم الباطل” (مساء أحد العنصرة).

ثانيًا: الرجاء، هواجس وعلامات

  1. لقد تبدّلت اليومَ الأجواء التي عاش فيها الموارنة قديمًا والتي اتّسمت بروحانيّة العمل والصلاة، على الصعيد الرعويّ والكنسيّ. وزال العالم القديم بتقاليده وممارساته التي كانت تشكّل لهم إطارًا يجمعهم ويحصّنهم. ودخلوا في عالم، أو عوالم جديدة، لها مقاييسها، وفي مجتمعات متعدّدة الانتماء الدينيّ والثقافيّ، فاختلطوا بغيرهم من الناس الذين لا يشاطرونهم رؤيتهم، وخضعوا لأنظمة عمل ومصالح نقلتهم من حال إلى أخرى. فالحياة في المدينة هي غير ما كانت عليه في القرية؛ وبلدان الانتشار هي غير بلدان النطاق الأنطاكيّ، وخاصّة لبنان: لقد وضعهم تبدّل الأحوال ونمط العيش في مواجهة متطلّبات جديدة بلبلت لديهم الكثير من مقاييس كانوا قد اعتمدوها في السابق.
  2. واختبر الموارنة، ولاسيّما في لبنان، مآسي ونكبات وقاسوا مظالم التهجير، والتشتّت والتشرذم، ومرّوا في خيبات متنوّعة، منها السياسيّ ومنها الاجتماعيّ، وحلّ اليأس في قلوب الكثيرين، لأنَّ أحلامهم تحطّمت، وآمالهم خابت. لذلك تساءلوا عن المستقبل والمصير، والمرارة تحزّ في نفوسهم. وسادت صفوفهم، كبارًا وصغارًا، بلبلةٌ، وتسرّب الشكّ إلى الأذهان. ما عدا قلّة ظلّت متمسّكة بحبل الرجاء.

وفي هذه الحالة: طرح سؤال: لماذا وَصلنا إلى ما وصلنا إليه، إذا كان الموارنة حقًا هم أبناء الرجاء؟

  1. وهنا لا بدّ من تمييز أساسيّ بين الرجاء والآمال البشريّة:

فالرجاء يتناول كلّ ما له علاقة بحياة الإيمان على كل المستويات، ولاسيّما الروحيّة منها. فمن يضع رجاءه في الله، وفي كلّ ما يقوله الله ويرشد إليه، وإن بدا عصيًّا على الفهم، يبقى ثابتًا وإن خضع لامتحانٍ قاسٍ، لأنّ الامتحان يؤدّي إلى الثبات والتمسّك بمواعيد الله. وهذا ما تجلّى في موقف الشهداء الذين آثروا الموت على الكُفر بالمسيح، معتبرين أن الموت مدخل إلى الحياة، بينما الكُفر بالمسيح يبعدهم عنه إلى الأبد. ولقد عبّر القديس بولس أفضل تعبير عن نوعية هذا الرجاء عندما قال: “نفخر بالرجاء لمجد الله. وعدا ذلك فإننا نفخر بشدائدنا لعلمنا أن الشدّة تلد الصبر والصبر، يلد الاختبار والإختبار، يلد الرجاء، والرجاء لا يخيب صاحبه، لأنّ محبّة الله أفيضت في قلوبنا بالروح القدس الذي وُهب لنا” (رو 5/2 – 5).

أمّا الآمال البشريّة فهي تنطلق من فكر الإنسان وحساباته والمشاريع التي يخطّط لها. ويمكن لهذه الآمال أن تتحقّق، إذا توفّرت لها الظروف الملائمة، كما يمكن لها أن تفشل لأسباب مرتبطة بالإنسان نفسه أو خارجة عن إرادته. في حال النجاح، يسعد الإنسان ويطمئن ويخطّط لمستقبلٍ أفضل، غير عابئ بما يُخبئ له هذا المستقبل الذي لا يستطيع التحكّم به، (مثل الغنيّ الجاهل في الإنجيل). أمّا في حال الفشل، فييأس الإنسان ويختبر الخيبة. وإذا ما تكرّر الفشل وتحكّم اليأس بصاحبه، فقد يؤدّي به إلى القعود عن العمل وإلى التقهقر والانتحار.

  1. وإذا ما طبّق هذا التمييز على وضع الكنيسة المارونيّة، خاصّة في لبنان في محنة الحرب الأخيرة، لبدا واضحًا أن التباسًا قد حصل في أذهان الكثيرين بين الرجاء المسيحيّ والآمال البشريّة:

فمنهم من ظلّ صامدًا معتصمًا بالإيمان ومتمسّكًا بالرجاء وتجاوب مع دعوة البطاركة والأساقفة الكاثوليك في رسائلهم وبياناتهم؛ وتجلّى ذلك في الإعداد للسينودس من أجل لبنان وفي تقبّل الإرشاد الرسوليّ الذي أعقبه: “رجاء جديد للبنان” الذي سلّمه المثلث الرحمات قداسة البابا يوحنا بولس الثاني إلى المسيحيّين والمواطنين في زيارته إلى لبنان في أيار سنة 1997. وصار هذا الإرشاد مرجعًا لتشديد العزائم وترسيخ الإيمان والرجاء.

لكنّ هناك أناس بَلْبَلتْهم الإنتكاسات السياسيّة والمآسي الاجتماعيّة، وولّدت لديهم الخيبات، لأن الطموحات والآمال البشريّة أخفقت إخفاقًا ذريعًا. ولقد زال ما اعتبروه ضمانة للمسيحييّن في نظامٍ سياسيٍّ قابل للتطوير. وأخذ الأفرقاء يتبادلون التِّهَم، ويلقون مسؤولية الفشل بعضهم على بعض، ولم ينجُ المسؤولون الكنسيّون أنفسهم من هذا الواقع.

مع ذلك، لا بدّ من التشديد على أنّ هناك تداخلاً بين الرجاء المسيحيّ والآمال البشريّة، لأن المسيحيّ يعيش كغيره من الناس، وله طموحاته وآماله التي يجسّدها في مشاريع، تنفحها الروح المسيحيّة التي تمكّنه من رؤية أبعادها واطلالاتها كافّة، فلا يبقى أسير الآفاق الأرضيّة المحدودة. وكذلك الجماعة المؤمنة، أيّ الكنيسة، فإنّها تلتزم بما يهمّ الإنسان من آمال وطموحات، إنما غايتها أن تساعده حتى ينطلق منها لتحقيق المشروع الإلهيّ: خلاص الإنسان والإنسانيّة.

  1. لا مجال هنا لتحديد المسؤوليات عمّا جرى. غير أنّه، بالرغم من كلّ السلبيّات التي حلّت بالموارنة، لا بدّ من الإقرار بأنّ علامات الرجاء في الكنيسة المارونيّة ظلّت هي الأقوى والأثبت، وهي التي حفظتها من الضياع لتطلقها من جديد بثقة ورجاء أكيدين معتصمة بالإيمان الراسخ.

ومن علامات الرجاء:

1. انتشار الكنيسة

  1. ان النكبات والنكسات محنة، ولكنّها تحوّلت في الكنيسة المارونيّة إلى نعمة، لأنّها أدّت الى انتشارها، وأخرجتها من نطاق جغرافيّ ووطنيّ محدّد. وهذا الانتشار يضفي على الكنيسة بُعدًا جامعًا، ويضعها في مصافّ الكنائس الأخرى، تدليلاً على تنوّع الكنيسة وتعدّدها في وحدة لا تنفصم. غير أنّ هذا الانتشار يحمّل الكنيسة المارونيّة رسالة الأصالة لتراثها لتتفاعل وتتناغم مع التراثات الكنسيّة الأخرى. فلا تكتفي بأن تكون كنيسة العصور القديمة، بل تعمل على أن تخرج من ذخائرها الجديد الذي يتلائم وحاجات إنسان اليوم، مارونيًّا كان أم غير مارونيّ. ولا يندرج هذا المطلب في إطار التمنّيات الخياليّة، بل يرتكز على ما يزخر به التراث السريانيّ الأنطاكيّ من كنوز يثمّنها كل من يطلّع عليها. ولقد لعبت الكنيسة المارونيّة دور الانفتاح الثقافيّ، وأسهم بعض أبنائها في النهضة العربيّة، في ظلّ ظروف سياسيّة واجتماعيّة غير موآتية.

2. التمسّك بالمركزيّة البطريركيّة

  1. لقد أعرب الموارنة، أينما وُجدوا، عن تمسّكهم بالمركزيّة البطريركيّة، وعن تعلّقهم بشخص البطريرك كضامنٍ لوحدتهم ورمزٍ لها. ولهذا التمسّك وجهان متلازمان: فإنّه، من جهة، يقي من التشرذم الكنسيّ. وهذا يعني أنْ لا مجال لأيّة مجموعة مارونيّة، مهما تعاظمت، أن تفكّر في الانفصال عن الكنيسة الأمّ، لأنّها تفقد هوّيتها، وتضعف الأمّ، وتهدّدها بالاضمحلال. وإنّه، من جهة ثانية، يُدَعِّم الوحدة ويُفعّلها حتى تقوى العلاقات وتترسّخ بين البطريركيّة وسائر الأبرشيّات والرهبانيّات والمؤسّسات الكنسيّة على أنواعها. ففي التبادل إثراء، وفي التواصل حياة وتقدّم وتطوّر، وفي التعاون والاتّحاد قوّة واستثمار طاقات لخير الجميع.

3. وعي الخصوصيّة ونشر التراث

  1. لم يتسنّ للموارنة أن وَعُوا خصوصيّتهم واضطّلعوا –على الأقلّ قسمٍ منهم– على تراثهم، وأدركوا ضرورة المحافظة عليه ونشره، كما حدث لهم في الزمن الحاضر. كثيرون منهم من بَحّاثة وعلماء، قديمًا وحديثًا، أسهموا إسهامًا مباشرًا في هذه الورشة. غير أنّ العمل لا يزال في بداياته. والهدف منه مزدوج: توفير الغذاء الثقافيّ والروحيّ واللاهوتيّ لأبناء هذا التراث، بالتعاون مع الكنائس الأنطاكيّة الشقيقة؛ والتعريف بهذا التراث ليكون رافدًا من الروافد التي تغذّي فكر الكنيسة الجامعة. إنّ وعي الخصوصيّة لا يقود إلى التقوقع أو التشاوف؛ بل يؤدّي إلى رفع الشكر الدائم للرّب على عنايته التي غمرت هذه الكنيسة عبر العصور وإلى الأمانة له عبر الالتزام بها.

4. حسّ الإنتماء الكنسيّ

  1. إنّ ظاهرة التجاوب مع المجمع البطريركيّ الذي لاقى ترحيبًا به في كلّ الأوساط الإكليريكيّة والرهبانيّة والعلمانيّة برهان واضح على أنّ الموارنة يحسّون بالانتماء العميق إلى كنيستهم. وظهر هذا التجاوب على عدّة مستويات، خاصّة بالصلاة والتفكير معًا وبالأجوبة على الأسئلة، وتقديم الاقتراحات والمشاريع، وكتابة المقالات واهتمام الإعلام بالموضوعات المطروحة، وإقامة الندوات حولها وتوزيع المنشورات. وتابع المؤمنون أعمال المجمع لدوراته، وتساءلوا عن مستقبله وعمّا سيصدر عنه من مقررات.

من المؤكّد أنّ هذه الظاهرة لم تعمّم إلاّ بمقدار. ولكنّها أظهرت أنّ المؤمنين ليسوا بغريبين عن كنيستهم، إن هي عرفت أن تقدّم لهم ما يحتاجون إليه من فكرٍ ورؤيةٍ وتوجيهٍ ومشروع يستقطبهم ليكونوا فاعلين في كنيستهم. وهذا يرتّب على المسؤولين في الكنيسة أن يستثمروا طاقات العلمانيين، لأنّ عليهم أيضًا تقع مسؤوليّة بنيان الكنيسة.

5. جاذبيّة الكنيسة

  1. ما شاخت الكنيسة، بالرغم من تقادم عهدها وما حلّ بشعبها من مآسٍ عبر العصور. بل ازدهرت وأثمرت، فكان منها القديسون الذين رصّعوا جبينها، منهم من أُعلنت قداستهم ومنهم من يعرفهم الله ومحيطهم الذي أشعّوا فيه. وهؤلاء هم الأكثر عددًا، لأنّهم أتمّوا إرادة الله في مساعيهم ومشاغلهم اليوميّة.

لا تزال هذه الكنيسة تجذب الشبّان والشابات إلى تكريس حياتهم للمسيح وخدمته في الحياة الكهنوتيّة والرهبانيّة. ولا تزال تغذّي المؤمنين، بما تقدّمه لهم في طقوسها وصلواتها من غذاء روحيّ، خاصة بعد التجديد الليتورجيّ الذي تقوم به الكنيسة منذ أعوام. وهذا يحتّم إنعاش الاحتفالات وإطلاق الصلاة الخورسيّة الجماعيّة في الرعايا ليشترك فيها المؤمنون ويتواصلوا مع تراث قديم أثبت جدواه تقوى ومعرفة وقداسة.

وطالت النهضة الروحيّة الشبيبة الذين ينتمون إلى مختلف المنظّمات والحركات الرسوليّة ويقومون بنشاطات متنوّعة في إطار الرعيّة وخارجها، متحسّسين حاجات المجتمع، ومدركين لمسؤولياتهم فيه. وهناك توق إلى العودة إلى الينابيع الإنجيليّة وإلى اكتشاف وجه يسوع واتِّباعه.

ولا تزال الكنيسة، في شخص رعاتها، مرجعًا وملاذًا يهرع إليه كلّ الذين يريدون أن يسمعوا كلمة الحقّ والدّفاع عن الإنسان وكرامته وحقوقه وحقّ الوطن في الحياة الحرّة والسيادة.

وتبقى الكنيسة جذّابةً بقدر أمانتها للمسيح وانعكاس وجهه في وجه أبنائها، أيًّا كان موقعهم في الكنيسة ومكانتهم في المجتمع، وذلك لأنّ رجاءها هو في المسيح وفي الروح الذي يجدّدها كلّ يوم.

6. التجدّد الروحيّ

  1. هناك توق إلى تجدّد روحيّ وإلى عودة إلى أصالة روحيّة ينبعان من معرفة للمسيح واكتشافه كما هو في الإنجيل. لذلك تلاقي المبادرات التثقيفيّة الروحيّة لدى الكبار والشباب رواجًا، ويلتزم قسم من الشبيبة بإيمانهم عن وعي ويحاولون أن يعيشوه في حياتهم الخاصة والجماعيّة بعد ان اكتشفوا محبّة المسيح لهم وخَبِروا أهميّة التزامهم به. والدليل على ذلك لقاءات الشبيبة على مستوى الأبرشيات وانتماءاتهم الرعويّة الناشطة، وتَوْقهم إلى حياةٍ روحيّة أصيلة، بالعودة إلى القديسين المورانة شربل ورفقا ونعمة الله الذين يستقطبون الشباب بنوعٍ خاص، وبالسعي إلى التشبّه بهم في حياتهم اليوميّة وضمن عيالهم ومجتمعهم.

7. مبادرات تضامن

  1. لقد خَلَقَت الأزمات المتراكمة على الصعيد الاجتماعيّ مبادراتِ تضامنٍ قام بها أفراد، كما قامت بها مؤسّسات كنسيّة. وتجلّت في قيام مشاريع، وتقديم مساعدات متنوعة. وتنامى الوعي لدى كثيرين بالحاجة إلى تضافر الجهود لجبه الواقع، بدافعٍ إنسانيّ ومسيحيّ معًا، لأنّ المحبة لا تكون بالكلام، بل بالعمل والحقّ. ونشأت حملات توعية وتبرعات شملت المدارس والجامعات والرعايا، كما أدرك المربّون قيمة الالتزام الاجتماعيّ، فأخذوا يوجّهون الشبيبة للقيام بنشاطات تطوعيّة في عدّة مجالات الخدمة، استكمالاً لتنشئتهم. والتضامن الذي ينبع من الانتماء إلى جماعة كنسيّة واحدة يحتّم على أبنائها أن يولوا الأكثر فقرًا كلّ ما يستحق من اهتمام ودعم كي يبلغ مستوى إنسانيًا يمكّنه من تحقيق دعوته.

8. كنيسةٌ ذات رسالة

  1. لقد أخذ يشعر قسم من المسيحيّين، بمن فيهم الموارنة، أنّهم يحملون رسالة في هذا المحيط المشرقيّ، بالرغم من تضاؤل عددهم في بلدان تدين أكثريّة سكّانها بالدين الإسلاميّ. وهذا ما دعا إليه بطاركة الشرق الكاثوليك عندما أصدروا رسالتهم لمسيحيّ الشرق، اعتبروا فيها أن حضورهم فيه هو للشهادة والرسالة والخدمة، محذّرين فيها من خطر التقوقع والخوف والذوبان، ومن خطر الهجرة القاتلة.

ورسالة الكنيسة لها جذورها التاريخيّة ولها مبرّراتها، وإن تكن محفوفة بأخطار. ولا بدّ للموارنة خاصةً، وللمسيحييّن عامّة، من أن يُدركوا بأنّ خيار الرسالة، أي خيار البقاء في الشرق، هو خيار شخصيّ وجماعيّ. ان الجهود التي تبذل لإعادة المهجرين إلى بلداتهم، ولاسيّما المختلطة منها، تصبّ في تدعيم خيار الرسالة والعيش المشترك. لأن العيش المشترك الذي ترسى أسسه على الحوار والإحترام والتعاون لبناء وطن يسوده الحقّ والعدل وتُحترم فيه حقوق الإنسان هو من ركائز الرجاء السليم.

غير أن التشديد على رسالة الكنيسة في الشرق لا ينتقص من أهميّة رسالتها في بلدان الانتشار، شرط أن تعمل ككنيسة، بكلّ أبنائها، وفي الأمانة لتراثها، فتكون شاهدة للتعدّد في الوحدة.

9. مشاركة العلمانيّين

  1. لقد تنامى الوعي لدى العلمانيين في العقود الخمسة الأخيرة بأنّ لهم دورًا في حياة الكنيسة ورسالتها. فلم يعودوا يكتفون بدور المستهلك الذي لا يؤمّ الكنيسة إلاّ لتتميم واجب ولا يلتقي برعاتها إلاّ لتلبية حاجة. فكثيرون هم الذين يهتمّون بالأمور الكنسيّة، ويريدون أن يساهموا في حياتها وتقدّمها. ولا بدّ من الإشارة إلى حضور المرأة المميّز وتفانيها في أكثر من مجال. ولقد سَاد وعي دينيّ بفضل الانتماء إلى حركات رسوليّة، أو إلى المعاهد التثقيفيّة، بالإضافة إلى ما أدّته من خدمةٍ وسائل الإعلام الدينيّة، فنتج عن ذلك تعزيز للانتماء الكنسيّ والاستعداد للقيام بالمهمّات الكنسيّة، إذا ما دعا إليها الرعاة وفقًا للقوانين الكنسيّة الحديثة.

10. التقارب المسكونيّ

  1. شهدت السنوات الأخيرة، ولاسيّما بعد المجمع الفاتيكانيّ الثاني، مبادرات مسكونيّة متعدّدة هدفت إلى تعزيز التواصل بين المسيحيّين، وبثّ روح المحبّة والتعاون فيما بينهم، وإزالة الحواجز والأوهام التي كانت تحول دون تلاقيهم. وهذا الاتّجاه الجديد أخذ يعمّ الأوساط العلمانيّة والاكليريكيّة، ولاسيّما الشبيبة منهم. وهو مبعث رجاء كبير لما يؤدّي بنا جميعًا إلى سلوك درب الوحدة المنشودة، والشهادة معًا لرسالة المسيح الواحدة ولقِيَم إنجيله.

11. كنيسةٌ ذات بُعد مريميّ

  1. يندرج البُعد المريميّ للكنيسة في علامات الرجاء، نظرًا إلى ما تمثّله مريم كحاملة للرجاء الذي هو ابنها، ونظرًا إلى ما تحتلّه من مكانة في الصلاة المارونيّة الليتورجيّة والتراث السريانيّ اللاهوتيّ، وفي العبادات الشعبيّة والحركات الرسوليّة والأخويّات المريميّة. ولقد وُضعتْ كتب لمعالجة هذا الموضوع، فلا مجال الآن للدخول في كلّ التفاصيل. غير أنّ ما تجدر الإشارة إليه بصورةٍ عامة هو ذكر العذراء مريم الذي يتردّد دونما انقطاع في كلّ لحنٍ من ألحان صلاة الفرض، وفي ختام كلّ صلاة، وكأنّها هي التي تصلّي مع الجماعة: “تَضرعُ إليك عنّا مريم العذراء أمّك، وجوق الأنبياء والرسل والشهداء”. وتمتاز الجماعة المصليّة بإستشفاع مريم فتقول: “صلاتك معنا يا أمّ الله، صلاتك معنا، وليشفع بنا الله بصلواتك وليُسامحنا”. وتؤمن الجماعة بأنّ العذراء مريم ترافقها، لذلك تناديها:

“يا أمّ الله يا حنونة يا كنـز الرحمة والمعونة

 أنت ملجانا وعليك رجانا

 وإن كان جسمك بعيدًا منّا… صلواتك هي تصحبنا”.

فالاستغاثة بمريم أمر مألوف وتكريمها شائع، وذكرها في الأذهان والأفواه مستمرّ ولقد أفردت لها البِيت غازات المارونيّة، وصلوات السنة الطقسيّة، وصلوات الفرض اليوميّة مساحاتٍ واسعة نثرًا وشعرًا. ولا بدّ لنا هنا من أن نتذكّر كلام البطريرك الياس الحويّك في تدشين معبد سيّدة لبنان في حريصا:

” إن العواصف تتجمّع فوق رؤوسنا، إنّما العذراء التي حَرَست الجبل حتّى اليوم ستظلّ حارسة له. وكما في ليل المعركة يتناقل الجنود كلمة التعارف لئلاّ يسقطوا في الكمائن، كذلك نحن، فلنتناقل كلمة السرّ والرجاء ألا وهي: “مريم العذراء”.

ثالثًا: آفاق الرجاء

  1. إنَّ علامات الرجاء تفوق بأهمّيّتها علامات القلق والإحباط واليأس. وهي تكفي لكيّ تشكّل منطلقًا لإستشراف المستقبل بثقةٍ وإيمانٍ وجَبْه تحدّياته كأفرادٍ وككنيسة. وهذا الالتزام الجماعيّ الكنسيّ هو ضمانة لتبديد المخاوف. فالسيّد المسيح وعد كنيسته بأن أبواب الجحيم لن تقوى عليها. واذا ما شاءت كنيسة خاصّة أن تنعم بهذا الوعد، كان لزامًا عليها أن تحيا ككنيسة بكلّ فئاتها وعلى كلّ المستويات.

لذلك يجب اعتبار المجمع البطريركيّ محطّة هامّة في حياة كنيستنا، تزوّدنا بما نحتاج إليه من وسائل فكريّة وعمليّة لمتابعة ورشة التجدّد في البنيان الكنسيّ الذي نحن مؤتمنون عليه. وهذا ما يغذّي فينا الرجاء، الذي بدونه لا مستقبل لنا. والرجاء هو إلتزام؛ والإلتزام بُرهان على مصداقيّة الرجاء. وإلتزامنا ككنيسة هو أن نتابع المسيرة المجمعيّة على كلّ الصعد، متّكلين على قوّة الروح، وعلى ما حبانا الله من نعم وبركات وطاقات لنقوم بما يحمّلنا من مسوؤليات.

  1. إنّ المجمع أبان لنا أهميّة العمل معًا وأكسبنا ذهنيّة كنسيّة جديدة لا بدّ من تعميمها. فالعودة إلى ما تعنيه كلمة كنيسة واعتماد روح المشاركة والصلاة والاتّكال على الربّ وجمع الطاقات واستثمارها لما فيه خير الجماعة المؤمنة وتحقيق رسالتها، يعطينا القوة في جبه الصعوبات وتوطيد الرجاء على مواعيد الربّ. لكن علينا أن نقتنع أنّ العمل الكنسيّ المشترك يتطلّب تضحيات جمّة، منها التخلّي عن الأنانيات بكلّّ أشكالها، وتبنيّ الموقف الذي طلبه السيّد المسيح من اتباعه: الكبير فيكم فليكن لكم خادمًا، ومن فقد نفسه من أجلي فقد ربحها لحياة الأبد. هذه المتطلّبات تكسب معتنقها فرحًا واطمئنانًا لأنه يعمل باسم الربّ ولخير الكنيسة التي هو عضو فيها. فنجاح الكنيسة هو نجاح أعضائها. لذلك فالعمل الكنسيّ المشترك فيه جزيل فائدة لمن يقوم به أيضًا.
  2.  “إبقَ معنا”

هذه العبارة تَوَجّه بها تلميذا عمّاوس إلى السيّد المسيح، بعد أن شرح لهما معنى مسيرة آلامه وموته وقيامته، وفتح أذهانهما لفهم الكتب، وأيقظ في قلبهما شعلة الحبّ والرجاء، بعد الخيبة التي مُنيا بها. وهذه العبارة توّج بها المثلّث الرحمات قداسة البابا يوحنا بولس الثاني رسالته عن سنة الإفخارستيّا، التي أرادها فعل إيمان بحضور المسيح الدائم مع كنيسته في سرّ القربان المقدّس. ويمكن أن تشكّل هذه العبارة نداء الكنيسة المارونيّة في ختام مجمعها البطريركيّ إلى السيّد المسيح حتى يبقى رفيقًا لها في مسيرتها المجمعيّة التي كان شعارها: “أنا معكم إلى منتهى الأيّام؛ لا تخافوا”.

غير أنّ العبارة المقابلة التي يمكن للسيّد المسيح أن يوجّهها إلى أبناء الكنيسة فهي: “ابقوا معي”. فالاستغاثة بالمسيح كي يبقى معنا، تستدعي منّا أن نكون ونبقى معه. وهذا هو مطلبه: “اثبتوا فيّ وأنا فيكم… من يثبت فيّ وأنا فيه، يحمل ثمرًا كثيرًا، لأنّكم بدوني لا تقدرون أن تفعلوا شيئًا” (يو 15/4-5).

وهذه هي أمثولة تاريخنا ومبعث رجائنا: بقدر ما كانت كنيستنا راسخة وثابتة في المسيح، حتّى الاستشهاد، عبرت المحن والصعوبات، وأثمرت ثمار القداسة والتقدّم والتجدّد، لأن رجاءها ومعتصمها كان السيّد المسيح القائم من الموت.

وهذه أيضًا هي دعوة المستقبل التي تتوطّد في التاريخ الذي عاشته الكنيسة مع المسيح، فما خاب رجاؤها. فالمجمع البطريركيّ، بنصوصه وتوصياته، هو محكّ للكنيسة؛ فإن تقبّلته وطبّقته، كان مبعث نهضة ورجاء؛ وان أعرضت عنه، لم يُجدها نفعًا في مسيرة التجدّد.

خاتمة: شكر وفرح

  1. لا يسع الكنيسة المارونيّة، مستهدية بمثل مريم، إلاّ أن ترفع الشكر للرّبّ على كلّ ما حباها من نِعَم، وأغدق عليها من بركات، وما زوّدها به من مؤمنين ومؤمنات، كبارًا وصغارًا، ومن مسؤولين على كلّ المستويات، مكّنتها من أن تجتاز الصعوبات والمِحَن على أنواعها، فتبلغ ما بلغت إليه بشفاعة أبيها مارون وشهدائها وقديسيها.

واستذكار الماضي الكنسيّ هو استذكار لأمانة الربّ ووعوده، الذي لم يخذل كنيسته في أيّة مرحلة من مراحل تاريخها، بالرغم ممّا حفل به من مآسٍ. ولذلك تشكّل الذاكرة التاريخيّة المارونيّة الكنسيّة رافدًا مهمًا من روافد الرجاء؛ فلا بدّ من إحيائها ونقلها إلى الأجيال الجديدة، حتىّ يطلّوا منها إلى العالم الجديد. لقد قال أحد أساقفة الكنيسة اللاتينيّة، بعد زيارة قنّوبين والاطّلاع على تاريخ البطاركة والموارنة الذين سكنوا الوادي المقدّس قاديشا لمئات السنين:

“إنّ روح قاديشا يجب أن ينتقل إلى بيروت”. وكان يقصد أنّ الماضي لا يقوم بالحنين والعودة إليه بالقفز فوق الزمن وتطوّرات العصر والتسمّر في التقاليد والعادات القديمة: بل يجب استلهام ثوابت الماضي وامثولاته التي كوّنت الروحانيّة المارونيّة وبثّها في عالم اليوم، في بيروت كما في أيّ مكان يستوطنه الموارنة.

وليس هذا الكلام من مستوى الأحلام، بل من مستوى الرجاء الطموح المستند إلى الإيمان الراسخ الذي كان ذخيرة الماضي وركن الحاضر ومنعش المستقبل.

ولقد قامت مبادرات حديثة مستلهمة الماضي وثوابته لاكتشاف الأصالة الروحيّة النسكيّة المارونيّة لكيّ تكون منطلقًا لالتزامٍ مسيحيّ في عالم اليوم. إنّ روح الربّ لا يزال يعمل في الكنيسة ليجدّدها ويحييها بالرجاء، ولا ينتظر سوى التجاوب ورفع الشكر إلى من يجدّد وجه الأرض.

غير أنّ الرجاء، وبالأخصّ رجاء الكنيسة، وإن يكن نعمة من الربّ، فهو مسؤوليّة كنسيّة، يسهم فيه كلّ عضوٍ من أعضائها، بقدر ما يستقي من ينبوع الرجاء الذي هو المسيح.

والرجاء بمفهومه العميق هو أساس الفرح؛ وكلاهما من ثمار الروح. فكنيسة الرجاء هي كنيسة الشّكر وكنيسة الفرح، لأنّها راسخة في روح الربّ الذي يحييها ويسيّر خطاها، ويجدّد شبابها باستمرار.